الإتقان، والجلدُ، والبعد عن ثقافة «العيب»، والإصرار على تجاوز صعوبات الحياة، وعدم التوقف عند نقطة محددة، كل ذلك من شأنه أن يجعلنا نتغلب على الأزمات ونحولها إلى فرص ربحٍ وفير..

سوق السمك المركزية بمدينة القطيف، تبعدُ عن منزل العائلة أقل من كيلومترٍ واحد، حيث كانت تأتينا رائحة الأسماك ممزوجة بالملوحة في أوقات الحرِ والرطوبة.

في المساءات، وعند الصباحات الباكرة أيضاً، كنت أشاهد آحاداً من الشباب يتجهون صوب السوق، مرتدين البناطيل والأحذية الطويلة.

لم يكن من أراهم وحدهم من يدلفون إلى سوق السمك، بل هنالك الكثير ممن يأتون سالكين طرقاً عدة، ومن أحياء قريبة من المكان، وتحديداً حي الشريعة وحي البديعة.

هؤلاء الشباب لهم قصصهم، وبينهم فتواتٍ، أصحاب عضلاتٍ مفتولة، كانوا يحملون الميزان، ليزنوا أطنانَ السمك كل ليلة.

بعضهم مازال حتى الآن بين لزوجة الأرضية الرطبة ورائحة السمك والربيان، التي شكلت ذاكرتهم العميقة، ورسمت قصصاً لا يمكن لهؤلاء نسيانها.

كثير من هؤلاء الشبان لم يكملوا دراساتهم الجامعية أو حتى الثانوية، لأسباب متنوعة، تتعدد باختلاف أصحابها، إلا أنهم لم يستسلموا للحياة ومصاعبها، واختاروا مهنة ليست بالسهلة.

أن تكون يومياً بين أطنانٍ من الأسماك، تحملها، ينسكب عليك ماؤها، يمتلئ صدرك برائحتها القوية التي لا تزول من الأجساد بسهولة، وتقضي ساعات وأنت تنقل السلال بين السيارات والمخازن، أو تجلس تنظف عشرات الكيلوغرامات من الربيان، وتبيعه لمن يبحث عنه نقياً دون عناء، فتلك مهامُ لا يختارها الكسالى، وإنما شبابٌ قالوا لا للحياة التي لم تكن عادلة مع كثير منهم، وقرروا ألا يضعوا رؤوسهم على وسائد الخيبة والبكاء الذليل!

العملُ شرفٌ، وعرق الجبين، والزند التي تحمل الأثقال، سوف تساعد عائلاتها على شظف العيش، وهي الجسر الذي يقود إلى الخلاص من أخطاء الماضي أو لكماته الموجعة.

ليس لك أن تزدري أي مهنة، ولا يحق لأحد أن يتفاخر على من يجلس القرفصاء والأسماك تتناثر بين يديه ورجليه، فلو اتخذ الناس طريقاً واحدة في حيواتهم، لفسدت الطبيعة، ولم يكن هنالك توازنٌ فيها، لأن طبيعة العيش تقتضي التنوع في الأعمال، كما أن المستقبل ليس خطاً مستقيماً لا تصله إلا من خلال جادةٍ واحدة وفقط، بل الحياة الكريمة الحرة والآمنة لها ألف دربٍ ودرب، ولكلٍ فردٍ طريقته الخاصة في بناء ذاته وصناعة القادم من أيامه.

هؤلاء الشبان هم من يسهلون علينا الحصول على ما لذ وطاب من أطباق موائدنا. هم الوسطاء الذين يربطوننا بالبحر، ويجعلوننا نتلذذ بطعم خيرات الأعماق الطازجة؛ وهم أيضاً يساهمون في دورة اقتصادية غاية في الأهمية، ورفد قطاع غذائي حيوي، تجارته بمليارات الريالات سنوياً.

البعض بدأ بسيطاً وهو طفل صغير، وتدرج، ونمّى مهاراته، وصار يميز بين الغث والسمين من الأسماك، واكتسب حساً تجارياً، فتحول من مجرد عامل بسيط إلى صاحب “مفرش” وتالياً محل، وتوسع ليكون شريكاً في عدة أفرع متخصصة.

عائلات أصبحت من أثرياء محافظة القطيف بسبب العمل في تجارة الأسماك، وتطويرها عبر أجيال متعاقبة. يخبرني صديق، عن زميل له أيام الدراسة، لم يستطع أن يكمل تعليمه، فلم يلتحق بالجامعة، فيما صاحبنا درس في العاصمة السعودية الرياض، بـ”جامعة الملك سعود”، والتحق بـ”كلية العلوم”، ليكون مدرساً تالياً.

المدرس رغم جديته واشتغاله على نفسه، ومحاولته ولوج أبواب مختلفة للرزق، إلا أن صديق الصبا أيام الدراسة، استطاع أن يسبقه، وأن يبني له منزلاً يأويه هو وعائلته، عوض منزل الأسرة القديم أو البقاء في الإيجار، وذلك من خلال العمل بجد واجتهاد في تجارة الأسماك التي بدأها متعلماً أسرار مهنة لم يكن يعرفها.

إذن، هو الإتقان، والجلدُ، والبعد عن ثقافة “العيب”، والإصرار على تجاوز صعوبات الحياة، وعدم التوقف عند نقطة محددة، كل ذلك من شأنه أن يجعلنا نتغلب على الأزمات ونحولها إلى فرص ربحٍ وفير.


المصدر: صحيفة الرياض.