في القطيف.. مرض مناعي يقذف عزيزة الغانم إلى برك السباحة.. ورحلتها في الماء تنتهي بـ أول مدربة سباحة للرضع

مشهد يتكرر على مسامعها ومسامع بقية المجتمع، حوادث غرق لأطفال أعمارهم تنافس الزهور في قصرها، حادثة بعد حادثة جعلت عزيزة الغانم تفكر أن تخوض مجالًا جديدًا في السباحة، مجالًا تحول فيه الأطفال الرضع إلى سباحين، إلى أن وجدت ما تفكر فيه قريبًا منها، وإن بعدت المسافة، إلا أن الرغبة تقصر الطريق، وتجعل جمهورية مصر وكأنها جارة محافظة القطيف، وليست المسافة وحدها التي باتت قصيرة، بل إنه حتى الوقت طوي طويًا، وكأن ربع اليوم الذي تقضيه في التدرب لا يحسب من ساعات يومها.

خمسة أيام قضتها عزيزة في مصر حولت تاريخها، فتلك الفتاة التي تخرجت عام 1417 هـ في قسم اللغة الإنجليزية، وعملت 16 عامًا في سلك التعليم، تحولت إلى مدربة سباحة معتمدة للأطفال الرضع بعد 35 ساعة تدريبية.

حكايتها مع الماء
بعد 16 عامًا في التعليم، استقالت عزيزة لتتفرغ لهوايتها كمصورة وافتتحت استديو تصوير نسائيًا خاصًا في القطيف، إلا أنها بعد 20 عامًا من مزاولتها للتصوير، بدأت تظهر عليها أعراض مرضية وآلام لم تكن تفهمها ولا تجد لها تفسيرًا.

تحكي قصتها لـ «القطيف اليوم» قائلة: “مع تلك الآلام أجهضت أكثر من 9 مرات، والسبب كان مجهولًا، وبدأت صحتي في التراجع، حتى وصل بي الأمر لعدم القدرة على الحراك، جربت جميع الحلول الدوائية واللا دوائية لإيجاد حل لتدهور حالتي الصحية، حتى أصبحت أحيانًا لا أقوى على القيام بمهامي اليومية، وظل السبب مجهولًا”.

وتتابع: “بقيت على هذا الحال إلى أن تم تشخيص حالتي في مستشفى فهد التخصصي بالدمام بأني مصابة بمرض مناعي هو “متلازمة العضلات/ الفايبرومالجيا”؛ وهو مرض مناعي يدخل الجسم في حالة دفاع ذاتية مع نفسه، ويؤثر سلبًا على العضلات وكامل وظائف الجسم؛ فيؤدي إلى صعوبة في الحركة والتركيز”.

وتضيف: “أعطاني الطبيب 3 خيارات؛ إما العلاج بالكورتيزون فرفضت لأنه لا يتناسب مع ارتفاع ضغط العين، أو تناول أدوية الاكتئاب التي من شأنها تخفيف حدة أعراض المرض، أما الطريقة الثالثة فكانت لا دوائية؛ وهي السباحة”.

من الغرق إلى التدريب
لم يكن أمامها إلا أن تختار العلاج اللادوائي السباحة، ومع اختيارها للطريقة التي تناسبها في العلاج اصطدم قرارها بممارسة السباحة بعدم قدرتها عليها، فهي كالكثير من السيدات لم تكن تجيدها.

هنا، قررت عزيزة أن تتعلم وتدرس تلك الرياضة، ومع ذلك شاءت الأقدار في بداية دروس السباحة مع إحدى المدربات التي وصفتها بـ”غير المتمكنة” أن تتعرض للغرق، وتعزو ذلك إلى أنه لم يكن لديها عدة خيارات لتختار من تدربها، وكيفية التدريب، حيث لا توجد مراكز متخصصة لتعليم السباحة أكاديميًا في المنطقة.

تقول: “بعد تلك الحادثة قررت أن أتعلم السباحة بشكل أكاديمي، وليس ذلك فقط، بل أن أكون مدربة سباحة، حتى أقوم بتأسيس نفسي على أسس ومعايير رياضية وعلمية صحيحة، وحتى أخرج جيلًا واعيًا ومدركًا لثقافة السباحة”.

منقذة مسابح
توجهت “الغانم” إلى أحد المراكز في القطيف بإدارة كابتن شفيق جليح، وهناك وجدت ضالتها في كورس تدريب الغوص وسباحة الزعانف، وقد كان مرخصًا من الاتحاد العربي للغوص والأنشطة البحرية والإنقاذ.

في ذلك المركز تتلمذت على يد مدربة المدربين كابتن رباب الدبيسي، وكان ذلك في تاريخ 25 أكتوبر 2020، وحصلت على أول رخصة لها كمدربة سباحة معتمدة من الاتحاد العربي للغوص والأنشطة البحرية، ومنقذة مسابح.

حلم مفقود
بدأت آثار ممارسة السباحة تظهر على عزيزة، فقد تحسنت حالتها الصحية بقدر كبير واستطالت عضلاتها، كما تحسنت حركة مفاصلها ولم تعد تشتكي من تلك الآلام مجهولة السبب.

تصف ذلك الوضع بقولها: “تحسنت لياقتي واستطعت أن أصل للوزن المثالي وخسرت من وزني 16 كيلو، دون أن أتبع حمية غذائية قاسية”.

وتضيف: “ليس ذلك فحسب، إنما زاولت التدريب وتخرجت على يدي أكثر من 80 سباحة، غير أن شيئًا داخلي كان لا يزال مفقودًا”.

وجدت ضالتها
بحثت “الغانم” عن ذلك الشيء المفقود داخلها، لماذا تشعر أن شغفها بالماء والغوص فيه ليس مكتملًا؟! ها هي تُخرّج سباحات ماهرات من تحت يديها، كما أنها تخلصت من كل آلامها، فما هو الشيء الذي سيكمل شغفها الذي ولد بداخلها بهذه الرياضة؟!

بعد بحث عما يجعل شغفها غير مكتمل، وجدت “الغانم” ضالتها؛ إنها تسعى لأن تكون مدربة مدربات، وليس سباحات فقط.

تقول: “حدثت كابتن شفيق جليح عن رغبتي في أن أكون مدربة مدربين، فأخبرني بضرورة أن أخرج دفعة من الأطفال حتى يتم رفع طلبي إلى الاتحاد العربي، كما يجب أن أجتاز مهارات معينة حتى تتم الموافقة على طلبي”.

وتمضي في حديثها: “حينها قررت تطوير نفسي، فالتحقت بدورة مدربين منظمة من قبل منظمة بادي الأمريكية لتحسين السباحات الأربع، وتعليم الأطفال السباحة من عمر سنة، وقام بتدريبي مدرب المدربين كابتن أمين الشبيلي، وكان ذلك في تاريخ 27 يوليو 2021”.

لا اكتفاء
لم يقف طموح “الغانم” عند كونها مدربة سباحة معتمدة من منظمة بادي الأمريكية، بل كان هناك شيء داخلها يخبرها بأن لا تكتفي بهذا العلم.

مرةً أخرى عرفت عزيزة ما تبحث عنه، إنها ترغب في تعليم الأطفال السباحة، توضح ذلك: “كنت أرغب في تعليم أطفالنا السباحة من عمر شهرين، مثلنا مثل الروس مثلًا، أو حتى المدرسة الأمريكية التي لا تسمح بتدريب الأطفال السباحة إلا من عمر 6 أشهر، لماذا نحن لا نزال ننظر باستغراب لمهارة أبنائهم في السباحة، عندها قررت تعلم تدريب الأطفال على السباحة في الخارج، غير أن ظروف السفر إلى روسيا آنذاك حالت دون تحقيق ذلك الحلم”.

تواصل حديثها: “فجأة جاءتني الفرصة على طبق من ذهب بعد أن أعلنت الأكاديمية الروسية (بيبي سومينج روسيا) لتعليم السباحة للرضع والأطفال، عن تنظيم كورس تدريبي مكثف لمدة خمسة أيام بمعدل 7 ساعات يوميًا، في جمهورية مصر العربية، بقيادة الكابتن محمد عبد المقصود، وهو مدرب المدربين وحائز على أفضل مدرب ومحاضر دولي لتدريب الرضع بتقدير عام ممتاز في روسيا”.

إلى مصر
حزمت “الغانم” حقائبها وسافرت إلى جمهورية مصر العربية، وهناك خضعت لتدريب مكثف في تدريب الرضع، تصف تلك الأيام بقولها: “كان التدريب مكثفًا لدرجة أني أصبت بحالة من الانهيار ودخلت في نوبة بكاء لم أستطع فيها تمالك نفسي، كان صعبًا علي جدًا حضور وتعلم ثقافة جديدة علي، كان صعبًا علي الإمساك بالطفل الرضيع باكيًا، كان يصعب عليّ حتى الإمساك بجسده الطري والقيام بتدريبه وغمره في الماء حسب الأسس والمعايير التي شرحها لنا المدرب، وهي تعتمد في الدرجة الأولى على علم الريفلكسولوجي، وشيئًا فشيئًا اعتدت الوضع ووجدت نفسي قادرة على الإمساك بالطفل الرضيع وتفهمت وأدركت ما أفعله”.

بعد تلك المعاناة والتعود، حصلت “الغانم” على رخصتين؛ رخصة مدرب دولي معتمد من الاتحاد الدولي للرياضات المائية، ورخصة مدرب سباحة معتمد من الأكاديمية الروسية ببي سومينج عضو في الاتحاد الدولي للرياضات المائية، وكان ذلك في 5 أغسطس 2021 م، وبذلك اصبحت أول مدربة معتمدة في القطيف من الاتحاد الدولي لتدريب الرضع السباحة من عمر شهرين.

مفاجأة العودة للوطن
بعد انتهاء تدريبها عادت إلى أرض الوطن، وتواصل معها الكابتن شفيق جليح ليهنئها على إنجازاتها ويخبرها أنه آن الأوان لأن تمنح لقب مدربة المدربين، لكن بعد أن تحضر كورسًا خامسًا مكثفًا من الاتحاد العربي للغوص والأنشطة المائية لاعتمادها كمدربة مدربين بعد تحقيقها المعايير والمتطلبات المطلوب تطبيقها.

خضعت “الغانم” بعدها لاختبارات وورش عمل مكثفة ومتلاحقة كانت أشبه برسالة ماجستير – حسب وصفها – تقول: “حاولت فيها تلخيص ما لدي من رصيد ومعلومات وخبرة في الأداء في سطور، وتم اعتمادي ولله الحمد كمدربة مدربين معتمدة من الاتحاد العربي للغوص والأنشطة البحرية في تاريخ 5 سبتمبر 2021”.

30 طفلًا في مياه عزيزة
قامت عزيزة بتدريب ما يزيد على 30 طفلًا وطفلة، كان أصغرهم بعمر السنتين، إلا أن الطلب على كورسات التدريب تزايد مع ارتفاع معدلات حالات الغرق المؤسفة للأطفال، حسب قولها، وتوضح أنه مع تزايد الطلبات قررت فعليًا أن تتضامن لتخريج جيل ناضج واعٍ، يعي ويفهم أهمية السباحة للصحة النفسية والجسدية على حد سواء.

وذكرت أنه يتم تدريب الأطفال من عمر شهرين على السباحة عن طريق تدريب اليدين والرجلين على التحريك الصحيح في الوسط المائي؛ حيث تتخزن هذه الحركات فيما يعرف بذاكرة العضلات، فيعتاد الطفل على تحريك يديه ورجليه في الماء لاحقًا عندما يكمل عامه الأول، ويكون بمقدوره الانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى آمنة، وهذا ما يسمى “سباحة”.

أما عن المدة التي يحتاجها الطفل الرضيع ليتعلم السباحة بطريقة آمنة، ففصلت ذلك بقولها: “عندما نتكلم عن الأطفال الرضع فنحن نتحدث عن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الشهرين والثلاث سنوات، وهناك مناهج مختلفة لتدريبهم على السباحة كل منهج سباحة مختلف عن الآخر، ونحن نتناقش مع والدي الطفل ليختار المنهج الأنسب له ولطفله”.

وأوضحت أن نتائج التدريب وسرعتها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على نوع المنهج الذي تم اختياره للتدريب، فالمنهج الروسي مثلًا هو المنهج الأشد والأقصر طريقًا لتعلم السباحة، لكن ينبغي مراعاة الحالة الصحية للطفل، فالأطفال لا يحتملون جميعهم أسلوب الغمر وتمارين المقاومة والاستطالة، أما المنهج الأمريكي هو المنهج الأقل شدة، ذلك لأنه يركز على معايير الأمن والسلامة بشكل كبير، إلا أنه يحتاج لوقت طويل ليتعلم الطفل السباحة، وأخيرًا المنهج البريطاني وهو منهج التدريب الجماعي، حيث يدخل الطفل مع والديه أو أحد مرافقيه مع المدرب، ويقوم المدرب بتمثيل الحركات على الدمية وأولياء الأمور أو المرافقين يقومون بتطبيق المهارة مع أطفالهم داخل المسبح ويكون هذا العمل جماعي مع ستة أطفال.

وأضافت: “نحن نترك الخيار لوالدي الطفل أن يختارا المنهج المناسب لهما تبعًا لميزانيتها وظروفهما ووقتهما وقدرتهما على المتابعة، حيث إن المجتمع لا يزال متخوفًا من خوض هذه التجربة نظرًا لحداثتها عليه”.

فوائد
وذكرت أن “تعليم السباحة للأطفال في عمر أقل من سنة يسهم في بناء جذع قوي، حيث تتغذى منه جميع أعضاء الجسم، فالجذع هو الأساس لباقي الجسم كالشجرة تمامًا، إذا كان جذرها قويًا أصبح جذعها قويًا وثمارها ناضجة وصلبة القوام، نسعى لبناء أجسام قوية وأكثر صلابة تقاوم الأمراض ومشاكل المفاصل المنتشرة وتقلص حالة الانعزال ومشاكل الاضطراب النفسية المتفشية بين الأطفال والبالغين على حد سواء”.

سباحة السيدات
عزيزة التي تستعد لتقديم دورة سباحة خلال الأسبوعين القادمين، أكدت أنها مهتمة بنشر ثقافة السباحة بين السيدات حمايةً لهن ولمن يرافقهن في نزهاتهن العائلية، التي غالبًا ما تكون في استراحات تحتوي على برك سباحة، وقد تشهد تلك الاستراحات نهاية مؤسفة أحيانًا لنزهة عائلية، مبينةً أنه ليس لزامًا أن يتوقف قلب الغريق لنقول إنه مات، فقد يتنفس لكنه يموت دماغيًا.

وتابعت: “ليس الإنقاذ والحماية هما السبب الوحيد لتعلم السباحة، فهناك سباحة علاجية، وسباحة ترفيهية، وسباحة لياقة وتخسيس”، موضحةً: “تختار المتدربة وتحدد هدفها من ممارستها للسباحة، فنحن نعلم أنها كرياضة تساهم في التخلص من آلام المفاصل واحتكاك الركب وتراكم الشحوم وحرق السعرات الحرارية وتنشيط الدورة الدموية التي من شأنها تحسين وظائف الجسم بشكل عام، باختصار السباحة هي شباب دائم لا ينتهي ولا يشيخ”.

واستطردت: “نسعى من خلال تعليم السباحة لتنشئة جيل مهتم بالغوص والرياضات المائية ومن ضمنها السباحة، وهي الهدف الأساسي الذي نسعى إليه في منظمة بادي الأمريكية والاتحاد العربي للغوص والأنشطة المائية والاتحاد الدولي للسباحة والرياضات المائية”.

وقد أنشأت “الغانم” مؤخرًا صفحة على منصة “إنستجرام” تحت اسم “captin_aziza”، تشارك فيها مقاطع للتدريب، ونصائح حول السباحة.

أحلام عزيزة
ختمت عزيزة حديثها بسرد أحلامها حول الرياضة التي ملكت جزءًا كبيرًا من قلبها ووقتها، وقالت: “أحلم في المستقبل القريب أن أحصل على شهادة مدربة سباحة سعودية معتمدة من الاتحاد السعودي للسباحة، وأن أتباهى بشعار وطني مطبوعًا على رخصة تدريب سعودية، كما أحلم بتأسيس نادٍ صحي مخصص للأطفال ليمارسوا فيه الرياضات المناسبة لأعمارهم، وأتمنى تأسيس بركة سباحة أولمبية مخصصة للأطفال فقط، وأخيرًا أسعى لتأسيس أول فريق سباحة نسائي سعودي للباليه المائي والسباحة الإيقاعية”.




error: المحتوي محمي