
بين العلم والترويج التجاري منافع متبادلة، قبل سنوات غزت عقولنا هوس بدائل الدهون والسكر ومنخفض الكوليسترول، والسعرات الحرارية وما شابه ذلك، تحمس لها لمن يريد إنقاص وزنه أو التخلص من مشاكله الصحية، لقد استفادت مافيا صناعة الغذاء والشركات التجارية والتي يحيط بها المحامون المحترفون والسياسيون الانتهازيون والمستفيدون من صناعة الترويج بكل ما فيها من أدوات.
هذه الشركات التي لا تحكمها أية أخلاق أو مبادئ إنسانية، وإنما يحكمها الجشع في أبشع صورها، مضت في طريقها غير الأخلاقي بأخذ خطوة أبعد من ذلك، فقد قاموا بإنتاج مشروبات توفر الحاجة اليومية من الطاقة تفاعل معها لمن يميل كثيراً نحو رفع الطاقة الحركية والنشاط، فكانت سبباً في تدمير صحتهم، كل ذلك دون أن يحرك للشركات المصنعة والمسّوقة ضمير إنساني!
يتعرض المستهلكون إلى معلومات مضللة عن ما يطلق عليه بـ “شراب الطاقة” يحمل على غلافه إشارة كبيرة تقول “يعطيك النشاط والحيوية طيلة اليوم” لتجد طريقها إلى المستهلك في ظل التسويق الهائل للمشروبات الغازية والطاقة، خطأ كبير هذا الاندفاع نحو مزاعم غذائية خاطئة.
إذن، ما هي مشروبات الطاقة؟
ليس هناك تعريف علمي متفق عليه، وإنما يعود إلى مكوناتها، هي مشـروبات غازية أو غير غازية تحضر أساساً من الماء، مواد منبهـــة مثـل (كافييـن، تاورين، اينوســـيتول، جلوكورونولاكتـــون) أو مصادرها، وبعـــض العناصر الأخرى مثل الفيتامينات والأملاح المعدنيـة والأحماض الأمينية والمحليات، والمواد المضافة والمستخلصات النباتية المسموح بها. ( المصدر: مشروبات الطاقة SFDA.FD 1926 /2019).
وفي نظرنا هذه المشروبات عبارة عن مستحضرات صناعية في تركيبها ما عدا الماء، تدخل في صناعتها مركبات كيميائية كمنبهات ومحليات ومكسبات طعم ونكهات وأصباغ ومواد حافظة، وليس لهذه المكونات فائدة غذائية تذكر.
إطلاق مسمى “مشروبات الطاقة” لهذه النوعية من الأغذية، يعني أن هذه المشروبات تتركب من عناصر صحية وتغذوية تمد الجسم بالطاقة المطلوبة، وقد يترتب على ذلك المسمى حدوث نوع من التضليل أو الخداع وأشياء كثيرة، حيث أنها منبّهات أكثر من كونها تُعطي طاقة.
إذن، حين نتعامل مع مشروبات الطاقة، فإننا لا نتعامل مع مادة كيميائية واحدة ذات تأثير واحد محدد، وإنما مع مجموعة مواد تسلك سلوكها الخاص، ويكون تأثير المواد التي يضمها معاً، هو مجموع كل هذه التأثيرات من منطلق المكونات الداخلة في تركيبها مثل الكافيين وبقية المنبهات الاصطناعية الأخرى، هذه المركبات ذات فعالية على الجهاز العصبي للإنسان وتسبب اضطرابات عضلية وعقلية ومتاعب صحية، وأمراضاً كبدية وقلبية وكلوية ورئوية وسرطانات، ويمكن أن يؤدي شرب أكثر من عبوة، الشعور بالأرق والتوتر وإلى تخفيف الصوديوم المطلوب إلى مستوى خطير مما يسبب الجفاف والقيء والهذيان، والشد العصبي والرجفة فتقل قدرته على أداء أعماله العضلية والعقلية، هذه المضاعفات قاتلة في كثير من الأحيان.
دخلت مشروبات الطاقة السوق العالمية في عام 1987م، حيث ادعى مسوقوها ومنتجوها بأنها تعطي مؤثرات إيجابية على وظائف محددة من أجهزة الجسم المختلفة، مما أدى إلى انتشارها سريعاً في معظم دول العالم، ومما أثار اهتمام الناس في جميع انحاء العالم بمأمونيتها وفاة شاب إيرلندي بلغ من العمر 18 سنة في عام 2000م، حيث توفي أثناء ممارسته الرياضة، بسبب خلل في إحدى وظائف القلب ؛ جرّاء استهلاكه أربع علب من أحد مشروبات الطاقة قبل ممارسته تلك الرياضة.
أظهرت إحدى الدراسات أن 28% من الذين تتراوح أعمارهم بين 12 – 14 سنة، و31% من الذين تتراوح أعمارهم بين 12 – 17 سنة، و34% من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 24 سنة، يستهلكون مشروبات الطاقة بشكل يومي. (المصدر: مجلة طب الأطفال – المجلة الرسمية للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) (هنا).
توصلت دراسة أجريت في عام 2003 م في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة إلى أن استهلاك كمية تصل إلى 400 ملغم من الكافيين بواسطة أشخاص بالغين وأصحاء غير مرتبطة بتأثيرات سلبية، وبالرغم من ذلك فإن الأشخاص المعرضين لخطورة أكثر مثل النساء في السن المناسبة للإنجاب والأطفال، يجب أن يقللوا من استهلاكهم يومياً من الكافيين إلى 300 ملغم للنساء و25 ملغم/ كجم من وزن الجسم للأطفال وبالتالي يجب على هاتين الفئتين تجنّب استهلاك مشروبات الطاقة التي لها محتوى عالي من الكافيين، ولقد وُجد أيضاً أن المراهقين يجب أن يقللوا من استهلاك الكافيين، إذ أنه إذا زاد عن 100 ملغم يومياً قد يكون مرتبطاً بارتفاع ضغط الدم، وبناء على نتائج تلك الدراسة فإن استهلاك مشروبات الطاقة بواسطة الحوامل والمرضعات والمراهقين والأطفال غير موصى به.
أما بالنسبة للمواصفات والتشريعات الدولية فهناك ضوابط واشتراطات للسماح بتداولها في كل دولة، فمثلاً منعت فرنسا والدنمارك والنرويج دخول مشروبات الطاقة وتداولها في أسواقها قبل عام 2008 م، بينما في أستراليا وضعت مواصفة للمشروبات التي تحتوي على الكافيين، أما في الولايات المتحدة فإن إدارة الغذاء والدواء (FDA) تعامل مشروبات الطاقة على أنها أغذية تقليدية أو مدعمات غذائية، تلك الضوابط تشير إلى الخطورة المحتملة من خلال استهلاكها. (المصدر: بحث مشروبات الطاقة 24 – 04…1 , الهيئة العامة للغذاء والدواء).
وما يصدر عن المنظمات والهيئات الدولية ذات العلاقة وما تتضمنه من متطلبات وتحذيرات يتوجب الالتزام بها من المصنّعين والمستوردين.
وأشارت الهيئة العامة للغذاء والدواء إلى أن اللائحة الفنية السعودية/ الخليجية ( GSO1926) اشتراطات تداول مشروبات الطاقة، تتضمن العديد من البنود، ومنها إلزام مصنّعي ومستوردي هذه المنتجات بتسجيلها لدى الهيئة قبل البدء بتسويقها، والتقيد بحدود المكونات الداخلة في تركيب هذه المنتجات ومنها: (ألا يزيد محتوى هذه المشروبات من الكافيين على 32 ملغم لكل 100 مل، والإينوسيتول عن 20 ملغرام لكل 100 مل، والتاورين عن 400 ملغرام لكل 100 مل)، مع الالتزام بكتابة العبارات التحذيرية التالية بخط واضح وبارز على العبوة: “يجب عدم تناوله من قبل الحوامل، والمرضعات، والأطفال أقل من ستة عشرة سنة، والأشخاص الذين لديهم حساسية للكافيين، والذين يعانون من مشاكل في القلب، والرياضيين أثناء ممارسة الرياضة”.
كما ألزمت الهيئة محلات بيع الأغذية ومراكز التسوق أن يكون عرض منتجات مشروبات الطاقة في ثلاجات أو رفوف مخصصة لها مفصولة عن المشروبات والمنتجات الغذائية الأخرى، وأن يكتب على الثلاجات والرفوف المخصصة لتلك المشروبات في المتاجر العامة التحذيرات المدونة على العبوة وبطريقة واضحة وبارزة.
ونصحت الهيئة العامة للغذاء والدواء المستهلكين عند الرغبة في تناول المنتجات الغذائية، خصوصاً تلك التي تحتوي على محتوى عالٍ من الكافيين مثل مشروبات الطاقة، بالتوازن في استهلاكها، وعدم الإفراط فيها، خصوصاً عند تناول منتجات أخرى تحتوي على الكافيين مثل المشروبات الغازية والقهوة ومنتجاتها، إضافة إلى التقيد بالتحذيرات والتعليمات المكتوبة على العبوة.
ولكن للأسف الشديد ما نراه في محلات بيع الأغذية خلاف متطلبات الهيئة العامة للغذاء والدواء.
التحدث عن العادات السيئة الملاحظة في المجتمع السعودي أمر ليس بالسهل تغطيته، ولكن دعونا نمر سريعاً على بعض ما نشهده، ابتداءً من السماح للطفل بشراء المشروبات الغازية والطاقة من البقالة، يقف الآباء عاجزين مستسلمين أمام رغبات أطفالهم، وانتهاءً بتفشي عادة شرب المشروبات الغازية والطاقة وما يمكن أن تسببه من أضرار على صحة الأولاد، فلا يكفي أن يندب الأبوان شغف صغارهما لشرب هذه المشروبات، بل لا يكفي أن نترك الحبل على الغارب لأبنائنا للذهاب متى شاءوا والتهام ما شاءوا دون قيد أو شرط بلا وعي أو تربية، ثم نحمل غيرنا مصدر لبلائنا، إننا في حاجة إلى أن نربي أطفالنا فلذات أكبادنا ونربي أنفسنا على كيفية التعامل مع غذائنا بطريقة صحيحة بعيداً عن المغالطات.
المشهد المتمثل في تهافت عدد كبير من الشباب على تناول تلك المشروبات، قد يكون مرده التقليد، تلك السلوكيات السيئة التي طغت على القيمة الغذائية سيطرت على طعامنا، انتشرت هذه المشروبات على نطاق عريض دون دراية بخطورتها أو غافلون حقيقتها ؛رغم عبارات التحذير المدونة على العبوة، فإن أغلب المستهلكين لا يعنيهم قراءة التحذيرات، وحتى الذين قرأوا التحذير لم يأخذوه على محمل الجد، والأسوأ من هذا كله أن نسبة كبيرة من الناس لم تفكر في أن هذا الأمر يهمها في شيء، والشاهد على ذلك ما نجده من سلوك المدخنين، هم يدركون أضرارها، لكنهم لن يعدلوا عن هذه العادة القاتلة، لذا يجب أن ينصبّ الاهتمام من الهيئة العامة للغذاء والدواء على إيقاف أو مراجعة ضوابط فسحها، نظراً للتداعيات والمخاطر الصحية جراء تناول مشروبات الطاقة، إذا تناولها صغار السن والناشئين، وتمادوا فيها.
كثيراً ما شعرت بالضيق وأنا أشاهد أطفالنا وشبابنا يتناولون المشروبات الغازية والطاقة ويحرصون على وجودها مع وجباتهم، يتناولونها بلذة غريبة مع ما تحويه من ضرر لأجسامهم.
نعتقد أن منطقة الخليج أكثر شعوب العالم استهلاكًـا للمشروبات الغازية والطاقة وهم بالتالي أكثر الشعوب إصابة بارتفاع الضغط الشرياني وأمراض الكلى.
وأنصح بأمر بدهي كثيراً ما ينساه أولئك الذين يعانون فقر الدم المنجلي هو الماء، وأفضل مصادره ماء الشرب والعصارات الحية في الفواكه والخضراوات الطازجة، ولكن للأسف الشديد كثيراً ما شعرنا بالضيق ونحن نشاهد هؤلاء المرضى يتناولون طوال النهار هذه المشروبات كونها البديل الضار لكثير من الأغذية والمشروبات المغذية.
تتنافس الشركات المنتجة لمشروبات الطاقة على تقديم أنواع مختلفة وجديدة من منتجاتها، وتنفق مبالغ طائلة على الحملات الترويجية، نقف هنا أمام عبارات تحولت لدينا إلى حقائق مثل “هذه العبوة تحتوي على عناصر غذائية تمنح الشخص الحيوية، وتبعد عنه شبح الشيخوخة، وتزيد من طاقته الجسدية والذهنية”.
اليوم يمكن تلمس عدد من التساؤلات التي ما زالت قائمة عن حقيقة التأثيرات السلبية الفعلية للتعود على تناول مشروبات الطاقة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كم تحتاج من الطاقة لتحس بالنشاط والحيوية والقوة؟ لقد شعرت بمزيد من الحيوية والنشاط عندما تقيدت بتناول كل شيء طازج، مملوء بعناصر النمو، ونور الشمس، وبالعصارات الحية، مقارنة مع ما كنت اتناوله من مشروبات غازية وأغذية مدعمة، ويمكن ربط الإعياء والكسل وفتور الهمة ربطاً مباشراً بتلك الأطعمة الميتة.
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.