حلمٌ اختارته لها أسرتها، بعد أن رأوا اجتهادها وتفوقها، فخاطوا لها أمنياتهم بأن تكون أول طبيبة في العائلة، وببراءة الفتاة المجتهدة ارتدت فاطمة صبري الشيخ القديحي، رداء ذلك الحلم في خيالاتها، ويومًا بعد يوم وجدت أن المعطف الأبيض يليق بأمنياتها المستقبلية، وأن لقب طبيبة أسنان ملائم جدًا أن يسبق اسمها؛ إلا أن معطف ذلك الحلم بدأ يضيق على طموحها، فهي فعلًا ترغب بالطب كمهنة، إلا أنها تحب أن تبحر في تلك المهنة إلى ما هو أبعد من باب العيادة وكرسي الكشف، فحزمت حقائب طموحها بعد تخرجها في الجامعة، وغادرت الوطن إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتكمل مشوارها، وهناك بدأت في تحضير رسالة الماجستير.
محطات عدة مرت بها حياة الدكتورة القديحي؛ ما بين طالبة الطب، والحصول على شهادة الاختصاص في طب الأسنان الشامل، إلى شهادة الماجستير، ثم شهادة البورد الأمريكي في إصلاح وتجميل الأسنان، إلى أن وصلت إلى اختيارها لتكون ضمن لجنة الاختبارات التابعة للبورد الأمريكي لإصلاح وتجميل الأسنان للمشاركة باختبار الأطباء المرشحين للحصول عليه، لتكون بذلك أول سعودية بل أول عربية تشارك في إقامة اختبارات البورد الأمريكي في أمريكا.
بداية من حيث انتهت
سلطت وسائل التواصل خلال الأيام القليلة الماضية الضوء على خبر تعيين الدكتورة فاطمة القديحي في لجنة الاختبارات التابعة للبورد الأمريكي لإصلاح وتجميل الأسنان للمشاركة باختبار الأطباء المرشحين للحصول على البورد الأمريكي.
ذلك النجاح احتاج منها خطوات كثيرة، تبين ذلك خلال حديثها لـ«القطيف اليوم»: “البورد الأمريكي هي شهادة علمية عالية لا تمنح إلا بعد الحصول على مؤهلات معينة وتدريب في ذات التخصص -ولله الحمد- كنت من الأطباء القلة الذين اجتازوا جميع مراحل اختبارات البورد الأمريكي في إصلاح وتجميل الأسنان منذ أول محاولة شاملة؛ الاختبار التحريري، والعملي، والشفهي”.
وتتابع: “اجتزت جميع تلك المراحل في وقت يعتبر قياسيًا بعد حصولي على درجة الماجستير، كونها من شروط الحصول على شهادة البورد، فأصبحت الطبيبة رقم 90 ضمن 106 أطباء حول العالم، حاصلين على هذه الشهادة منذ تأسيس البورد الأمريكي منذ أكثر من 40 عامًا”.
وتضيف: “كان هذا تميزًا لفت انتباه أعضاء مجلس إدارة البورد الأمريكي، بالإضافة لكوني عضو هيئة تدريس بالجامعة وأقوم بأبحاث علمية بطب الأسنان، كما أنني عضوة في لجنة مراجعة الأبحاث العلمية في عدد من المجلات العلمية الأمريكية والعالمية المرموقة”.
وتوضح: “طلب مني رئيس لجنة الاختبارات الانضمام إليهم والقيام بأول اختبار عملي لمدة ثلاثة أيام في ولاية أخرى وقمت بتلبية رغبته، وبعد هذه التجربة أثنى مجلس إدارة البورد على مشاركاتي معهم؛ ومنها أصبحت عضوًا رسميًا في اللجنة وشاركت مرات عديدة سواء بتحضير الأسئلة التحريرية أو العملية وحتى الشفهية ومناقشة الحالات وتقييم الأطباء المتقدمين لهذه الشهادة العلمية من أمريكا وحول العالم، ولم يسبقني حتى اليوم أحد من السعوديين ولا العرب بإقامة اختبارات البورد الأمريكي في أمريكا”.
الخطوة الأولى
نشأت فاطمة كطفلة مجتهدة، وضحت عليها علامات التفوق منذ سنوات دراستها الأولى، ولربما كانت مثلها مثل الكثيرين من الأطفال، الذين يرون أن ستار حلمهم يرفع عن لوحة لرداء أبيض، وسماعة طبية، تتدلى على صدورهم، إلا أنها من أولئك القلة الذين اعتلوا خشبة المسرح الحقيقية وأدوا دورهم المرسوم في مخيلتهم الصغيرة بكامل تفاصيله.
تقول: “منذ صغري وأهلي يرون فيّ الاجتهاد والشخصية المثابرة والطموحة، فكان حلمًا من أحلامهم أن أرفع رأسهم وأكون أول طبيبة في العائلة؛ لما تحمله هذه المهنة من معاني إنسانية ورقي”.
وتمضي في حديثها: “تشجيعهم أثر بي كثيرًا منذ البداية، وعندما كبرت بدأت أدرك أكثر مدى سمو مهنة الطب، وأصبحت تلك المهنة طموحًا وهدفًا رئيسيًا في حياتي”.
التشكيلية الطبيبة
تجولت طفولة القديحي بين التفوق الدراسي، وموهبتها في فن الرسم، تلك الموهبة التي تعزو لها اختيارها لتخصص طب الأسنان، حيث تقول: “أنعم الله علي بملكة فن الرسم والنحت، لهذا فضلت طب الأسنان لما فيه من فن ومهارات وحرفية، بالإضافة إلى المعنى الحرفي لمهنة طب الأسنان عندما نقول إنها تخفف عن المرضى وترسم الابتسامة الجميلة على شفاههم”.
اختيارها لذلك التخصص بدأت تتضح ملامحه عام 1999 – 2000م، حين تخرجت في الثانوية والتحقت بكلية طب الأسنان بجامعة الملك سعود بالرياض ودرست بها 6 سنوات، إضافةً لسنة الامتياز، حتى حصلت على درجة البكالوريوس في طب وجراحة الفم والأسنان.
ويبدو أن قرارها بخوض مجال طب الأسنان أبعدها عن هوايتها الأولى، حيث تقول: “مازلت أمارس الرسم لكن بصورة قليلة ليس كما في السابق، أعتبر نفسي مقصرة جدًا مع هوايتي، رغم أنني مازلت أحبها جدًا جدًا وأستمتع حين أرسم، لكن ليس انشغالي هو السبب، فالحقيقة التي أحسها أكثر واقعية أنني دخلت مجال طب الأسنان الذي به فن وحرفة، واخترت تخصص إصلاح وتجميل الأسنان لأنه أبو الفنون، كما أن له علاقة بالألوان والرسم، فنحن حقيقةً نرسم أسنان المرضى وابتساماتهم، لذلك أشعر كأنني أمارس فني بهذه الطريقة”.
التحليق نحو حلم أكبر
تخرجت القديحي في الجامعة، وبعد عام من تخرجها التحقت بمعهد الأمير عبدالرحمن للدراسات العليا في طب الأسنان التابع للقوات المسلحة بالرياض، وتعلل انتقالها من مقاعد الدراسة إلى مقاعد دراسية مجددًا بأن طموحها بتطوير مهاراتها وزيادة علمها كان كبيرًا جدًا، وبعد عامين ونصف العام تخرجت وتحديدًا في عام 2010 وكان ترتيبها الأول، وحصلت على شهادة الاختصاص في طب الأسنان العام المتقدم بالتعاون مع جامعة بريتش كولومبيا في كندا.
ولأن الطموح الكبير لا تحده حدود، فإن فاطمة تعتبر شهادة الاختصاص المحطة الأولى لتحقيق طموحها، لتأتي المحطة الثانية بعد ابتعاثها من وزارة الصحة، فسافرت عام 2012م إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتدرس في جامعة إنديانا، وهي واحدة من أعرق الجامعات في مجال طب الأسنان.
بعد عامين أي في عام 2014م، أنهت متطلبات البرنامج التدريبي وحصلت على شهادة الاختصاص في إصلاح الأسنان، إلا أن تلك السنتين كانتا تنبضان بحكاية تفوق جديدة لها، فهي قد قررت أن تشغل البقية القليلة من وقتها في التحضير لدرجة الماجستير في علوم طب الأسنان، بإقامة البحوث العملية وتحضير أطروحة الماجستير، إلى أن أنهتها بنجاح في عام 2015م، وقول بحثها وتخرجت بامتياز.
بين الجامعة والعيادة
وقفت القديحي بعد نجاحها في الماجستير، على منصات التدريس في كلية طب الأسنان بجامعة إنديانا، لتكون ضمن طاقم التدريس هناك، تقدم المحاضرات والدروس لطلاب الجامعة، تحكي عن تلك الفترة: “كنت مصرةً على العمل في قطاع التعليم والأبحاث بالإضافة إلى الخبرة العملية، لأكتسب المهارات الكافية ولتفتح لي آفاق ومجالات كبيرة وخبرة، أنقلها معي إلى أرض الوطن وأنفع بها أهلي وأبناء وطني”.
الأستاذة بالجامعة كانت تمشط طرقات الفرص في الغربة، لتصقل نفسها كطبيبة أكثر وأكثر، فلم تكن تمانع أن تقرع جميع الأبواب التي من شأنها أن تطورها.
تتحدث حول تجربتها المزدوجة: “كنت أحاول في غربتي أن أطرق جميع الأبواب كما ذكرت، لأكتشف ما تحمله من فرص، ففرصة عملي بأمريكا وبالتحديد ولاية إنديانا كانت فرصة ذهبية لصقل علمي وإكسابي خبرات من نوع مختلف، فثابرت وأنهيت متطلبات إصدار رخصة مزاولة المهنة الشاملة بولاية إنديانا، التي تسمح لي بمزاولة مهنة طب الأسنان في كل مكان وكل عيادة بالولاية، عكس بعض الرخص المحدودة التي تمنح من قبل بعض الجامعات هناك، تلك التي تشترط عمل الطبيب فقط في نطاق الجامعة، وأفخر كوني من السعوديين القلة الذين حصلوا على مثل هذه الرخصة في مختلف الولايات لما فيها من التحدي والصعوبات”.
وتضيف: “بعدها زاولت المهنة في إحدى العيادات الخاصة، إضافةً لعملي ضمن هيئة التدريس في كلية طب الأسنان بجامعة إنديانا كأستاذ مساعد في إصلاح وتجميل الأسنان وتدريس طلاب طب الأسنان هناك”.
الوطن في الغربة
في الغربة كانت فاطمة تسكن حنينها إلى وطنها بوجوه العرب المغتربين هناك، ولم تكن تسكته بالمرور على تلك الملامح مرور السلام وحسب، بل جعلت منها جزءًا من أيامها، بعد أن فكرت في أن تكون طبيبة أسنانهم في غربتهم.
تقول: “تعاقدت مع إحدى العيادات بدوام جزئي فقط لعلاج المبتعثين السعوديين وعائلاتهم لأنها كانت تقبل تأمينهم الطبي، فكنت أخصص أيامًا في جدولي المزدحم فقط لأذهب تلك العيادة وأعالجهم، وفي بعض الأيام كنت أضطر للعمل خلال العطلة الأسبوعية كي لا تتعارض مع أوقاتهم بالجامعة”.
وتضيف: “بالرغم من شح وقتي وانشغالي إلا أنني وجدت في خدمتهم حلاوةً ومتعة، فحين أساعد أبناء وطني ومن هم بحاجتي أشعر بسعادة وارتياح يغمرانني، سيما حين أسمع دعاءهم وكلماتهم الجميلة فأبناء جلدتي أولى بي من غيرهم”.
وتوضح أنها مازالت حتى اليوم بعد عودتها لأرض الوطن وعملها في عيادات الأسنان التخصصية بمستشفى القطيف المركزي، لا تمانع توجيههم، والرد على استفساراتهم في كل ما يخص طب الأسنان والأطباء بولاية إنديانا حين يراسلونها.
تحديات مغتربة
رحلة النجاح التي عاشتها ابنة القطيف لم يكن طريقها مفروشًا بالحرير، ولا ينبت الورد في جوانبه، فتلك المغتربة عاشت تحديات صعبة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
تسترجع ذكرياتها: “في بداية رحلة الغربة، وتحديدًا أول سنتين كانتا صعبتين جدًا، فقد كنت وحيدة هناك مع طفليّ فارس وسلاف اللذين لم تتجاوز أعمارهما الست والثلاث سنوات، فزوجي لم يستطع مرافقتي بسبب ظروف عمله إلا بعد انقضاء السنتين، وقد واجهت الكثير من التحديات الصعبة؛ منها تعلمت قيادة السيارة واستخرجت الرخصة في أسبوعين فقط، وهو وقت قياسي، كما أنني كنت الأم والأب والطبيبة والطالبة والمسؤولة ليس فقط عن نفسي بل عن طفليّ”.
وتضيف: “مرت علينا الكثير من المواقف لكنني تجاوزت الصعوبات بفضل من الله واصراري على مواصلة الطريق والنجاح فيما جئت من أجله لأرفع رأس عائلتي وأكون فخرًا لوطني”.
تطوع
طرزت القديحي مشوارها في غربتها بالتطوع في إلقاء المحاضرات وتقديم الورش، حيث إنها تعتبر التطوع من أسمى ما يمكن للمرء أن يقدمه لمجتمعه، حسب وصفها، وهو ما قادها إلى المبادرة وتلبية الدعوات بإلقاء المحاضرات وورش العمل التطوعية المتعلقة بصحة وطب الفم والأسنان للأطفال والبالغين في عدة مدن وولايات أمريكية.
تذكر أبرزها قائلةً: “أبرز مشاركاتي التطوعية كانت عدة ورش عمل تحت تنظيم أندية سعودية، والمخيم السعودي الطلابي تحت إشراف الملحقية الثقافية بأمريكا، كذلك تمت دعوتي عدة مرات من مدارس ومنظمات أمريكية لأشارك معهم في يوم المهنة أو لجمع التبرعات الخيرية أو لتوجيه وعمل الأبحاث مع طلاب المرحلة الثانوية ممن لديهم اهتمام بالمجالات الطبية”.
إلى الوطن
رحلة غربة فاطمة امتدت تسع سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها ومنذ أول يوم لها هناك إلى آخر يوم كانت قد وضعت نصب عينيها -حسب كلامها- أهدافًا واضحة؛ وهي أن تجد وتجتهد وتكافح لتحصل على أعلى الشهادات الممكنة والخبرات العملية، وأن ترفع رأس وطنها بأكبر إنجازات ممكنة وفي النهاية تعود لتبدأ رحلتها في وطنها وتطبق كل ما تعلمته من علم مفيد وتعمل بكل خبرة نافعة اكتسبتها لتنفع بها أخوتها من أبناء مجتمعها، مضيفةً أن ما زادها إصرارًا هو رغبتها في المساهمة الفعالة كطبيب في مجتمعها تحقيقًا لرؤية المملكة 2030، وأن تكون خير سفير لوطنها وأهلها ودينها في بلاد الغربة.
مؤهلاتها العلمية:
– شهادة طب وجراحة الفم والأسنان (جامعة الملك سعود 2005)
– شهادة الاختصاص في طب الأسنان الشامل المتقدم (معهد الأمير عبدالرحمن بالرياض وجامعة بريتش كولومبيا 2009)
– شهادة التدريب السريري في إصلاح وتجميل الأسنان من جامعة إنديانا (2014)
– شهادة الماجستير في علوم طب الأسنان من جامعة إنديانا (2015)
– شهادة البورد الأمريكي في إصلاح وتجميل الأسنان (2015)
– شهادة الزمالة والتخصص الدقيق في زراعة الأسنان من جامعة إنديانا (2021)
د. فاطمة القديحي مع اعضاء لجنة الاختبار بالبورد الأمريكي بعد الانتهاء من بعض الاختبارات في مدينة شيكاغو
خلال تطوعها في إحدى المناسبات (المخيم الطلابي في ولاية ميزوري تحت إشراف الملحقية الثقافية بأمريكا)
خلال علاجها في الغربة لأحد مرضاها من دولة الكويت
خلال علاجها في الغربة لأحد مرضاها من أبناء الوطن