برشلونة بعد معركة برنابيو ضاق ذرعاً بالفتى، لأن حجم الانتقادات الموجهة للنادي هائلة، من قبل الجماهير المنقسمة والصحافة المتشنجة بجميع ميولها المتباينة، تقارير حادة ومقالات متحاملة مع إبراز صور متعددة لاشتباكات مارادونا الأخيرة.
ضغوط تتصاعد من أروقة النادي وخارجه مشوبة بانفعالات مطردة. تختلط الأمور كعصي جلاد على ظهر الفتى، سياط ألسنة وأقلام مستنفرة ومستفزة، وقناعة من إدارة برشلونة بأنها غير قادرة على ضبط مزاج اللاعب المتقلب ونزقه المنفلت من كل زمام.
حلول متأرجحة، وقول الفصل متأزم، وآمال تذرها الرياح حول أغلى لاعب في العالم لجلب المسرات وتحقيق الانتصارات، بات الرهان خاسراً، حسب رؤياهم، التعليل جاهز حول سلوكه المضطرب، وبنظرهم أصبح ضبطه خارج السيطرة!
لكن الفتى الذهبي ضحية عنف وحسد منذ أن وطأت قدماه أرض الثيران الهائجة، جرجرته تحت صراعها المائج، ففي كل منازلة كروية يتلقى ضربات وحشية وأقساها التي رمته تحت لهيب المجهول، بإرادته الصلبة عاد وفي دمه حرارة انتقام.
كل فعل له ردة فعل، فحين استرجع الفتى قواه ولاحت له الفرصة، ثأر لجسده أمام مرأى الجميع وبحضور الملك، وقال قولته الأخيرة: “كانت فترتي صعبة، مظلمة، معقدة، قبل برشلونة كنت ألعب كرة قدم باستمتاع، لكني ما عشته مع برشلونة لم يكن كرة قدم أو رياضة بلغ الحد إلى توجيه الضربات إلى فمي ووجهي.. جسمي كان ينزف”.
أعصابه استنزفت، تحت وطأة حكام، وهتافات جماهير عنصرية، وأقسى مشهد كسر كاحله في ليلة ظلماء، فعلة كادت أن تنهي حياته الرياضية للأبد.
سلوك مارادونا في معركة البرنابيو انفعالي في لحظة غضب، أعمى عيونهم عن كل إيجابيات الماضي، غمامة حجبت نظرهم نحو المستقبل.
اجتمعت إدارة نادي برشلونة عدة مرات وقررت التخلص من “البيبي” بأي وسيلة، فتم عرضه للبيع، كأنه بضاعة كاسدة! لا غرابة، هذه أرض تملك إرث المتاجرة بالبشر، أسواق النخاسة تبيع وتشتري الجواري والحسان، يطاف بهن بين قصور البذخ والترف على وقع أغاني زرياب! أنغام صداحة في ساحة الرقص، تعلو مداخل الجدران جملة منقوشة “لا غالب إلا الله “، وعند الفجر حرب الطوائف تزلزل عروش حكام الأندلس، تقاتلوا فيما بينهم ظاهريا باسم الدين وفي الخفاء خوفاً من ضياع الملك، قوضوا وجودهم بأنفسهم تحت هزائم الخائبين، ذاك زمن أفلت شمسه، واليوم تغرب شمس مارادونا عن “الكامب نو”، معزوفة بكائية أندلسية لاتينية بلحن أخير.
قالها نونيز رئيس برشلونة، البيع هو المخرج من كل نقد، بل ومن كل الأزمات المتوترة بيننا وبين هذا الصعلوك.
سيق الفتى ابن 24 ربيعاً لمتجر البيع، وبمجرد شيوع الخبر، تواصلت إدارة ناد ليس من فئة الأباطرة مع إدارة برشلونة بأنها ستدفع أكبر من قيمة شرائه مقابل فسخ العقد، اشتعلت المنافسات بين عدة أندية وقطع الطريق عليهم نادٍ يتذيل القاع لا يلتفت إليه أحد، قابع في الظل منسي في ركن قصي وبعيد من سباق الدوري، سعى بكل ما أوتي من قوة رغم ضعف إمكانياته، قرر أن يشتري الفتى مهما كلف الأمر.
تناهى للأسماع وانبرى السؤال: كيف لنادٍ شبه مغمور أن يقدم على مثل هذه الفعلة؟ قيل عنهم مجانين!
الفتى راحل عن قلعة برشلونة العتيدة وأسوارها المشيدة بالبطولات، فتم ترتيب الاتفاق وجرى التوقيع على متن قارب في عرض البحر، الوجهة هذه المرة نحو الإبحار شرقاً.
ترك الفتى ميناء برشلونة وأمواجه العاتية والغادرة، وذهب لميناء آخر جنوب التراب الإيطالي، تلقفه نادٍ يدعى نابولي يحمل اسم المدينة أشهر مدن الجنوب والتي كانت ذات يوم مستعمرة إسبانية.
هب شعب نابولي عن بكرة أبيه لاستقبال الفتى كفاتح من سليل أباطرة الرومان، دخل مدينتهم ناثرين عليه أكاليل الغار، راقص الكرة في احتفالية ضخمة في ملعبهم مرتيدا شعار النادي ذي القميص السماوي، مارادونا ينتسب رسمياً لنادي نابولي المنزوي الذي ينظر إليه باستصغار من قبل أندية الشمال الإيطالي، نادٍ يصارع البقاء، ويتذيل قائمة الدوري الإيطالي منذ سنين عديدة، إن إقدام نابولي هل هي مجازفة أم مغامرة؟
بكل ترحاب دفع مبلغ 6,9 مليون جنيه استرليني وهو رقم قياسي آخر في عالم شراء اللاعبين نسبة لذلك الزمن، من أجل ماذا؟ لتدعيم قلعة متصدعة بل شبه منسية عند الجماهير الرياضية، التحدي والرؤية الصائبة أحضرته برغم محدودية الموارد وقلة الإمكانيات لدى نابولي وهو المتواضع مالياً قياساً لأندية الشمال الغنية والمترفة والتي تضم بين صفوفها أفضل لاعبي أوروبا.
دفع النادي بكل ما يملك من أجل شرائه، وبالمقابل فضل الفتى الذهاب لنابولي دون غيره من الأندية الأخرى ليس حباً للمال فقط، هناك من كان على استعداد للدفع أكثر، لكنه انحاز لحب الناس له، حيث كان أهالي نابولي يتابعونه بشوق ويتغنون بمهارته خلال مشواره مع برشلونة وتعدد إنجازاته في الملاعب الإسبانية، منذ التحاقه صيف 1982 إلى صيف 1984، فقد لعب 75 مباراة وسجل فيها 47 هدفاً، وفاز بكأس الملك والدوري الإسباني موسم 1982 وكأس السوبر الإسباني 1983، تخللتها نكبات وأفراح وقصص أحزان.
الجمهور النابولي المتعطش لرؤياه لم يصدق عينيه بأن مارادونا بلحمه وشحمه أصبح بينهم، لقد جن جنون العشاق، شعب نظر إليه كمن ملك القمر، هل يستطيع الفتى الذهبي إضاءة لياليهم المعتمة كما أضاء العبقري الرسام كارفاجيو جدران كنائس مدينة نابولي قبل 400 عام، قداس انتظار شعب لمهارات لاعب، ليس ترفاً فهم مأخوذون بجلال الفن في جميع الأزمنة.
كاتب السطور شاهد بأم عينيه اصطفاف بشر من كل أقاليم إيطاليا من أجل رؤية أعمال العبقري كارفاجيو الأصلية في مدينة ميلانو 2019 م، معرض استعادي لفنان إيطالي متفرد جمعت أعماله استعارة من مختلف متاحف أوروبا، لتكون في مكان واحد ولفترة زمنية معينة، نعم لقد وقفت منذ الساعة 11 صباحاً عند بوابة المتحف ضمن بشر مصطفين على هيئة خطوط متعرجة كالثعبان الملتوي على نفسه، انتظار لم أسأم منه بددته في التفرس حول سحنات البشر ورطانة الكلم، ونقوش الحجر وروعة المكان، حين جاء دوري للدخول نظرت للساعة، الوقت يشير إلى 5 عصراً، نعم 6 ساعات وقوفاً من أجل رؤية أعمال رسام!
إنه عبقري أحدث ثورة في عالم الفن، وكنت أتساءل ما هذا الشغف عند هؤلاء البشر لرؤية أعمال هذا الفنان المتوفرة صور أعماله في العديد من المكتبات وبعض لوحاته موزعة في متاحف المدن الإيطالية والكنائس، ما هذا الإقبال المدهش بكل طبقات المجتمع، كنت عاجزاً عن فهم ذائقة الزوار من شيوخ وشبان، ما شاهدته بنفسي موثق بكاميرتي.
إذاً لا غرابة عن ثقافة هؤلاء البشر، فهم مأخوذون بأساطير الفن ومتيمون أيضاً بأسطورة كرة القدم.