يأتي الشَّاعر عقيل المسكين في ديوانه الجديد الذي عنونه بـ “على شواطئ نُونهنَّ”، مُترنمًا في لغته، كسائح يتنفس رائحة العشق، ويعيشها في كُلّ الأشياء من حوله، كبرق، يُخبر عن طيفها وطيفه، التَّفاصيل التي تسكنه، ليُسكن الأبجدية فُستانها البهيَّ.
إنَّ البعض قد ينظر للكتابة الغزلية بكونها تتجه إلى المرأة تحديدًا، ليُعبر عن اختلاجاته، والتَّغني بها، وهذا المُنطلق، يُقعر من فضاءات الغزل، ويجعله يتأرجح عبر مسافات ضيقة الظلّ، في حين أنَّه -الغزل- أراه مُتسع الأفق.
إنَّ العشق يرتبط بكُلّ الأشياء لا تاء التَّأنيث فقط.
يبدأ البوح، ليكُون نصًا شعريًا، أو نثرًا بمُختلف زواياه من خلال علاقة الشًاعر والكاتب في الوهلة الأولى بالأبجدية، أيكُون عاشقًا، أم هاويًا، وهذا ما يُميّز اليراع، حين يُمارس فعل البوح.
كتب المسكين في قصيدة شوق التي استهل بها الدّيوان:
شوق تلألأ من فُؤاد عاشق
نضد الحُروف قصيدة فتألّقا
عجبًا لقلب يستغيث بجمرة
إمَّا اشتعال الحُبّ فيها أحرقا
إنَّها تُحرقه، ولا يزال يستغيث بتلك الجمرة التي رمادها لم يُطفئ العاطفة، وغوايتها.
وعطفًّا على ديوان الشَّاعر عقيل المسكين، فإنَّ القارئ يُبصر اتساع اللّغة العشقية، تُعانق النَّشوة عبر صُور بلاغية جمالية الدّفء، لذا فإنَّ شُرفات الدّيوان أفقها واسع، كولوج نظرة الشَّاعر إلى الحياة.
أي شيء يُقدمه الإنسان بعشق، سيكون مُبدعًا، إن تمازج مع السّياق في كيفية اقتناص الدَّهشة التي تأتي، كعابر سبيل، لتُصيغ الوهم الذي لم يستطع اليراع نسيانه.
تقُول الرّوائية الجزائرية أحلام مستغانمي: الكتابة، هي الوهم الكبير بأنَّنا لا ننسى.
وفي شُرفة أخرى، تأخذنا -مستغانمي- إلى تبيان الحالة العُشقية، لتهمس: العُشق مُضن، ومُعضلة المُبدع أنَّه لا يقبل بأقل من العشق حريقًا، وذلك من أجل الأدب لا من أجله، الحبيب نفسه لا يدري أنَّه في كُلّ ما يقُوله الكاتب، هو يتوجه إلى الأدب لا إليه، ما الحبيب إلّا ذريعة عاطفيَّة لغاية أدبية.
وعليه، فإنَّ الشَّاعر عقيل المسكين في “على شواطئ نُونهنَّ”، لم تقف خُطاه على شاطئ، ليجعل ظلَّه، يتنفس ضوء الشَّمس، لكنَّه امتزج به، ليزور الشَّواطئ الأخرى، كالمرآة، يُجاذب خُيوط الشَّمس، مُعتقًا أبجديته، يبُثها كُلَّ الهواجس الذَّاتية التي تُصيره عاشقًا “أنثاه”، وعاشقًا الأشياء من خلال نبضاتها، يُسكبها الحياة.
يبُوح في قصيدة “أحببت مريم”:
أحببت مريم والحُروف شواهد
إذ كُلّ حرف من سناها فرقد
وشغاف قلبي دفتر لقصائد
فيروزها درُّ البيان مُنضد
ذوّبت في تلك السُّطور مشاعري
وسكبت فيها مُهجة تتنهد
إنَّه ليس سعيدًا، فالعاشقون ليست لهم علاقة بالسَّعادة، كذلك المُغرم بالكلم، من ينسج الحكايا، ليعيشها حُلمًا، أو فكرًا، أو لحظة انتشاء المعنى، تقُول أحلام مستغانمي: الأدب لا يحُب السُّعادة، فالسُّعداء لا وقت لهم للكتابة.
وهُنا، لا تأتي السَّعادة، تزامنًا مع المفهوم الواقعي، فقد يكتب السُّعداء في حياتهم الواقعية، لكنَّه الكاتب في أعماقه قد يكُون حزينًا، نديًا، كحبات المطر، ينتظر عناق الغيمات، قد يكُون بجانب شجرة، يُحدق مليُا، يستظلُّ بملامحها، يلمس أوراقها الخضراء، لتنتعش رُوحه بالأنس والجمال.
وما يجعلنا أن نقُول إن الشَّاعر المسكين، مسكُونًا بأنثاه في صُورة أشبه ما تكُون بمشهد سينمائي ممزوج بالنَّقيضين الكُوميديا والتراجيديا، يقُول في قصيدة “مو” أنا:
أقول لها وقد هامت بفكر:
أأنت الكنز يمحو لي الدّيونا
تقُول وكُلُّ أحرفها ارتجاف
أنا “مو” تلك يا ابن المُفلسينا
يرى فيها الكنز الذي يُنقذه من الدّيون التي تغمره، أتكون هذه الدّيون احتياجه إلى فيض من المشاعر، إلى الدّفء، ليرقص على ليونة رمشيها، وسواد حدائق عينيها؟ أتكون هذه الدّيون التفاف وراء النَّص، ليجعلها تُغدق عليه من عاطفتها واشتياقاتها، أم أصبح مُفلسًا من كُلّ شيء.
عندما تكُون الأنثى حاضرة في دُنياه عبر الابتسامة والألم، الفرح والفكرة، ليُبصر الحسَّ عبر عينيها، يُوشوش في عينيه، ويلمسه ما بين أصابعها، ويقرأه في اشتهاء اللّحظة الشّعرية، اللّحظة الإنسانية التي تنساب من وجنتيه، عناقًا في وجنتيها، لتُولد من عرق جبينهما القصيدة الأولى، والأشهى تباعًا.
كتب في قصيدة “خمرة الثَّغر”:
أيجوز أن أزجي الخيال بخمرة
من عذب ثغرك، والبيان مُرنح
إنَّها الخيال بعينه، والبيان الغارق في تبيانه، والمعنى الذي لا ينضب معينه، واسترخاء حُروفه.
إنَّها الرَّعشة التي طالما انسابت على شفتيها الكلمات، ليغدو الصَّفاء أغنيتها، وخبزها العربي من تنور جدَّتها، تُثيره عذبًا، كرائحة الياسمين، تتراقص ألوانه، وتحكيه إلى المُتعبين من البوح، لتستريح على معصميها الكلمات.