إن الحديثَ عن الحرية من المنظور الاجتماعي يُحتم علينا معرفة الارتباط الحقيقي لهذا المفهوم في خِضم الفكر الإسلامي الصحيح؛ لذا وعندما نريد تكوين فكرة صائبة تجاه هذا المصطلح ذي الحساسية الفائقة والأهمية البالغة في معناه، ولما له أيضاً من مسارات متشعبة لا يمكن فهمها إلا من خلال إدراكٍ واسعٍ وشامل وعميق لهذا المفهوم، أي (الحرية)، من وجهة نظر الشارع المقدس حتى تصبح مخرجات ونتائج جميع التصرفات والسلوكيات المنبثقة والمتمخضة عن علاقاتنا الإنسانية مع المحيطين بنا مآلها مخافة الله – جل في علاه – وضبط النفس واحترام الذات.
إذاً لا بد من الأخذ بعين البصيرة أن مفهوم الحرية هو واقع محكوم بإطار ومبادئ وقيم أخلاقية مستمدة من تعاليم إسلامية أصيلة وضّحها الباري في كتابة المقدس في سورة البقرة الآية (٢٥٦) قال تعالى: {لآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
من الآية الكريمة يتضح أن الحرية هي قدرة بني البشر على تحديد أفعالهم، بحيث يملكون إرادة سوية متزنة قادرة على المسير نحو الجميل من الأعمال التي تسودها الثقة بالله وبالذات البشرية.
والحرية في الإسلام أيضاً هي اتخاذ قرارات في جميع الأُمور المُجازة من غير التعدي على الآخرين وعلى حقوقهم، فيكون ذلك مُقيداً بالشرع وأحكامه ونواهيه، والتي تهدف إلى جلب الخير والإقلاع عن المشين من التصرفات غير اللائقة، وهذا ما يميز الحرية في الإسلام أنها ترتكز على الوسطية وحفظ الحقوق وصيانة الكرامة بحيث لا زيادة ولا نقصان.
ولكن ما هو حاصل اليوم نرى ونسمع وعلى شهود الأعيان من يتغنى بكُنية الحرية على أنها حق مكتسب يمارسه من ينتمي لتلك الأفكار الجانحة لما يسمونه هؤلاء المتحررون “الحرية الشخصية”!
نعم هي حرية شخصية – لا شك- وهم محقون بما يعتقدونه من تطبيق كل ما يرونه مناسبًا والأخذ بالأسباب في تبني أفكارهم التي يرونها من وجهة نظرهم صحيحة ومن ناحية الشكل الظاهري هي محقة، وخصوصاً في كنف تلك المتغيرات الاجتماعية التي رمت بثقلها على كثير من نواحي واقعنا المعاش، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هنا هل الحرية هي بالفعل حرية مطلقة؟! وهل إطلاق العنان لرغباتنا وملذاتنا وميولنا الدنيوية بلا مسوغ منطقي وأخلاقي أمرٌ مقبولٌ اجتماعياً؟ ناهيك عن الجانب الشرعي من تلك الحريات.
والجواب عن تلك الأسئلة يتطلب معرفة موقف الدين الإسلامي كعقيدة ومنهاج تجاه تلك الأحداث التي تمارسها مع الأسف الشديد فئة ليست بالقليلة في وسط بيئتنا المحلية والعربية والإسلامية.
وعندما يطل الفرد من منظور النافذة الإسلامية والشرعية، يرى أن الحرية ليست كما يراها التابعون والخاضعون لسيطرة شياطين أهوائهم بالهرولة تجاه كل ما تسول لهم أنفسهم فعله، بدون حسيب وبلا رقيب من سلوكيات وتصرفات هابطة مشينة يجيزون لأنفسهم تارة، وينهونها تارة أخرى، بما تمليه عليهم تلك الدوافع التي لا أساس لها من المنطق بشيء.
والقارئ العزيز يدرك ما وصل له البعض، ونؤكد على مفردة البعض، فالتعميم هنا لا يجوز، فهناك من الخيّرين والخيّرات من هم كثر والحمد لله، ولكن البعض – هداهم الله- ضربوا عرض الحائض بكل الأحكام القرآنية والقيم البشرية، متناسين أن جميع ما حرمه الله تعالى لم ولن يتغير.
فمنذ نزول الوحي على الرسول محمد – صلى الله عليه وآله- حتى يومنا هذا، فالحرام والحلال ثابت لن يتبدل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وبالتالي عندما يرتكب المسلم كل تلك الأخطاء بداعي الحرية الشخصية والمعروف لا حرية شخصية إذا تعارضت مع ما جاء به الخالق – جلت قدرته- فالقرآن الكريم نزل لينظم حياة بني البشر بشكل واضح وجلي ودقيق، فكل إنسان ينحرف عن جادة الطريق السليم يكون فاقداً لحريته وذاته وبعدها يكون عبداً لشهواته يسير خلفها وهو مسلوب الإرادة مغلوب على نفسه!
إذاً كلما كان الإنسان قوياً صابراً محتسباً يراعي تعاليم خالقه مبتعداً عن نواهيه ومتمسكاً بنهجه وضابطاً لسلوكه من خلال توجيه البوصلة تجاه عزيمته النيرة، مراعياً في ذلك إرثاً مجتمعياً عميقاً مكتسباً من عادات ومبادئ وقيم مصدرها تعاليم ربانية جاء بها كتاب الله المعظم؛ كلما أصبح ذلك الفرد فرداً حراً صالحاً نافعاً نفسه وأسرته ومجتمعه، وبعدها ستصل البلاد لما يسعى إليه أبناء الوطن المخلصون من رجال ونساء، لتحقيقه من رفعةٍ وشموخ واقتدار، سائلين الله سبحانه وتعالى الصلاح والتوفيق للجميع.