إن شخصية الحر الرياحي (رض) تمتاز بسمات لا ينبغي المرور عليها مرور الكرام، بل تحتاج مواقفه وتغيير دفة مسيرته إلى التمعن والتأمل بغية الوصول إلى دوس وعبر نستنتجها بعد التحليل الدقيق، إذ كانت البداية منه مع الإمام الحسين (ع) موقفاً متطاولاً غير مسبوق في العدوانية، إذ إنه وقف بجيشه ليمنع الإمام من المسير وأراد أن يجعجع به ويدخله إلى الكوفة أسيراً.
ولم يكتف بذلك بل قام بترويع بنات الرسالة حين اضطربت بها المحامل، لقد كانت تلك الخطوة إيغالاً في الأذية الكبرى بالعترة الطاهرة والتجاسر على الحرمات وتخطي جميع الخطوط الحمر في المواجهة، ومما يتضح لاحقاً من شخصية الحر ومحاورته مع الإمام الحسين يتبين أنه لم يكن متصوراً لوصول الأمور وتدحرجها إلى القتال والرغبة بإنهاء حياة السبط الشهيد والتشفي والانتقام من العترة الطاهرة، ولكن حدث التغير والاستدارة نحو الحق بنحو تدريجي وصولاً إلى السعادة والفوز بنصرة الإمام الحسين والاستشهاد بين يديه.
أولى علائم الفوز والسعادة للحر الرياحي هو اعتذاره وتبرئة نفسه أمام الحسين من الكتابة له بالنصرة إن قدم للعراق، حينما أبرز الإمام الكتب للإفصاح عن النوايا وفضح المنافقين والمترددين، وهذا الاعتذار منه (رض) يدل على الكرامة والعزة التي تنهاه عن الغدر والخيانة.
وثانياً: لما دعاه الإمام الحسين وقت الظهيرة ودخول وقت الأذان ليصلي بأصحابه، فبادر بالرفض وإبراز موقفه من المكانة الدينية للإمام، قائلاً: بل نصلي بصلاتك يا ابن رسول الله (ص)، فما أعظمه من تبجيل وإعظام يحمله الحر لمقام السبط الشهيد في قلبه وإن لم يصل لمرحلة الولاية والمشايعة، ولكن قلبه عامر بالمحبة التي أوصى بها القرآن الكريم والرسول الأعظم (ص).
وحينما حانت ساعة المواجهة ورفض الإمام الحسين ما أبداه الحر من فرض الذل والإهانة عليه بإدخاله الكوفة أسيراً ومن معه، تراجع الحر وعرض النصف في الحل بما يجنبه المواجهة مع ابن رسول الله، بأن يختار طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يرجعه المدينة المنورة كمخلص له من الدخول في مواجهة قتالية مع الإمام (ع)، وهكذا يتسلسل نور الإيمان وشعاع السعادة في قلب الحر حتى تتم حلقاته في اليوم العاشر من محرم، حيث وقف وقفة المتأمل والمتفكر في عواقب آخرته يوم يواجه رسول الله طالبا شفاعته وهو شريك في سفك دماء سبطه!!
إنها مواجهة ومفترق طرق بين الحق ومصير من يتبعه الجنة وبين الباطل ومآله نار جهنم، وهل يمكن لمثل الحر وبعظمة فكره أن يختار على الجنة مواجهة المصير الأسود والخلود في نار جهنم؟!
وهذا أول الدروس التي نتعلمها من هذا العظيم وهو النظر في أي خطوة نقدم عليها، هل تقربنا من رضوان الله تعالى أم أنها تجعلنا من الخاسرين في يوم الحساب؟
الحياة الدنيا الفانية لا يمكن مقايسة نعيمها الزائل بالآخرة الباقية، ولا يفعل ذلك إلا من غلبت عليه شقوته وغاب عقله واتبع شهواته.
وثالثاً: لقد كان الحر الرياحي على شفا حفرة السقوط الهاوية، ولكن ضميره استيقظ في اللحظات الأخيرة واستدار تماماً نحو أداء الواجب الذي يحتم عليه وهو الدفاع عن سبط رسول الله (ص)، إنها قوة الإرادة وتغليب موازين العقل الواعي واستعادة الكرامة الإنسانية، فالحر يتضح من موقفه أنه صاحب مبادئ وقيم تمنعه من الانحدار إلى مهاوي الشهوات المتفلتة، ولقد استقبلته الرحمة الحسينية يوم أقبل مطأطئ الرأس معلناً ندمه وتوبته، فالحياة الكريمة التي يحافظ فيها المرء على كرامته وقيمه هي ما تستحق التمسك بها، وأما حياة الذل والهوان لأصحاب الطغيان فلا تليق بالأحرار، وأي خاتمة في حسنها كنيل وسام شرف الشهادة بين يدي سبط رسول الله (ص) مرافقاً في آخرته تحت راية الأوفياء الأحرار ممن بذلوا مهجهم.
وهذا درس ثالث نتعلمه من قدوتنا الحر الرياحي وهو الأمل بالله تعالى ونيل ثمرة التغيير، بعد محاسبة النفس والوقوف على مكامن الخطأ والتقصير، فصياغة النفس المتكاملة تمر بمنعطفات السقوط والعثرات ولكن بالهمة العالية نقف مجدداً، والمهم أن نرعي سمعنا وأفئدتنا لصوت الحق والحكمة لنستيقظ من سبات الغفلة، كما استيقظ الحر على صوت أبي الأحرار الذي دعا أعداءه إلى التخلص من أغلال حب الدنيا ونفض غبار التبعية العمياء، فإن النفس إذا تغلغل فيها حب الدنيا وتحصيل المنافع الخاصة تخلت عن كل القيم وأصبحت عمياء تتبع كل ناعق ودافع للمال، فأعداء الإمام الحسين (ع) وإن كان ظاهرهم التمسك بالعبادات كالصلاة، ولكنهم يعيشون واقع الفساد في العقيدة والسلوك من خلال اللهاث خلف متاع الدنيا الزائل، ومن أجل مصالحهم ما تركوا موبقاً ونقيصة كالكذب والخديعة إلا وأتوه، فسلام على من عاش حراً في الدنيا وسعيداً في الآخرة.