صحتك كما تصنعها بيديك!

من منَّا لم يشعر ذات يوم بألم أو ضيق مفاجئ، وتعكر المزاج، وفقد الشهية، ونفخة وغازات وحموضة، وأسبابه كثيرة، والأدوية التي تعالجه شائعة.

الأكل وظيفة طبيعية، علينا أن نقوم بها، ومن حقنا أن نستمتع بها، ودائمًا ما ينصحك علماء التغذية بألا تقبل على تناول طعامك وأنت مهموم أو حزين كوسيلة لتفريغ طاقات الإحباط الموجودة بداخلك، وألا تشغل ذهنك بأي نشاط آخر أثناء تناول الطعام لتستحضر وعيك، مما يعجل الشعور بالشبع، ويجب أن تتناول الطعام وأنت تشعر بجوع محتمل لتكون لديك الإرادة في اختيار نوعيات الأطعمة وتناولها بالكمية المسموحة لك.

الواقع أنه كلما زاد استمتاعنا بالأكل غدا هضم الطعام أسرع، ولكن إذا أعقب المتعة التي نشعر بها ونحن على المائدة ضيق وتوعك، كان ذلك دليلًا على أننا فعلنا شيئًا خاطئًا.

إن أعراض “عدم رضاء” المعدة السليمة عن وجبة أكلناها كوجود غازات وتجشؤ وانتفاخ، وما إلى ذلك هو بمنزلة أضواء حمراء تحذرنا من خطر يواجهنا إذا كررنا مثل هذه الوجبة بالنوعية والكمية التي أكلناها، دون استبعاد الأنواع والطرائق التي لا تطيقها معدتنا، إن أي نوع من أنواع الطعام الذي لا تستسيغه المعدة، ينبغي أن يكف المرء عن تناوله، فأنواع الطعام كثيرة وأشكالها متنوعة بحيث يمكن استبعاد واحد أو اثنين منها، حتى ولو كانت أنواع الطعام المستبعد لا تصيب غيرنا بالضرر، فالمعدات تختلف كما يختلف البشر، لهذا كان لزامًا أن نتعرف على خصائص المعدة، وما يناسبها مما تحبه من ألوان الطعام، فليس كل ما تحبه أنت تحبه معدتك، والمعدة قد تلتزم الصمت إذا أكرهتها على ما لا تستسيغ المرة بعد الأخرى، لكنها أخيرًا تثور فتضرب عن العمل أو تحدث ضررًا ومشكلات لا تحمد عقباها “المعدة بيت الداء”.

يجب أن ننتبه للإشارات التي تصدر من أجسادنا؛ على سبيل المثال: الوزن الزائد، ضغط الدم، عسر الهضم.. في جميع تلك الحالات وغيرها جسدنا يريد أن يقول لنا شيئًا.. يريد أن يقول انتبه فهناك شيء أو أشياء ليست على ما يرام، نقوم بها وتسبب لنا الألم والضيق والتوتر والإجهاد، نلمس الخلل عندما نراقب عاداتنا وسلوكياتنا كعادة الإفراط في الأكل – أيا كان نوعه – ابتلاع الأكل، الميل لكثرة الكلام أثناء الأكل. نراقب تلك العادات السلبية التي تؤذينا وتفقدنا توازننا، فنعمل على تصحيحها، تساعدنا على أن نحظى بصحة نفسية وجسمية جيدة، كما تساعدنا على الشعور بالراحة والخفة والنشاط.

مقليات، ومتبلات، ومخلالات، وصلصات، والمواد الحريفة، والدهون المهدرجة، والسعرات المرتفعة، والمشروبات الغازية، أطعمة يصعب هضمها وتسبب تقلصات وآلامًا وحرقة في المعدة، والشعور بالضيق في الصدر، وانتفاخ وغازات، وأحيانًا الشعور بالغثيان، وتهيج القولون، وقد تكون سببًا لمشكلة بوادر قرحة.

الهضم عملية لا إرادية، فأنت لا تستطيع أن تأمر معدتك أن تهضم هذا الطعام أو ذاك، أو أن تسرع في الهضم أو تبطئ، ولكنك تستطيع أن توجهها بطريقة غير مباشرة عن طريق حالتك النفسية أو العاطفية، فعند تعرض الإنسان لأي مؤثر يؤدي للغضب أو التوتر أو القلق وغيرها من الانفعالات الإحباطية، فإن الجسم يستجيب لهذا الانفعال على نحو هرموني عصبي، يؤدي إلى استنفار جميع أعضاء الجسم للقيام بجهد عظيم وهو نوع من التكيف الوظيفي الهادف إلى الهجوم بغية الدفاع عن النفس، وفي مثل هذه الحالات قد يصاب الإنسان بقرحة المعدة نتيجة لفرط إفراز عصارة المعدة.

لإلقاء نظرة على المحطة الأولى في رحلة الطعام داخل أجسامنا، فمن الضروري أن نعلم أن هناك حواجز تقف حائلًا أمام الاستفادة من الطعام المتناول، فمضغ الطعام مضغًا جيدًا من العوامل المهمة الواقية من اضطرابات الجهاز الهضمي، حيث إن المضغ الجيد والبطيء يسمح بمزج الطعام باللعاب وتحويل النشا إلى سكريات أسهل هضمًا، مثل الجلوكوز يتم هضمه على الفور؛ فهو يتألف من جزيئات بسيطة تدخل الدورة الدموية خلال دقائق، بينما نكون لا نزال نمضغ لقمة أخرى من المأكولات نفسها، أما معظم الأطعمة الأخرى فتحتاج إلى معالجة ليكتمل هضمها وتصل خواصها الغذائية عبر الدم إلى الخلايا، تبدأ هذه المعالجة في الفم، فالمضغ الجيد يهيئ المعدة لإفراز العصارات الهضمية، وتحول دون سرعة التهام الطعام والإفراط فيه دون وعي، وتنتهي الرحلة في الأمعاء الدقيقة التي تمتص ما يحتاج إليه الجسم من المواد الضرورية في الغذاء، وتنقله إلى الدورة الدموية.

وتتوقف عملية هضم الطعام على عوامل عدة: كمية الطعام ونوعيته والوقت الكافي لتناوله، والمضغ، وصحة الأسنان، وعمر الإنسان، وصحته، وحجم جسمه، والانفعالات العاطفية والنفسية.

وحينما تشرف رحلة الطعام على الانتهاء، بعد تحقيقها الهدف المنشود من امتصاص ما بداخل الطعام من عناصر غذائية، وطرح باقي الغذاء المهضوم خارج الجسم، ويفضل دائمًا أن تكون عملية الإخراج كل يوم بشكل طبيعي، بعد كل وجبة غذائية، هناك حركة طبيعية تصدر عن الأمعاء الغليظة لحث القولون على التخلص مما فيه من فضلات، وينصح دائمًا بأن يتجاوب الإنسان مع هذه الحركة وألا يعمل على تغيير مواعيدها، والابتعاد قدر المستطاع عن استعمال المسهلات والملينات غير الطبيعية، فالوجبة الغذائية الغنية بنسبة كبيرة من الألياف أكثر فائدة ومأمونية من الأدوية.

في سياق التحولات العصرية وما طرأ عليها من تغيرات على حياتنا اليومية وعلى مأكولاتنا نتيجة الانفتاح الكبير الذي شهده العالم كان لها الأثر الكبير على سلوكياتنا وأذواقنا وأنماط حياتنا، فقد دخلنا إلى ثقافة لها نمطها الخاص فيما يتعلق بتناول الطعام، وهو نمط لا يقيم أي اعتبار لآداب المائدة، كما أن المأكولات المصنعة والوجبات السريعة غير مغذية، ذلك أن المغذي هو الطعام الطبيعي الطازج المملوء بعناصر النمو والمشبع بنور الشمس، وبالعصارات الحية.

وسلوكياتنا في تناول الطعام هي بمثابة وقت مستقطع، خروج عن تقاليد وعادات وثقافات كانت راسخة في مجتمعنا منذ القدم، ومن علامات التجدد الذي طال أول من طال أولئك الذين يجلسون كثيرًا ويأكلون كثيرًا، ويبتلعون الطعام بدون مضغ، وكيفما اتفق وبعضه غير صحي، بدأ الترهل وشكل السمنة يزحف على بعضنا، وبتنا نسمع عن أمراض ما كنا نسمع بها أبدًا، وموتى لأسباب غريبة.

تعي الذاكرة الكثير مما كان يطبع في بيئتنا قبل خمسين عامًا، كانت الحياة بسيطة وهادئة غنية بالقيم، رغم الظروف القاسية التي تعيشها غالبية الناس إلا أنهم أقوياء، أجسامهم لا تعرف الترهل والضعف. لقد كان مذهب الناس في مأكلهم آنذاك ألا يزيدوا على ما يقيم الأوَد، ففي هذا تلاقي أساليب التهذيب في الأكل ما ارتقى بهذه الرغبة الإنسانية إلى ما يميزها من طبع بقية المخلوقات في طلب الطعام.

إذا ما راجعنا العادات الغذائية وسلوكياتها لدى البشر، فإننا سنجد منها ما هو مفيد، ومنها ما هو ضار، عادات وتقاليد قديمة وموروثات تشكلت من ثقافات وحضارات الشعوب.

في أمس قريب، كانت مائدة الطعام وقتًا لتجمع العائلة مرة أو مرتين كل يوم، المائدة التي تربطها بأفراد الأسرة عادات وقيم ومفاهيم. توفر الاستقرار الكافي والدفء الأسري والمناخ التربوي المفيد، يلتقي فيها أفراد العائلة متجاورين متقاربين، تاركًا كلٌ منهم برنامجه الخاص ليحضر هذا الالتفاف الحميم، فرصة لغذاء البدن ودعمًا للروابط الأسرية والعلاقات الخاصة بين أفراد البيت الواحد، ولهذا المظهر عادات وآداب تعلم الأطفال والصغار كيف يأكلون ويشربون، بل وآداب الكلام والاستمتاع، وهم يشاهدون من هم أكبر منهم يمارسون تلك العادات أمامهم في شيء من التربية والتهذيب بالقدوة، ولعل من أجمل تلك اللمحات التربوية لاجتماع العائلة على مائدة الطعام الالتزام بموعد الطعام، مما ينظِّم يوم الأسرة ويعلِّم الصغار وحتى الكبار الانضباط واحترام الوقت، ففي الساعة المحددة ثَمَّة غذاء ينبغي حضوره، والتأخر عنه يعني فاتورة من الجوع تدفعها المعدة لقاء تخلف صاحبها عن موعده، وكذلك الحال في العشاء، مما يجعل الإيقاع في البيت كله رغم اختلاف برامجه متوافقًا وملتزمًا.

لكن مع إيقاع الحياة العصرية وعلامات التحضر اتخذت مائدة الطعام اليوم شكلًا مغايرًا عمّا كانت عليه في البيئات القديمة من حيث البساطة التي تتمتع بها، بسبب تحولات مستمرة في مجتمعنا، ودخولنا في صراع التمدن، الذي واكب ظاهرة المطاعم والبوفيهات والأكل خارج المنزل، وهكذا أصبح اليوم العائلي يمر من دون اجتماع حقيقي، ومن دون لقاء صافٍ من ارتباطات الحياة وصخبها وتفاصيلها.

من المفيد جدًا أن تجتمع الأسرة بكاملها على مائدة الطعام ولو مرة واحدة في اليوم، فهذا يعزز كثيرًا الترابط بين أفرادها، ويسمح للوالدين بتلقين الأطفال آداب المائدة والتصرف بشكل لائق أثناء تناول الطعام.

وتحت وطأة الحياة العصرية فقدنا الاهتمام بالمائدة العائلية وتأثيرها السلبي على سلوكيات أفرادها، هناك من يريد العودة إلى “مطعم الأم” وحركة الطعام البطيء، العودة إلى موروث الآباء والأجداد الذي تعرض للاضمحلال، تريد إعادة الاعتبار لكل ما فقد، نتناول الطعام على مائدة وإحدة في صحن مشترك والطريقة التقليدية “اللقمة” بواسطة اليد، وشرب الماء في إبريق من الفخار ومن ثم في إبريق من الزجاج، والويل لمن يتأخر، فهناك قواعد شديدة الصرامة تعمم على جميع أفراد العائلة، هم محكومون بما تعوَّدوا عليه بآداب المائدة.

كما أن هناك عادات يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار لكونها جزءًا من الحالة الاجتماعية، فكرة تناول وجبة واحدة في اليوم، أو وجبتين فقط أو ثلاث وجبات، فالأفارقة في جنوب إفريقيا “مثلًا ” يفضلون العمل طوال اليوم بمعدة فارغة حتى يأكلوا وجبتهم الوحيدة والكبيرة في المساء، الوجبة الواحدة في اليوم هو سلوك غير مفيد، ليس لأن معدتنا صغيرة لحشوها بكل الأطعمة اللازمة لجسمنا في وقت واحد، بل كفاءة عضلات الجسم تقل بصورة ملحوظة عند حرمان الإنسان فطوره أو وجبة غذائه، في حين أن أكثر من ثلاث وجبات في اليوم من وجهة نظر بعض المختصين هو إجهاد للمعدة وعدم إعطائها قسطًا من الراحة بعد هضم الوجبة السابقة، بينما الشعوب العربية والإسلامية أصبح عاديًا أن يتناول الإنسان هناك ثلاث وجبات غذائية رئيسة.

إن نظام تناول ثلاث وجبات من الطعام في اليوم هو أفضل نظام غذائي للجسم، حيث لا يسمح بترسيب الدهون وحدوث السمنة؛ لذا ينصح دائمًا بأن يأخذ الإنسان ثلاث وجبات في اليوم وليس واحدة، سلوك بطبعه موروث تعودنا أن نمارسه منذ زمن الأجداد، نجد الناس في ذلك الزمن ملتزمين بأوقات الوجبات، هم يتناولون طعام الغداء في الغالب بعد صلاة الظهر تتبعها القيلولة “نومة بعد الظهر”، لذلك ينصح بألا تغادر منزلك في الصباح دون إفطار، ولا تدع مشاغلك تنسيك وجبة الغداء في موعدها، ولا تنس تناول وجبة العشاء قبل النوم بنحو ساعتين إلى ثلاث ساعات، ويفضل ألا تقل المدة الزمنية بين الوجبة والأخرى عن أربع أو خمس ساعات، فهذه هي تقريبًا المدة الضرورية لهضم الطعام في المعدة وتهيئة الجسم لتقبل وجبة جديدة.

لكن مع إيقاع الحياة العصرية وجدنا أنفسنا أمام وجبتين فقط في اليوم هما الفطور والغداء، ووجبة الغداء تقدم في المساء. أكبر تحدٍّ يواجهك هو ما تضعه في جوفك، بحيث ترضي شهيتك دون أن تضر بصحتك، فنوعية الطعام وكميته وعدد مرات تناوله وطرائق طهيه وإعداده وكيفية تناوله وحاجة جسمك إليه، أمر ليس بالسهل، ولكن تعودك أن تختار أصناف وجبتك بعقلانية، سوف يريحك ويجعلك تتمتع بجهاز هضمي سليم.

وخير ما ننصح به عند الإحساس باضطرابات معدية نتيجة لتناول وجبة ثقيلة، أن يمتنع الإنسان عن تناول الوجبة التالية، فإراحة المعدة بعد الإثقال عليها أو إثارتها، تهيئ لها فرصة طيبة لاستعادة نشاطها وإعادة تنظيم وظائفها. إن وجبة تمتنع عنها لن تضرك، ولكن وجبة تتناولها والمعدة ممتلئة قد تؤدي إلى عواقب مرَضية غير محمودة.

هناك أشخاص يصلون إلى مرحلة متقدمة من العمر، وهم لا يزالون يتمتعون بنعمة الصحة الجيدة لكونهم يهتمون بشؤونهم الغذائية والبدنية وتحسين وسائل العيش والبعد عن الانفعالات والاضطرابات النفسية التي تشوّش على صحتهم.

لا يزال يغلب على عادة كثير من الناس أنهم يأكلون تلبية لحاجة البطن، نراهم يثقلون على أجهزتهم الهضمية، ثم يشكون مما يعانونه من اضطرابات هضمية ومعوية. إن الغاية المقصودة من الغذاء هي حفظ الجسم وحيويته، وتحقيق نموه، ووقايته من الأمراض، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بتحقيق مبدأ التوازن والاعتدال، وهو لا يتعارض مع مبدأ التذوق والاستمتاع بلذة الطعام.

وأخيرًا، إن ما لا يفهمه كثير من الناس معرفة المفتاح الصحيح، فالأمر في حقيقته ليس في أن نأكل قليلًا فقط، ولكن أن تأكل بصورة جيدة وصحيحة ثم أن يضاف لذلك شيئًا من النشاط البدني والاستقرار النفسي.

منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات



error: المحتوي محمي