هل الطريق نحو العلوم واكتساب المعارف والخبرات والنجاح، وأيضاً الثراء، لا يمرُ إلا عبر الجامعات؟ أعتقد أن الوقائع الحياتية، السابقة والقائمة حالياً، تقول لا!
ضمن سياق مقالاتِ النقاش حول القبول الجامعي في المملكة، طرحتُ الأسبوع الفائت، سؤالاً أثاره أحد الأصدقاء، وهو: هل يجب أن يكون هنالك مقعدٌ جامعيٌ لكل خريجة وخريج من الثانويات العامة؟
صاحبنا، كان جوابه: لا، معتبراً أن الجامعات الكلاسيكية ليست هي الحواضن الوحيدة التي يجب أن يتجه لها الطلاب، بل هنالك أماكن أخرى، بعضها قائم الآن فعلياً في المملكة، والبعض الآخر في طور التشكل، وهنالك نماذج لحواضن علمية ومهنية في دولٍ أخرى، يمكن الاستفادة من تجربتها، بما يتناسب والبيئة المحلية واحتياجات سوق العمل المستقبلية!
الإجابة بـ”لا”، قد لا تعجب سواداً أعظم من الناس، كونهم يرون أن الدراسة الجامعية هي واحدة من حقوق الإنسان، التي يجب أن تكفل له، كحقه في الطبابة والأمن.
صحيح أن أي دولة في العالم مسؤوليتها أن توفر تعليماً ذا كفاءة عالية، حديثا، خلاقا، يدعو للتفكير والبحث والسؤال، ويقود نحو إنشاء عقول مبدعة، قادرة على الابتكار والتخطيط والصناعة والإدارة، كي تردف هذه العقول السوق المحلي، وتساهم في عملية التطوير والتنمية، وتكون رافعة للتنوير أيضاً وبناء دولة مدنية حديثة.
هذا أمرٌ ربما لا يختلف عليه أحد. إلا أن الذي يجب التفكير فيه: هل يعني عدم دخول الخريجات أو الخريجين للجامعات الكلاسيكية أنهم سيكونون خارج السياق العلمي والمهني ولن تكون لهم القدرة على صناعة مستقبل مزدهر؟
هل الطريق نحو العلوم واكتساب المعارف والخبرات والنجاح، وأيضاً الثراء، لا يمرُ إلا عبر الجامعات؟ أعتقد أن الوقائع الحياتية، السابقة والقائمة حالياً، تقول لا! فهنالك نماذج لشخصيات عصامية أصبحت من كبار التجار دون أن تتعلم في جامعة أو معهد. كما هنالك حتى مثقفون ونقاد وكتاب مرموقون لم تسمح لهم الظروف بالدراسة الأكاديمية، وهم اليوم أكثر انتاجاً وتأثيراً في المشهد الثقافي من أكاديميين متخصصين؛ لسبب، أن الشغف والمعرفة والقراءة والتدريب، جميعها أمور مارسوها بنابع ذاتي من الداخل، جعلتهم يكونون أنفسهم بشكل أفضل من التعليم الجامعي الرتيب في عديد من الأكاديميات، القائم على التعليب والتلقين وحسب!
هل يعني ذلك أن ليس على “وزارة التعليم” مسؤولية توفير مقاعد للخريجين، وتشييد جامعات جديدة، ورفع الطاقة الاستيعابية للكليات القائمة حاليا؟
سيرورة التعلم تقول: إنه من الضروري توسيع دائرة استيعاب الخريجات والخريجين، وتوسعة الجامعات القائمة حالياً عبر افتتاح فروع لها، او تشييد قاعات جديدة، بالتوازي مع حث التجار على الاستثمار في “التعليم”؛ ولكن الأهم أن يتم ذلك وفق رؤية تهتم ليس بالكم، وإنما بجودة التعليم، وخلق بيئة طلابية محفزة على التنافس الإيجابي، وتركز على علوم واقتصاديات المستقبل.
هنالك مشكلة أساسية قائمة في الثقافة العامة، وهي أن المستقبل الناجح مرتبط بتخصصات محددة؛ وهو التصور الذهني القديم، الذي لا تزال كثير من العائلات تغذيه لأبنائها!
هنالك أمنيات مرتبطة بوظائف محددة، هي جزء من صورة العائلة أمام المجتمع، غافلة أن هنالك خيارات وإن بدت صغيرة في نظر البعض أو غير مألوفة إلا أنها فيها من العلم والخبرة والمال أيضاً الشيء الكثير، كأن يدرس الخريج في الكليات الصناعية، أو المعاهد التي تعلم الطهي، أو السياحة.. وسواها.
لو تخرج أحد الأفراد طاهياً، واكتسب مهارات عدة في الطهي، وصارت لديه وصفاته الخاصة، واستطاع أن يبني مطعمه الشخصي، الذي يقدم أطباقاً مميزة، ألن تكون تلك قصة نجاح، وألن يكون لديه شأن اجتماعي واحترام، وستكون لديه قائمة انتظار للزبائن بينهم عدد من كبار الشخصيات، وستفتح له أبواب علاقات عامة واسعة، وكل ذلك سيمر عبر وظيفة كانت موجودة بشكل تقليدي في أزمنة مضت، وتالياً تراجع حضور السعوديين فيها، إلا أنها اليوم واحدةٌ من الحقول التي إذا تميز فيها فردٌ ستكون باب رزقٍ كبير.. ذلك مجرد مثال.
المصدر: صحيفة الرياض.