
في 21 جمادى الأولى سنة 1383، في شهر مارس من عام 1963م نزل دعلي جواد الطاهر الرياض، بعد فصله من جامعة بغداد، متعاقدًا للتدريس بكلية آداب جامعتها، وكان لابد له – كما يقول – من أن يلم بشؤون الأدب في هذه البلاد.
وبدأت أسأل وأشتري وأقرأ.. وكان مما اطلعت عليه كتابيْ (وحي الصحراء) و (شعراء نجد المعاصرون) أضفت ما فيهما من مادة إلى ما قرأته يومًا ما سنة 1940م في كتاب (أدب الحجاز) فرأيت شيئًا ذا بال، وحركة جديرة بالاهتمام.
إذن.. فقد كان الاهتمام بالأدب والشعر في المملكة ضمن اهتمامه بهما في العالم العربي، منذ يفاعته في الحلة (بابل) بعد ولادته فيها سنة 1919م، وقد ابتدأ بقراءة القرآن الكريم في أحد كتاتيبها، ومن ثم الدراسة الحديثة في مدارسها، متعشقًا الأدب والشعر، ومقتنيًا الكتب والمجلات، ومنها مجلة (المنهل) الحجازية.
والعجب أن كان للطاهر منذ كان طالبًا في المرحلة المتوسطة، دفتر صغير يسجل فيه ما يلتقط من أشعار وحكم وصور، وكان هذا الدفتر دلالة لافتة لسلسة من الدفاتر الصغيرة، في حياته الجامعية وتجربته التأليفية، كما ذكر د. قيس حمزة الخفاجي في كتابه (الفكر النقدي عند الدكتور علي جواد الطاهر في ضوء القراءة النسقية)، إذن.. فقد كان الدافع للاعتناء بالمطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية منذ حل في الرياض كما يقول: (هو الإلمام بالأدب في المملكة، نشأته وتطوره واتجاهاته وأعلامه، والعوامل المؤثرة فيه، ومنزلته بين أدب الأقطار العربية الأخرى، ثم درسه وتدريسه، فليس من المنهجي أو المعقول أن ندرس في جامعة الرياض – جامعة الملك سعود فيما بعد – أدب مصر وأدب العراق، ولا ندرس أدب البلد نفسه).
.. وهكذا بدأ د. الطاهر رحلته الصعبة، مترددًا على المكتبة العامة في دخنة.. ولكن كيف السبيل – يتساءل – إلىالمؤلفات السعودية، إنها ضائعة بين ألوف الكتب، مصممًا على إثبات عناوينها، وأسماء مؤلفيها، وذكر تعريف عن محتوياتها في أوراق الدفتر (الكفي) الذي ولّد دفاتر أخرى كثيرة لم يكتفِ الطاهر بهذا، بل أصبح يتردد على مكتبات البطحاء، ليقتني ما يقتنيه من مطبوعات سعودية، بحماس لا نجده لدى معظم مقتني الكتب من الأدباء والشعراء السعوديين.
وبعدما حصل على قائمة أعدتها وزارة المعارف بعنوان (مجموعة من كتب المؤلفين الوطنيين بالمملكة عام 1383هـ – 1963م) مصحوبة بأسماء مؤلفاتهم إزاء أسمائهم، تراه يستعين بمكتبة الشاعر حسن عبدالله القرشي، ومعرفته بالمطبوعات السعودية، طارقًا باب هذا الأديب وذلك الشاعر، باب هذه المكتبة الحكومية أو تلك الخاصة، ملاقيًا في ذلك العنت.. بل الإحراج.. بل الإهانات – أحيانًا – من بعض ضيّقي الأفق!! ومع ذلك لم يعقه هذا دون الاستمرار في توثيق ما يقع تحت يده أو بصره، مسافرًا إلى جدة – تارة –وأخرى إلى المنطقة الشرقية، ليشمل في مشروعه المعجمي، مطبوعات مؤلفي المملكة السعوديين، مكلفًا بعض طلبته السعوديين، وأحيانًا زملاءه العراقيين، بين الطائف ومكة المكرمة والمدينة المنورة، لموافاته بما طبع هنا وهناك، حتى أصبحت كلمة (المعجم) مترددة على لسان زملائه في كلية الآداب، قبل أن يعود مبتعثوها (الحازمي والضبيبوالشامخ والأنصاري) وقد دُكْتِروا في لندن وغيرها، منضمين إلى سلك التدريس في جامعة المملكة الأولى.
هذا ولم يتردد الطاهر من الاجتماع بأدباء الرياض (حمد الجاسر وعبدالله بن خميس وعبدالله بن إدريس) لمداولة الرأي حول مشروعه التوثيقي الرائد، فاتحًا صدره لأية ملاحظة أو إضافة أو نقد، لما بدأ نشره فوق صفحات مجلة العرب، بعدما عاد إلى بغداد سنة 1388هـ 1968م إثر الإطاحة بالرئيس العراقي، عبدالرحمن عارف، الذي تسبب انقلاب أخيه عبدالسلام عارف القومي البعثي سنة 1963م في فصل د. الطاهر وزملائه من جامعة بغداد، بتوقيع مديرها أستاذ التاريخ المعروف د. عبدالعزيز الدوري، وقد عمل د. عبدالعزيز الخويطر وكيل جامعة الرياض – حينها –على ضمهم في كلية آدابها ، أكاديميين بارزين، رغم وشاية الشيخ محمد محمود الصواف الإخواني العراقي دون ذلك، بوصفهم يساريين، وهم الأكاديميون الأعلام كما يذكرهم الأستاذ رشيد الخيون في كاتبه (عمائم سود في قصور آل سعود) (اللغوي د. مهدي المخزومي – صاحب كتاب مدرسة الكوفة منهجها في دراسة اللغة والنحو وكتب الخليل بن أحمد الفراهيدي – ود. علي جواد الطاهر – صاحب كتاب الشعر العربي في العصر السلجوقي وصاحب ثلاثين كتابًا أخر في شتى مجالات الأدب – والأديب باقر سماكة –صاحب كتاب التجديد في الأدب الأندلسي – والفنان والأكاديمي خالد الجادر – صاحب كتاب التصوير العراقي في القرون الإسلامية الوسطى ومؤسس أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد).
بل دُعي حينها علي الخاقاني صاحب موسوعة (شعراء الغري) إلى زيارة الرياض، لتزويد مكتبة جامعة الرياض بما توفر لديه من نفائس المخطوطات ونوادر الكتب في النجف وبغداد، دون أن تجد شكاية الصواف وغيره أذنًا صاغية، باتهام هؤلاء الأعلام بالشيوعية، هذه وغيرها من التهم الجاهزة، التي يلصقها المتحاملون والانتهازيون على مخالفيهم دون وجه حق، وهذا هو الشاعر السعودي أو الخليجي خالد الفرج مؤلف (ملحمة أحسن القصص) ينظم قصيدة في منتصف الأربعينات الميلادية بعنوان (الشيوعي) نافذًا في وقت مبكر، إلى لب الإسقاط الأيديولوجي المتحامل، بهذا التصوير الكاريكاتوري:
الشيوعي له وجه عريضٌ في طويل
وله أنفٌ عظيمٌ وله آذانُ فيل
وفمٌ كالكهفِ فيه غُرزت أنياب غول
وله عينان ترمي شررًا في قبح حول
ثمَ جسمٌ، إنه الشيطانُ في شكل مُريع
لعنة الله عليه فهو ملعون الجميع
فاسكتوا إن أرهقوكم في دماءٍ ودموع
كل من يطلب حقًا واضحًا فهو شيوعي
هنا مكمن الإسقاط المضمر!
وهو ما حدث لي من أكاديمي عراقي بارز، حين اتهمني ب(القرمطية) في قصيدته المعنونة (يا أحمد الخيرات دع قيثارتي) التي يقول فيها:
عجبًا بحورُ الشعرِ تلهث في فمي
إذ ينبري من أرضها شتّامُ
ما فيكمُ من ذي المروءة كاتبٌ
يحتجُّ من عزّت عليه سهامُ
لم يبصروا كلبَ القرامطِ عضّني
وخطيئتي أن دينيَ الإسلامُ
يتفرجون ولم يردوا كلبهم
عني برغم نباحه قد ناموا
أين الصحابُ إذا أتيتُ توسعوا
في مجلسٍ وبغبطةٍ لي قاموا
أين الأحبة قد سُعدت بودهم
نُسِيَتْ ليالينا.. أماتَ وِئَامُ
من لم يذد عن صحبهِ بلسانِهِ
فعليه من صفو الوداد سلامُ
يا أحمد الخيراتِ دع قيثارتي
في صمتها هل في الرياض ذمامُ
هذا الغضب المتحامل الذي شمل الرياض وقد احتضنته معززًا مكرمًا، لم يكن بسبب خطيئة إسلامه! وإنما بسبب ارتكابه عملًا مخلًا بالالتزام المهني والأخلاق الأكاديمية، حين استغل صاحبنا سنة تفرغ علمي منحته إياها جامعة الملك سعود، استغلالًا بشعًا حجبه عن تقديم مشروع بحثي يخدم الإطار الفكري للجامعة والمجتمع، كما تقضي بذلك الأعراف الأكاديمية – المتبع عالميًا – فإذا به يسافر إلى أبو ظبي، مقنعًا المسؤولين هناك، – ممن كان يتملقهمبصلاحيته وصلاحه – وهو على رأس عمله في جامعة الملك سعود – لعمادة كلية الآداب بجامعة العين!! وقد نشرت له –إذ ذاك – صورة مع ركن الدولة هناك، وهو يفتتح مشروعًاأكاديميًا، مما تسبب في احتجاج جامعة الملك سعود على هذا التصرف الانتهازي، ودارت رسائل متبادلة بسبب ذلك بينها وبين جامعة العين، وقد تورطت بهذه الكارثة التي حلت بها.. مما اضطرني لكشف ذلك على الملأ في مقالة شهيرة في جريدة الرياض يوم الثلاثاء 12 ربيع الثاني 1406هـ – 24 ديسمبر 1985م بعنوان (ماذا يتبقى من الدكتور يوسف عز الدين في حياتنا الجامعية؟).
يا ترى هل كان أستاذنا د. الطاهر يشير إلى ذلك من طرف خفي فيما ذكره في صفحة 172 من الجزء الأول من معجمه (لم يكن عجبًا أو متأخرًا عن وقته ما كتبه الأستاذ محمد رضا نصرالله في جريدة الرياض (25 جمادى الأولى سنة 1410هـ – 1989م تحيةً بعنوان “ومن الحب ما قتل”)فقال – ما هو في نفسي – بأن العمل الذي قمت به في صنع المعجم كان بدافع واحد هو الحب للعمل والخدمة وسد نقص كان اللازم التفكير بسده، أما التكريم أو المتاجرةالتي يلجأ إليها الآخرون، ومن ورائها (بريق الريال) فلم تكن لهما رائحة لدى صانع المعجم الذي يعرف عن الأدب السعودي، أكثر مما يرفه المتخصصون من أبنائه).
وختم – يقول د. الطاهر – كلمته الطيبة بما بدأها به (ومن الحب ما قتل). هل لهذا وجدتني أرثيه رحمه الله بعد وفاته يوم العاشر من هذا الشهر أكتوبر 1996م في زاويتي (أصوات) بجريدة الرياض بعنوان (لماذا ظلمنا هذا العراقي الفذ؟ّ!) فحين علمت بوفاته – رحمة الله – لم أجد شخصًا أعزيه فيه، سوى أستاذنا الشيخ حمد الجاسر رحمه الله. لم أفعل ذلك مشاركة عاطفية لشيخ الأدباء السعوديين، بحسبه صديقًا وفيًا لشيخ الأدباء العراقيين فحسب، إنما لأن الجاسر هو أول العارفين بفضل الطاهر على الثقافة السعودية المعاصرة، منذ قرأ الطاهر رحلة الكاتب المصري إبراهيم عبدالقادر المازني إلى الحجاز، وهو على مقاعد الدراسة المتوسطة، ومنذ اقتنائه كتاب (أدب الحجاز) للخوجة وبلخير وهو على مقاعد الدراسة الثانوية بمسقط رأسه في الحلة، إذ هو مشدود إلى الأدب السعودي، فإذا وصل إلى الرياض، وتولى تدريس مادة الأدب العربيالحديث في كلية آداب جامعاتها، وجد من الحيف لهذه البلاد وأدبها وثقافتها، أن تظل في مهاوي النسيان..
وهكذا اقترن القول بالعمل، معتكفًا لسنوات على إصدار (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) رغم انهماكه في جملة من مشروعاته التأليفية، مقالةً وبحثًا وتحقيقًا، وإشرافه على العديد من أطاريح الدكتوراه في جامعة بغداد، وتفاعله العضوي الخلاق في العراق مع مجتمع الثقافة والصحافة والأدب القصصي والمسرحي، والشعر بجميع مدارسه واتجاهاته، يسنده تاريخ قرائي واسع، وتجربة أكاديمية متراكمة، امتدت من دار المعلمين العالية مزاملًا السياب ونازك ولميعة، فجامعة بغداد، وجامعة القاهرة، وجامعة السوربون الفرنسية، متتلمذًا فيها جميعًا على أساطين اللغة والأدب والفكر والبحث من محمد أحمد المهنا ود. محمد مهدي البصير ود. طه الراوي إلى طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي ومن ثم المستشرق الفرنسي بلاشير، الذي وجهه نحو تطوير بحثه الجامعيالمبكر عن (لامية الطغرائي) إلى دراسة (الشعر العربي في العراق ودول العجم في العصر السلجوقي)، وكذلك تحقيق درة التاج من شعر الشاعر الإيروتيكي ابن الحجاجالبغدادي في العصر العباسي، الذي نال بهما أطروحة الدكتوراه من جامعة السوربون.
لكل هذا اقترحت على صديقنا الروائي د. محمد حسن علوان رئيس هيئة الأدب والترجمة والنشر بوزارة الثقافة، عقد هذه الندوة التكريمية، وإذ تمت على عجل، فإني أتمنى على جامعة الملك سعود، أن تتبنى عقد ندوةٍ بحثية كبرى، تتناول جهود أستاذنا الكبير د. علي جواد الطاهر البحثية والأدبية والتحقيقية، داعيًا إلى أن تطلق اسمه على إحدى قاعات محاضرات كلية آدابها، وفاءً وإكبارًا لأحد رواد أساتذة قسم اللغة العربية فيها، وهو في بداية تأسيسه. فلقد وضع د. الطاهر هذا الطود الشامخ والعلم المرفرف، اللبنة الأولى لتدريس الأدب السعودي الحديث في منهجها، هذا الذي ظل الشغل الشاغل للدكتور الطاهر، في كاتبه الرائد (منهج البحث الأدبي) وقد بذل في صناعة (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) كل جهده ووقته مفرغًا من وعائه العلمي كل ما هو نفيس، في نفوسطلبته وعقولهم.
فيديو (هنا).