يا زمن الوصل بالجامعة!
نعم جامعة الرياض -الملك سعود حاليًّا- في منتصف السبعينات الميلادية. وفوائض الطفرة البترولية تنعكس على أجواء كلية الآداب، حيث تم التعاقد مع أبرز أساتذة الأدب والتاريخ والاجتماع والإعلام.
من بين هؤلاء أستاذنا حسن ظاظا، كان مع الأستاذ الكبير الدكتور شكري عياد، والأستاذ الحبيب الدكتور أحمد كمال زكي، والعلامة النحوي الدكتور حسن عون، والناقد البارز الدكتور عز الدين إسماعيل رحمهم الله، هم طليعة الجيل الأكاديمي المخضرم، الذي أسس مع أستاذهم الدكتور طه حسين مفاهيم منهجية جديدة في معالجة قضايا الأدب واللغة والتراث، وأيضًا الدراسات الشرقية، التي التقط الاهتمام الأكاديمي بها الأستاذ العميد، بين جامعتي القاهرة والإسكندرية، وكان الدكتور ظاظا واحدًا من التلاميذ النجباء، والمغامرين في حقول المعرفة وعوالم البحث، فذهب إلى القدس، في سنوات ما بين الحربين، ليحصل عام ١٩٤٤م على درجة الماجستير من الجامعة العبرية، أي قبل قيام الدولة إسرائيل الصهيونية.. في موضوع لا ينفصل عن موضوعات الأدب المقارن، رغم مضمونه الفكري، فإذا رسالته عن “أثر المناهج الإسلامية في تأليف العلوم الدينية عند اليهود” تفتح أمامه آفاق التاريخ واللغة والأدب اليهودي قديمًا وحديثًا، ليستكمل هذا الموضوع سنة ١٩٤٨م في جامعة السوربون الفرنسية بنيل أطروحة الدكتوراه.
وبعدها تنقَّل الدكتور حسن ظاظا، بين عدد من الجامعات العربية والإسلامية، أستاذًا للغات السامية وفقه اللغة والثقافة اليهودية بوجه خاص.
بهذه الخلفية العلمية المهيبة جاء إلينا في كلية الآداب في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين.
في البداية -وكنا نراه في ممرات الكلية- لم نألفه، فهندامه لم يكن بذلك المستوى الأنيق، ووجهه لم يكن على ذلك المستوى الوضيء.
لكني على الفور اكتشفت فيه شخصية بوهيمية، بمجرد دخولي غرفة المحاضرات، لأقرأ عليه وزملائي دروسًا في فقه اللغة، وهي ما وفرت علينا قطع المسافة النفسية الرهيبة، التي يقيمها عادة أساتذة اللغة، بينهم وبين تلاميذهم!!
فإذا الدرس أصبح سهلًا ميسورًا، والأستاذ الذي حسبناه متجهم الوجه، فوضوي الهيئة، يضم بين جوانحه الأكاديمية الصلبة، شخصًا آخر، هو فنان بروحه، وطفل بأحاسيسه، أديب رائع البيان، وشاعر ذكي التعبير، وماذا بعد؟
إنه فوق ذلك عالم في معارف مختلفة، تتراوح بين اللغات السامية والتاريخ اليهودي، لكنه لا يعبِّر عن معارفه الجمَّة هذه، بأساليب أكاديمية مدرسية باردة، كلَّا! وإنما هو يسردها عليك، كراوٍ!! وبهذا يأخذك إلى عوالم كنوزه أخذًا سحريًّا فاتنًا، كلما فتح لك قمقمًا من معارفه، وجدت قمقمًا معرفيًّا آخر في انتظارك!!
لقد سيطرت عليَّ شخصية أستاذنا الدكتور ظاظا، كما فعل قبله أستاذنا الدكتور شكري عياد، فرحت أنجذب إلى محاضراتهما في الكلية، وإلى أحاديثهما خارج الدرس، بينما كنت أتغيَّب عن كثير من دروس بعض الأساتذة! بحجة الانشغال الصحفي والتلفازي، ولكن المرة الحقيقية التي كنت أواجه بها بعضهم، وقد أصبحنا أصدقاء.. أن الدروس -ولا أقول المحاضرات!- لا تضيف لي شيئًا!!
وكيف لها أن تضيف لي ولغيري من إشباع معرفي، وهؤلاء الأساتذة يكادون لا يختلفون عن أساتذة المرحلة المتوسطة والثانوية، باعتمادهم في الدرس الجامعي على مذكرات منسوخة، وإملاءات مكرورة!!
الدكتور ظاظا وقبله الدكتور عياد كانا يختلفان كل الاختلاف عن هؤلاء الأساتذة المنمَّطين، لم أقل: المحنطين!!
تجلس إلى الأستاذ عياد أو الأستاذ ظاظا، وكأنك في حلقة صوفية! تجذبك أجواؤها إلى القطب.. إلى الشيخ.. كيف لا؟ وأنت المريد!! على أن ظاظا أو عياد، لم يكونا شيخين مستبدَّين، كلَّا وألف كلَّا!! إنهما أقرب إلى الصديقين، يحاورانك فيما يجري في الدرس من أفكار ومعارف وأساليب تحليل، بكل حرية وانسياب.
وفوق ذلك فالدكتور حسن ظاظا كان يتمتع بحس دعابة سيطر على مجامع قلوبنا من أول درس!!
إذن فقد كان أستاذنا الدكتور حسن ظاظا، من نمط خاص بين مدرسينا وأساتذتنا في كلية الآداب، في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين!
فهو ليس مدرسي الأسلوب في محاضراته، وإنما يحاضر علينا، وكأنه يتحدَّث إلينا في جلسة حميمة، وبطريقته الاسترسالية، كان يقدم إلينا الدرس الجامعي في لفافة كرنفالية من الثقافات، تتراوح بين الأدب والشعر والفن والتراث والسياسة، بينما موضوع الدرس هو “فقه اللغة”!!
هذه الطريقة الجذَّابة، لفتتنا إلى طبيعة شخصيته البوهيمية، المنطلقة في فضاء المعارف القديمة والمعاصرة، لكنها المقيَّدة بالتخصص الدقيق، في دراسة الفكر والأدب اليهودي.
ومع الأسف أنه طوال فترة تدريسه في الجامعة، وطوال إقامته في المملكة، لم تُسْتثمر علوم الدكتور ظاظا -كما يجب- في معرفة الآخر اليهودي، ودراسة أبعاد المشروع الصهيوني؛ في قضايا السياسة والثقافة والأدب.
ولعلِّي أكون من أوائل من حاول استثمار بعض العلوم، حين وجدت نفسي -ذات يوم- في موقف حرج، بعدما قدَّمت الحلقة الأولى من برنامج “الكلمة تدق ساعة” في التلفزيون السعودي، سنة ١٩٧٨م، وكان ضيفها الرئيس الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم، في حوار صريح حول موقفه المؤيد لمعاهدة كامب ديفيد، والمتحامل على الموقف العربي المعارض للمعاهدة!! ولم أعلم أن أجهزة المتابعة والتنصت الإسرائيلية، كانت بالمرصاد لما يبثُّه الإعلام السعودي، من مواقف مناصرة للحق العربي، ومعادية للعدو الإسرائيلي، إذ قامت بالتقاط وقائع الحلقة الحوارية مع توفيق الحكيم؛ لتتولَّى في اليوم التالي، الدفاع عنه والهجوم على الإعلام السعودي، عبر صوت الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية!! لم أعلم حقيقة ذلك إلَّا من الدكتور حسن ظاظا، الذي كان يتابع بحكم التخصص والاهتمام، ما تبثُّه أجهزة الإعلام الإسرائيلية باللغات العربية والعبرية والإنجليزية.
وحينما أخبرني بذلك -يرحمه الله- كان وزير الإعلام الأسبق الدكتور محمد عبده يماني يبحث عني، لتكليفي بإعداد وتقديم الحلقة القادمة من البرنامج، تخصص للرد على الحملة الإسرائيلية ضدنا.
وبالفعل أعددت الحلقة على عجل، حيث كنت قد سجّلت مقابلات أخرى مضادَّة، لما كان يصرح به توفيق الحكيم في الإذاعة والتلفزيون، ويكتبه في جريدة “الأهرام” واصفًا العرب بالأقزام، داعيًا إلى حيادية مصر، وإدارة ظهرها للعرب!! ومن بين من سجّلت معهم -وقتذاك- المفكر الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين.. وهكذا استكملت عناصر هذه الحلقة بتسجيل فوري مع الدكتور منصور الحازمي والأستاذ تركي السديري، وطلب الدكتور يماني أن يكون له نصيب في الحلقة، حتى يأخذ الرد بُعدًا رسميًّا إضافة إلى البعد الثقافي.
وما كان للرد أن يكون مقنعًا وعلميًّا، دون إشراك عالم اليهوديات الدكتور حسن ظاظا، الذي راح يقدّم صورة تاريخية، فضم توفيق الحكيم ووزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان، إلى إطار زمني، لعب فيه إيبان قبل قيام الدولة الصهيونية، دور المستعرب والمهتم بدراسة الأدب العربي والمصري، وبصفة خاصة أدب توفيق الحكيم، الذي ترجم روايته الشهيرة “يوميات نائب في الأرياف”، هذا إضافة إلى محاولة الحركة الصهيونية، إقامة علاقات ثقافية مبكرة بين الأدب اليهودي والآداب العربية، من منطلق إقليمي!! في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصهيونية، تتهيَّأ للإعلان عن نفسها فوق أرض فلسطين بعد عام النكبة سنة ١٩٤٨م.
ولم أحصر محاولة استثماري لعلمية الدكتور ظاظا في هذا الموقف فحسب، بل وجدت نفسي، وأنا أقوم بتجهيز المادة الأولية لإعداد إصدار “الرياض” الأسبوعي سنة ١٩٨٣م أطرق باب شقة أستاذنا -القديمة- في شارع الوشم؛ لإقناعه بالمشاركة في هذا الإصدار، بكتابة زاوية أسبوعية، مع نفر مختار من كبار الأكاديميين والمفكرين والأدباء العرب والسعوديين.
في البداية أبدى عزوفًا عن فكرة الالتزام الصحفي، فهو ليس سوى أستاذ أكاديمي، تعوَّد على إرسال حديثه لطلبته بين جدران أربعة.
قلت له: أنا لا أريد سوى هذه الطريقة الاسترسالية، لأنها تتيح لك أن تعبِّر عن تراكم الطبقات المعرفية في علوم وآداب وفنون عديدة، اعتبرها -أيها الأستاذ- بمثابة تنفيس لذلك التراكم، ومواصلة وعقد صداقة مع قراء، طالما تحلَّقوا حولك في الجامعة أو في البيت أو في المقهى.
ولم أتركه يهدأ حتى سلَّمني الحلقة الأولى من “الكشكول” التي استمرت زاوية أسبوعية، فوق صفحات “الرياض” الأسبوعي، ثم ملحق الثقافة الخميسي، منذ سنة ١٩٨٣م، حتى وفاته سنة ١٩٩٩م.
وكان حافزي إلى ذلك كله، ضرورة الإفادة من تخصص الدكتور ظاظا في الثقافة والشؤون اليهودية، التي كانت بابًا مغلقًا على عالم يكاد يكون مجهولًا، ليس في ساحتنا الثقافية السعودية، بل والعربية أيضًا، حيث واصل الدكتور نشر زاوية “الكشكول” التي فتحت أعين القراء على عالم هذه الثقافة، المتَّسمة في مجملها بالعداء للعروبة والإسلام.