هكذا تحدث عبدالكريم الجهيمان 2 .. معلّم الأمراء ورائد الصحافة بالمنطقة الشرقية

في الجزء الثاني من هذه الحلقة من برنامج “ما بين أيديهم”؛ نستكمل الحوار الممتع والتاريخي مع الشيخ عبدالكريم الجهيمان، وهو يتصفح دفتر ذكرياته وتجربته الثرية في حقل التربية والتعليم والصحافة والبحث في تراث الجزيرة العربية، مع بعض المواقف المهمة.

أول وزارة للمعارف

* نريد هنا أن نواصل الحديث عن تجربتك في حقل التعليم ولكن من وجهة نظر أخرى، وجهة نظر إدارية، وأيضا منهجية، فأنت حينما جئت إلى وزارة المعارف، كانت قد تشكلت أول حكومة متكاملة في عهد الملك سعود، بعد رحيل والده الملك عبدالعزيز، حدثنا عن هذه الوزارة الوليدة، وزارة المعارف، التي كانت نشطة حدثنا عن استقطاب هذه الوزارة لبعض الخبرات التربوية العربية، وكذلك عن إعداد المنهج الجديد الذي سوف يطبق في المدارس السعودية، وحدثنا أيضا عن مجلة المعرفة.

** وزارة المعارف في الحقيقة وُفِقَت بشباب متعطش إلى العمل والتقدم وأن ينتج، وقد وُفِقَت بشخصيات مهمة جدا، اختارها الأمير فهد، خادم الحرمين الشريفين فيما بعد، وكان الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن هو وكيل المعارف، وكان المدير العام هو الأستاذ ناصر المنقور، وكان هناك أيضا الأستاذ حامد الدمنهوري وهو من الشخصيات المحترمة، وكذلك عبدالله المنيعي، وعبدالله النعيم، الذي كان يتولى معتمدية المعارف، فسارت هذه الوزارة سيرًا حسنًا، وكانت تنظيمها بين الوزارات هو النموذج للبقية، وكانت في القمة، وكانت الكثير من الوزارات تستشير وزارة المعارف في التنظيم والترتيب وإسناد كل عمل لمن يناسبه، وسارت خطوات جيدة جدا، وكنت أنا في أثناء عملي بوزارة المعارف، أكتب في الصحف، كنت أكتب في اليمامة، وفي القصيم حيث كان هناك شخص سوداني اسمه عثمان شوقي، وكان أسلوبه لا يعجب المؤسسين، فأقالوه وجاؤوا برئيس تحرير وهو عبدالعزيز التويجري، وهو ليس التويجري الموجود في الحرس الوطني، ونظرًا لكوني موظف دولة فلم يكن ممكنًا لي أن أتولى التحرير، ولكنهم اتفقوا على أن أكون مشرفًا على التحرير، فلا يتم نشر أي كلمة في جريدة القصيم إلا بعد مراجعتي لها.

مع الصحافة

* أشرفت على إصدار جريدة القصيم وأنت في الرياض؟

** كنت أشرف على ما يُنشر فيها، وكنت أكتب فيها أيضا، كنت أكتب بابين أسبوعيين، الباب الأول كان عبارة عن كليمات بعنوان “المعتدل والمائل”، وهذه كان لها تأثير السحر، حيث كانت مختصرة ومركزة ويقرأها الجميع، وكان بها غمزات، ونقد اجتماعي في صالح البلد ويلمس بعض الموظفين الذين كانوا لديهم تقصير في أداء مهماتهم، ولكونها خفيفة ومركزة فكانت تعجب القراء. أما الباب الثاني فهو “مع الزمن”، وقد تكوّن مما كتبته للنشر في جريدة القصيم كتابًا، يبلغ حوالي 350 صفحة، باسم “آراء فرد من الشعب”، وكان به مقالات ذات حرارة، وكلمات خشنة من أجل أن تكون مؤثرة، ومثلما اخترت مما في جريدة “القصيم”، أيضا اخترت مما نُشِرَ في مجلة “اليمامة”، وكوّنت كتابًا أيضا في 350 صفحة، وكان بعنوان “أين الطريق؟”، فنحن كنا قد بدأنا من الصفر، ولكننا ولله الحمد سرنا بخطوات ثابتة، وقد سرنا في بعض السنوات بقفزات، حتى ـ والحمدلله ـ لحقنا بمن سبقنا عشرات السنين.

وهذا شيء نفتخر به، وهو نتيجة لتعاون الدولة مع الشعب، أو تعاون الشعب مع الدولة، وسيرهما في طريق واحد، ليبلغا هدفًا معينًا، وعلى كل حال فقد بلغنا درجات من التقدم، ولا زلنا نرجو أن نتقدم أكثر، لأن الخير ليس منه مشبع، فأتمنى أن يكون لنا الاكتفاء الذاتي وأن نكون أمة منتجة، لا أمة مستهلكة فقط، نريد من بلادنا وشعبنا وحكومتنا أن يكونوا منتجين، لا مستهلكين.

مناهج دراسية

* عندما كنت في وزارة المعارف، هل من هنا بدأت فكرة كتابة او صياغة بعض الكتب المنهجية التي اشتركت فيها مع الأستاذ عمر عبدالجبار؟

** لا أذكر، لأن إدارة المناهج كانت مستقلة، وكل دائرة لها اهتماماتها وأسلوبها الخاص، فالمناهج كانت لها لجانها الخاصة.

* ألم تكتب أنت شيئًا من بعض الكتب المنهجية؟

** كتبت، ولكن كنت في المنطقة الغربية، فأنا كتبت أول كتب مدرسية كُتِبَ على الطريقة الحديثة، مثل مقرر التوحيد، ومقرر الفقه، ومقرر التهذيب، الذي كان عبارة عن آيات من القرآن الكريم، نختارها ونشرح ألفاظها ونوضح بعض أهدافها ومعانيها وما ترمي إليه من إصلاح عقائدي أو إصلاح اجتماعي أو إصلاح في صالح المسلم، وبعضها كان من تأليفي الخاص، وبعضها الآخر مشاركةً مع أستاذ فاضل اسمه عمر عبدالجبار (رحمه الله).

* هو أيضا كتب بعض المقررات المتعلقة بالرياضيات.

** هو مثقف ومتعلم وكان مساعد مدير مدرسة تحضير البعثات.

* هل هو قريب الأستاذ عبدالله عبدالجبار، الأديب والناقد المعروف؟

** لا، مجرد تشابه أسماء ولا صلة بينهما.

مجلة المعرفة

* في الفترة التي كنت فيها موظفًا في وزارة المعارف،أيضا كان لك دور في تنشيط مجلة الوزارة، مجلة المعرفة، التي كان الأستاذ سعد البواردي، أول رئيس تحرير لها، هل من وقفة هنا عن تاريخ إصدار المجلة وبقية المجلات التي أصدرتها بعض الوزارات، كوزارة المالية والاقتصاد الوطني مثلًا؟، لا سيما وأن الجيل الجديد المتعلم وقتذاك قد تحلّق حول هذه المجلات، والعجيب أن هذه المجلات كانت بها هامش من الحرية التعبيرية، في معالجة القضايا العامة بنفس غير مسبوق.

** عندما كنت في وزارة المعارف، كنت من ضمن الهيئة التحريرية لمجلة المعرفة، وكتبت فيها بعض المرات، وكان رئيس تحريرها هو الأستاذ سعد البواردي، الذي إذا تغيّب أو أخذ إجازة، كنت أتولى أنا تحريرها لفترة من الزمن حتى يعود، وهكذا كان هناك بين رجال المعارف تعاون كامل بحيث أنه إذا غاب أحد الموظفين الكبار الذي يتولى شعبة من شعب المعارف، يتولى أحد زملائه وظيفته إلى أن يعود، فكانت روح التعاون موجودة بين كبار الموظفين، ويتناوبون الأعمال إذا غاب أحدهم.

صداقة عمر

* وقتذاك، أصدر الشيخ حمد الجاسر مجلته الشهيرة “اليمامة”، وكنت واحدًا من كتابها، حدثنا عن هذه العلاقة مع الشيخ حمد الجاسر، وهي زمالة عمر.

** الشيخ حمد الجاسر هو زميلي، منذ أن كنا شبابًا صغارًا في الرياض، كان عمري في حدود 13 أو 14 عامًا، وكان هو يزيد عني بـ 3 سنوات تقريبًا، فكنا متقاربين في العمر وكنا زملاء في حلقة واحدة حول المشايخ حيث كنا ندرس، وبعد أن رحلنا إلى مكة، لحق بنا هناك، وكنا زملاء أيضا في المعهد، ولكن بعدما تخرجنا تفرقنا.

* هل من بين أساتذتكم، السيد حسن كتبي؟

** أذكر من أساتذتنا؛ الأستاذ صادق كردي، وخطاط المعارف محمد حلمي (رحمه الله)، حيث سمعت أنه قد توفى منذ فترة قصيرة بعد أن تعدى الـ 100 عام، وأيضا أذكر الشيخ محمد بن عثمان الشاوي، وهذا من العلماء الأفاضل الذين رافقوا الملك في مغازيه، وكان مع الإخوان عندما افتتحوا الطائف والحجاز وغيرهما، وكذلك من أساتذتنا في الفقه؛ محمد بن علي بن القويز.

* هل هو ابن القويز، الذي كان هو مقرئ الملك عبدالعزيز؟

** لا، فعبدالرحمن القويز هو من جماعتنا، وكان هو الذي يقرأ في التفسير والحديث على الملك، بعد العشاء دائما، وكان أيضا إمام الملك عبدالعزيز في رحلاته وإقامته.

* فيما يتعلق ببعض المواقف الطريفة، كان الشيخ حمد الجاسر يأتي إليكم في وزارة المعارف، وذات مرة طرق أبواب عدة، طرق باب الوكيل فلم يجبه.

** أنا أذكر أن علاقته بالشيخ عبدالعزيز، وكيل الوزارة، وعلاقته بالأستاذ ناصر، كانت علاقة عريقة جدا منذ أن كانوا في مصر، حيث كان صديقهما ومحبهما، وكانوا دائما ما يلتقون ببعضهم البعض، وفي يوم من الأيام جاء إلى وزارة المعارف، ولا أدري ما الذي كان يريده، ربما كان يريد أن يقترح عليهم أمرًا من الأمور، وعندما جاء إلى الوزارة، توجه إلى مكتب وكيل الوزارة، الشيخ عبدالعزيز، وعندما جاء ليدخل إليه، وكانت أبوابه مشرّعة على الدوام، ولكن في ذلك اليوم قال الحارس للشيخ حمد إن الشيخ عبدالعزيز عنده اجتماع، فتركه وذهب إلى الأستاذ ناصر المنقور، الذي كان مديرًا عامًا للوزارة، وكذلك قيل له إن لديه اجتماع، وعندما أغلقت في وجهه هذه الأبواب، لم يبق أمامه إلا صديقه، عبدالكريم الجهيمان.

ومن الصدف العجيبة أننا في ذلك اليوم قد جئنا إلى الوزارة مبكرين، لا أذكر لأي سبب من الأسباب، وجئنا بدون إفطار، لم نكن قد أكلنا أو شربنا شيئًا، فطلبنا من الفرّاش أن يأتي لنا بشيء من الأكل، وكان معي الشيخ إبراهيم الحجي ومعنا شخص ثالث لا أذكره الآن، وكنا نأكل ولم نكن نتوقع قدوم أحد، فجاء الشيخ حمد إلى مكتبي، وهو يعرفه جيدًا، فوجد الفرّاش أيضا عند الباب، فقال له: إنه مختصر؛ أي عنده اجتماع أو حاجة، فقال الشيخ حمد: حتى أبو سهيل يختصر؟!، المهم أنه رجع ولكن بقيت كلمته تلك، وذهبت في عداد الأمثال، وهذا المثل يذكرني بمثل شعبي، فالربيع عندما يأتي إلى الجزيرة، فإن الجراد يخرج ليأكل من الأعشاب والزروع، ثم يغرس أولاده في الرمال، فتبقى هذه اليرقات في الرمال لفترة، ثم تخرج “الدبا”، أولاد الجراد الصغار، وهذه تكنس الأرض وتأكلها كلها، الزروع والأعشاب والأشجار، تزحف كالنار، وعندما تصل إلى أهل القرى والمزارع، فتجد أهلها يصدونها عن زراعتهم، فتتجه إلى الصحراء لتأكل منها ما تشاء، وفي بعض الحالات يتغلب الجراد على أهل القرى، وعندما بدأت الدبا تدخل القرية لتأكل ما بها، فوجد أحد الفلاحين في مقدمتها حيوان يسمى “أبو حلمية”، وهو مأواه دائما الحرمل، أي خارج القرى والمدن، لكنه كان يتقدم الدبا كأنه قائدهم، فقال الفلاح: حتى أنت يا أبوحليمة؟!، فهو مأواه بالخارج.. ولكن بالرغم من ذلكجاء كي يغزوهم!

الأساطير والأمثال الشعبية

* أنت بهذا تفتح، بابًا مشرعًا فيما يتعلق بالأمثال الشعبية في الجزيرة العربية، حيث كنت رائدًا في هذا المشروع الضخم، وصرفت من عمرك 20 عامًا لرصد هذه الأمثال وجمعها وتوثيقها، وأصبحت اليوم هي، وأيضا كتاب الأساطير، مرجعًا للبحاثين والدارسين، والأساطير على نحو خاص إذ تقدم اليوم فرصة لمنتجي الدراما التلفزيونية لكي يستخلصوا منها بعض المواقف والأقاصيص، نريد هنا وقفة، متى بدأ هذا الاهتمام بجمع الأمثال الشعبية؟، ولماذا؟

** في يوم من الأيام، غضبت على الصحافة، لأني أرسلت مقالة لإحدى الصحف، فاختصروا منها بعض الأشياء التي كنت أراها مهمة جدا، كان ذلك في عهد صحافة المؤسسات، فتوقفت عن الكتابة في الصحف، احتجاجًا على هذا الموقف، ورأيت أنني لا بد أن أستغل هذا الفراغ في شيء يفيد بلدي، وكان هناك الأستاذ محمد بن ناصر العبودي الذي ألّف كتابًا في الأمثال، وهو مجلد واحد جمع فيه 1000 مثل، وقرأته ولكن وجدت أن لدي مخزون من الامثال يعادله مرات ومرات، فقلت أن هذه فرصة لكي أحفظ هذا التراث في هذا الوقت كي لا يضيع، لأن الأجيال الجديدة كانت لا تعرف شيئًا عن ماضي بلادنا، ولدينا مثل يقول “اللي ماله خلق، ماله جديد”، لا بد للدول أن ترتكز على ماضي، ومن ماضينا المشرق هذه الأمثال وهذه الأساطير، فقررت أن أصرف جهدي ومقدرتي ووقتي لجمع هذه الأمثال، فألّفت كتابًا من 3 أجزاء، به 3000 آلاف مثل، ثم أشعت بين المواطنين أن من يأتيني بـ 30 مثل لا توجد في هذا الكتاب، أهدي إليه الكتاب بأجزائه الثلاثة.

* أكانت لديك في ذلك الوقت مكتبة؟

** كانت لدي مكتبة، لكن هذا الكلام كان عندما كنت لا أزال في الوظيفة بوزارة المعارف، وبالتالي فقد تجمع لدي المزيد من هذه الامثال كي اختار منها، كذلك أنا إنسان اجتماعي، أجتمع بالصغير والكبير، والذكر والأنثى، والشائب والشاب، وبالتالي كانت هناك محادثات وأخذ ورد، وفي هذه الأثناء كانت تُقال أمثال، وبمجرد أن أسمع المثل، كنت أكتبه في ورقة على الفور كي لا أنساه، وكان هذا أحد مصادري لمعرفة الأمثال، وكذلك من خلال حديث المواطنين مع بعضهم، وبالتالي فقد اعتمدت مصدرًا شفويًا من الناس، وهناك مصدر آخر مهم جدا، وهي الأشعار الشعبية، ففيها كنوز، وأنا في الواقع أعتبر الأمثال والأساطير هي التاريخ الصحيح.

رحلات وأمثال

* أمل تقم برحلات في قرى نجد، وبعض مجتمعاتها البعيدة عن المدن لكي تستقي بعض الأمثال من أفواه الناس الذين لم يحتكوا بعالم المدينة؟

** هذه الأمثال تعتبر كنوزًا، تعطي فكرة عن معيشة الشعب وصورته الحقيقية، ومن يناقشها ويستخرج منها الكنوز، يمكنه أن يجد فيها التأريخ السياسي والتأريخ الاجتماعي والتأريخ الاقتصادي والثقافة، وهذه قد يجدها بالتفصيل من كلمة أو إشارة.

* ولذلك لم يكن عبثًا أن يعتمد الباحث العربي الأمريكي، الدكتور حليم بركات، كتابكم كواحد من المصادر التي اعتمدها في كتاب مهم، درس فيه المجتمع العربي المعاصر.

** الذي يريد أن يعرف عقلية أي شعب وتأريخه، فليقرأ الأمثال، لأنها هي التي تعطي الواقع، فليس فيها نفاق أو زيف، ولم تصدر عن أهواء وأغراض، بل تصدر عن تجارب، قد يكون فيها الشيء القاسي أو المميت أو السار والمفرح وهكذا، فأنا لا أقرأ التاريخ إلا بحذر، لأن بعض كتّاب التاريخ قد يسلبون المهزوم مفاخره ويعطونها للمنتصر، وقد يدخلون أهواءهم وأغراضهم ومصالحهم ومنافعهم عند كتابتهم للتاريخ، وقد يدخل الخوف أيضا، فيمدحون البعض كي يسلمون من شره.

* ما هو المنهج الذي اعتمده الشيخ عبدالكريم الجهيمان في هذا الكتاب؟، هل قمت برصد وتسجيل هذه الأمثال، أم أنها كانت مرتبة حسب الموضوع أو حسب الحروف الأبجدية أم ماذا؟

** رتبتها طبقًا لحروف المعجم، بحيث إذا سمع الشخص عن مثل فيمكنه في خلال دقائق أن يخرجه من الكتاب، ويقرأ كلماته ويجد قصته أو أسبابه، وكذلك بعض الأشعار الشعبية التي تناولت هذا المثل، والتي لا تقل في الروعة لأنها من وحي الفطرة والعامية.

مع الشعر النبطي

* من الملاحظ أننا قد نجد في بعض أشعار الشعراء النبطين الكبار، آثار أولئك الشعراء الجاهليين ومن جاء بعدهم، فإذا قرأنا مثلًا ابن لعبون، سوف نتلمس صورًا من امرئ القيس والمتنبي ومن بعض شعراء الحكمة والغزل، وكذلك عند راشد الخلاوي نلمس معاني وصورًا من أبي سلمى مثلًا، إلى غير ذلك، نريد معرفة، كيف استطاع هذا الشاعر النبطي الذي عاش في بيئة منغلقة وفقيرة من الناحية الثقافية والتعليمية، أن يتصل مباشرةً بهذا الموروث الشعري العربي الفصيح؟

** هناك توارد للخواطر، كما يقع الحافر على الحافر، وكذلك هناك الأجواء التي قال فيها الشعراء القدامى أشعارهم هي ذاتها التي عاش فيها المتأخرون، سواء من ناحية شظف العيش أو الشدائد أو سنوات الرخاء أو سنوات القحط، وهذه الظروف والأفكار هي التي توحي بالحكم والأشعار والأمثال، ولذلك تجد أمثال البادية تختلف عن أمثال الحاضرة، وأمثال الفلاحين تختلف عن أمثال التجار وهكذا، فالأمثال نتيجة للتجارب.

أفكار وموضوعات الأمثال

* هذه قراءة اقتصادية، ولكن ما هي القراءة الاجتماعية للأمثال؟، ما هي أبرز الموضوعات التي عالجتها هذه الامثال؟

** أن تستطيع أن تعرف عقلية وتفكير ومدى إدراك أصحابها لشؤون الحياة، على مختلف أساليب حياتهم ودرجاتهم ومناطقهم، والأمثال ليس لها وطن، فالمثل نتيجة للمجتمع ومشكلاته، فإذا كان هناك مجتمع في الغرب له نفس مشكلاتنا في الشرق، ستجد أن أمثاله تشبه أمثالنا، ولذلك فإن كثيرًا من الأمثال التي نتداولها تجد مثلها في الشام أو في مصر أو في السودان، وذلك لتماثل الظروف والمشكلات تقريبا.

* هل قمت بعملية بحث مقارن بين الأمثال الشعبية في الجزيرة العربية والأمثال في بعض والمجتمعات العربية؟

** لا، بل قمت بمقارنة بين الأمثال الشعبية الأخيرة والأمثال العربية القديمة، ولذلك عندما كنت أجد مثلين متشابهين؛ أحدهما شعبي حديث والأخر عربي قديم، كنت أجري مقارنة بينهما.

* ما هي مصادرك؟

** هناك كتاب الأمثال للميداني، وهناك كتب أخرى للزمخشري وعدة مؤلفات أخرى في الأمثال.

* كم بلغ عدد طبعات كتاب الأمثال؟

** الأساطير وصل إلى 6 طبعات، والغريب أن الأساطير يشتريها الخواجات، من مستشرقين ومستعربين، ويبدو أنهم يقرأون ما فيها من أشياء مسلية أو حكمة أو مجريات حياتية تعجبهم، وقد تُرجِمَ إلى اللغة الروسية حيث ترجمه بروفيسور من جامعة الملك سعود.

* هل أتتك ردود أفعال من هناك حول الكتاب؟

** لا أعرف، ربما جاءت لكني لا أعرف عنها.

كتاب الأساطير

* من هو المنهج أيضا الذي اتبعته في كتاب الأساطير وهو من 5 أجزاء؟

** هناك أشياء مخزونة في ذهني منذ عهد الطفولة، وهناك أشياء أسمعها في المجالس وأسجلها، وهناك بعض القصص التي أنسبها إلى من سمعتها منه.

* ألم يكن للوالدة دور في إشعال مخيلتك بهذه الأساطير؟

** الوالدة والجدة والأطفال، كلٌ منهم له دوره، فقديمًا كنا نجتمع في ظلام الليل، حيث لم تكن هناك كهرباء أو راديو أو تلفزيون، فكنا نطرق الخيال ليسرح، فتأتي الأقاصيص والحكايات والسباحين.

* الأقاصيص السباحين؛ نريد أن نعرف المصدر اللغوي لمفردة “سبحونة”؟

** هي كلمة مأخوذة من التسبيح، كأن تقول “سبحانه”، فالحمدلله في جزيرتنا هناك أناس متدينون وينسبون كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى، فهو المعطي وهو المانع، وهو النافع وهو الضار، وهو الشافي، فالسبحونة هي حقائق ممزوجة بخيال، وفيها تلمس الحركة والمجازفة وجن وعفاريت، وكان الناس قديما ينسبون أي شيء لا يعرفون مصدره إلى الجن.

* ما هو أقدم نص لهذه السباحين؟

** هذه مسألة صعبة، لا أعرف، لكن ربما من أقدم الأشياء هي أقاصيص بني هلال، الذين هاجروا إلى المغرب للتغلب على مصاعب الحياة بعد أن دفعهم القحط والجوع لذلك، وهذه بها أشياء من الخيال الجميل، وهي من النصوص التي إذا قرأتها تشعر بالارتياح لها.

* هل هذا يعتبر ابتكارًا خرج من هذه الأرض، للتغلب على مصاعب الحياة وشغفها وفراغها؟

** نعم، صحيح، فعادة شغف الحياة وترفها من الأشياء المدمرة للخيال والأجساد والأفكار، فعادة العبقرية لا تخرج إلا من رحم الشدائد، لأنها هي التي تهذب الإنسان وتعطيه مناعة أمام الأهداف المدمرة.

شاهد على العصر

* اليوم وأنت في هذا العمر المديد، كيف ترى إلى هذه الوضعية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تحققت في البلاد، وكنت أنت واحدًا من شهود العصر على ما حدث في بلادنا؟

** أرى أننا لا زلنا في منتصف الطريق، ونحتاج إلى جهود متنوعة، ويجب علينا أن نأخذ من تجارب الأمم الأخرى، ويجب ان نستغني بجهودنا وجهود أبنائنا وأحفادنا، وأن نستمتع بإنتاج بلدنا، وأن نكون أعضاء فاعلين، وليس مستهلكين فقط، وهناك جوانب متعددة أخرى، نحتاج لبلادنا أن تكون بلاد صناعية وفكرية وثقافية، وألا يكون التعليم كله على نمط واحد، بل يجب ان تتعدد مناهج التعليم وأنماطه بحسب حاجة البلاد، فكل هذه الحاجات يجب أن تسير بهدف معين وبتخطيط، فالأمم الأخرى تخطط لعشرات ومئات السنين، والإصلاح لا يأتي دفعة واحدة، ولكن المهم أن نسير على طريق مرسوم ونحو هدف معين، ومن سار على الدرب وصل.

على درب الشعر

* نريد هنا وقفة حول جزء من نشاطك الثقافي والأدبي، دائما ما تحاول مواراته، وهو الشعر، فأنت كتبت عددًا من القصائد، وهذه القصائد بإمكانها أن تشكل ديوانًا، فلماذا لم تتقدم بجرأة لنشر قصائدك في ديوان؟

** بالفعل أن لي قصائد، وأنا راض عنها ومعجب بها، ولكن لا أدري هل يمكن أن تعجب القراء الآخرين أم لا، وإن شاء الله أنا في طريقي لجمعها وترتيبها وكتابة مقدمة لها، وهي تقريبًا تبلغ حوالي 350 صفحة، فهي ليست ديوان كبير، لأن النثر والمقالات والمؤلفات صرفتني عن الشعر، وكما يُقال فإن أي مثقف لا يمكن أن يجيد في الشعر وفي النثر، فإما أن يكون شاعرًا وإما أن يكون ناثرًا.

وضوح وبساطة

* ولكن الملاحظ أن أسلوبك، يبدو على درجة من الدقة وبعيد عن الإحالات الشعرية والأدبية، فأسلوبك يكاد يكون خاليًا من المحسنات البلاغية، كما هو العهد بمجايليك من الأدباء والصحفيين، يبدو أسلوبك إلى حد ما جافًا من الناحية الأدبية، بماذا تفسر ذلك؟

** أنا أريد أن يكون كلامي مقروءًا ومفهومًا لكل من يقرأه، سواء المثقف الكبير أو الرجل البسيط، أريد أن يكون أسلوبي واضحًا ومفهومًا للجميع، من أجل أن يكون له التأثير الذي أرمي إليه، فأنا أكره التعقيدات وأكره بعض التأنق في سجع بعض العبارات، فأنا أريد أن أصل إلى هدفي من أقرب طريق، وأن أختصر الطريق بقدر المستطاع، والشاعر يقول: “مازال يسبق حتى قال حاسده .. له طريق إلى العلياء مختصر”، فأنا أريد أن أبلغ هدفي من أقصر طريق وبأوضح عبارة، أما بعض الكتابات والأشعار الآن نجدها أشبه بالألغاز.

* ما هو رأيك فيما يكتبه بعض الشباب الآن؛ قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة أو غيرها؟

** لا توجد قصيدة للنثر، هناك كلام منثور أو قصيدة منظومة.

* وماذا عن الشعراء السعوديين، وقصة تنازعك أنت والدكتور غازي القصيبي عن التكنية بـ”أبي سهيل”؟

** هذا من باب حب التواصل والفكاهة والنكتة، لكن هو حر يختار ما يشاء، وأنا حر أيضا في اختيار ما أشاء، وهو قال ـ جزاه الله خيرًا ـ إنه أبو يارا، وأن الناس هم من لقبوه بأبي سهيل، وأنه يتنازل عن هذهالكنية لي، وهذا كله من باب المداعبة وحب التواصل.

تكريم مستحق

* اليوم تحظى بهذا التكريم الرسمي، وقبل ذلك التكريم الصحفي والثقافي، كيف تنظر إلى هذا التكريم وأنت تصبح الشخصية السعودية التي نالت تقدير مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة؟

** في الحقيقة، أنا أفتخر بهذا التكريم، ولا سيما أنه بحمد الله قد أظهر كثيرًا من العواطف من إخواني الكتاب والصحفيين والمفكرين، أظهر قيمتي وقد بالغوا في إعطائي الكثير مما لا أستحقه، وألبسوني أثوابًا حتى كدت لا أعرف نفسي فيها، فهل هذا الشخص الذي يصفونه بهذه الكلمات هو شخصي أم شخص آخر، وهذا حقيقة من مكارم أخلاقهم وحسن ظنهم، وجزاهم الله خيرًا، وأعتقد أن تكريم الدولة لي، ليس تكريمًا لي خاصة، بل هو تكريم للعلم، تكريم للثقافة، ولكل شخص يقدم لبلده أي شيء نافع ومفيد، وأنا بالفعل كنت أنتقد وأناقش وأهاجم، ولكن كل ذلك كان عن إخلاص ومحبة، وهذا هو الشيء الذي يشفع لي عند حكومتي وعند كثير من المسؤولين الذين كنت أقسو عليهم، فيقابلون قسوتي بالصفح، وإدراك أن ليس لي هدف سيء، وإنما هدفي هو الإصلاح، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وهدف كل مواطن أن يسعى لرقي بلده ونظافتها من كثير من الرواسب السيئة أو التوقف عن السير إلى الهدف الذي يُشرّف بلدنا ومواطنيه وحكومته، فنسأل الله أن يوفق الجميع، سواء من كانوا يعملون في القطاع الرسمي أو القطاعات الحرة.

“غسلة” بين الماضي والحاضر

* محطتنا الأخيرة مع “غسلة”، هذه القرية النجدية التي انطلق منها الشيخ عبدالكريم الجهيمان، أنت تقول إنك بين الحين والآخر ينتابك الحنين إلى مسقط الرأس، حدثنا عن “غسلة” اليوم، فقد خرجت منها وقد كانت قرية صغيرة، محدودة العمران، كيف هي اليوم؟

** تغيرت من جملة ما تغير، فبيوت الطين التي كنا نسكنها صارت خربة، وبنوا بيوتًا حديثة، ليست بها نكهة أو رائحة بيوتنا الأولى، وشوارعنا الأولى الضيقة اللطيفة، البيوت حاليا هي بيوت صناعية أما بيوتنا الأولى فكانت طبيعية، كانت دافئة في الشتاء وباردة في الصيف، أما البيوت الحالية، ولا سيما إذا لم تكن معزولة من الحرارة، فهي حارة في الصيف وباردة في الشتاء، فتغير كل شيء في حياتنا، حتى الفراش.. حيث كنا ننام على الحصير أو الرمال النظيفة، الآن تغير كل ذلك، وتغير كل شيء في حياتنا من مأكل ومسكن ومركب، انقلب كل شيء.

* إذن كيف تريد من البلاد أن تكون دولة صناعية كبرى مثل اليابان، وأنت تحن إلى ذلك الماضي المبني من الطين؟!

** حنين إلى الماضي، لكنني لا أريده أن يصرفني عن التقدم، فهذا نوع من الوفاء للماضي، فالماضي هو الأساس، ونحن يجب ان نجاري التيارات وألا نقف في وجهها، لأننا إذا توقفنا سبقونا، ونرجو من الله أن يستمر التعاون بين الحكومة وبين الشعب، ونحن نجد أن الأفكار متقاربة وواحدة، وسؤالنا أن يقوم كل مواطن بتأدية ما عليه من دور.

* على كل حال، وقد أديت هذا الدور يا شيخ عبدالكريم، كاتبًا اجتماعيًا مصلحًا وباحثًا لتراث بلدك جادًا، فشكرًا لك على هذا الحوار، ونأسف إذا كنا قد أخذنا منك هذا الوقت الطويل، وما إذا كان هذا الحوار قد تسبب لك بشيء من التعب.

** عفوا، وفي الحقيقة هذا شيء من واجباتي، وإذا كان هناك شيء من تعب، فالتعب لا بد منه، لأن التعب تخلفه الراحة، وراحة بلا تعب لا قيمة لها، وأشكركم على اختياركم وأسئلتكم، وأرجو أن يكون فيما سجلتم فخرًا لبلادنا ولحكومتنا ولمواطنينا، وأن يستمر التقدم إن شاء الله والسمعة الطيبة لنا جميعا، وشكرًا لكم.


* رابط الحلقة على يوتيوب: (هنا).



error: المحتوي محمي