بانت أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في تعامله مع أسرى وسبايا حروبه مع المشركين، ولكن من أشهرها موقفه من سفانة بنت حاتم الطائي (رضي الله عنها)، ومن ثم باقي أسرى قبيلة طيء وزعيمها عدي (رضي الله عنه)، وهو أخو سفانة.
يذكر التاريخ أن عدي، زعيم قبيلة طيء، كانت له مواقف عدائية ضد الإسلام ورسوله محمد (ص)، منها: تواطؤ الطائيين مرات ضد جيوش المسلمين، وضد القبائل المسلمة والمتحالفة مع الرسول (صلى الله عليه وآله سلم)، التي تقطن شمال الحجاز، فكلّف علي بن أبي طالب (عليه السلام) على رأس جيش لإنهاء أمرهم، وانتصر عليهم. ولكن زعيمهم عدي تمكن من الفرار إلى الشام. وقد روي عنه أنه قال عن هذه الحادثة:
“فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام كان لي إذا سمعت بجيش لمحمد قد وطأ هذه البلاد فآذني؛ ففعل؛ ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال:
يا عدي ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية (وقيل الحوشية)… وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر”.
وكانت هذه البنت أخته سفانة من ضمن السبايا (اللاتي جُلبن إلى المدينة مع الأموال والغنائم)، وجعلت في حظيرة بباب المسجد، كان يحبس فيها السبايا، فمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة (أي مفوهة اللسان)،
فقالت: “يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك”.
قال: من وافدكِ؟
قالت: عدي بن حاتم.
قال: الفار من الله ورسوله؟!
ثم مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركها، ومر بها في اليوم التالي وتبادلا نفس المقال. ولكن في اليوم الثالث، حدث الخير، كما روت سفانة: “حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست منه، فأشار إليّ رجلٌ من خلفه أن قومي فكلميه، فقمت إليه،
فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منَّ الله عليك.
فقال (عليه الصلاة والسلام):
“قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك”، ثم آذنني. فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب (عليه السلام). وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، وأنا أريد أن آتي أخي بالشام. فجئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت:
“يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ.”
فكساني وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
أمّا أخوها عدي، فيقول: “فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تَؤُمُّنا، فقلت ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت عليّ انسحلت تقول:
القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك!
قلت: أي أُخيَّه لا تقولي إلا خيرا، فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت.
ثم نَزَلَتْ فأقامتْ عندي، فقلت لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟
قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت.
قلت: والله إن هذا الرأي.
وأكمل عدي يقول: فخرجت حتى أقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال:
من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، قلت في نفسي:
“والله ما هذا بملك!”
ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل في بيته، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا، فقذفها إليّ، فقال:
“اجلس على هذه”،
قلت: بل أنت فاجلس عليها،
فقال: بل أنت،
فجلست عليها، وجلس رسول الله بالأرض، فقلت في نفسي:
“والله ما هذا بأمر ملك” (السيرة النبوية، ابن هشام، ج2، ص578 –580). [1]
من فوائد هذه السيرة في نقاط
لطائف عديدة يمكن أن تستخرج من هذه الحادثة، بجزئيها، الأول الذي روته الطائية سفانة والثاني الذي رواه أخوها عدي الطائي.
-لم يذل الرسول “سفانة” المرأة، ابنة حاتم الطائي كريم العرب، ولكن كرم محمد كان أكبر: أطلقها، وكساها وأطعمها ورافقت من يوصلها لأخيها في الشام، وأطلق سراح أفراد قبيلتها أيضًا.
– “السبيَّة” قد تكون بركة على قومها، فمثل سفانة كانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث (رضي الله عنها) من بني المصطلق، والتي تقول فيها أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): “فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها”، وذلك حين أعتقها وتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقام المسلمون بعتق بقية النساء إكرامًا لها (الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج 8، ص 116، الاستيعاب، ابن عبد البر، ج 4، ص 1805).
– حكمة المرأة التي أشارت على أخيها بالذهاب للرسول ليقرر بنفسه في أمره. وأمتثل عدي.
– تصرف النبي (ص) مع عدي العدو الفار، وسلوك النبي مع جماعته بوقوفه للمرأة المسلمة في الطريق، كما وقف لسفانة من قبل، وإكرام ضيفه في بيته وتواضعه له، مما دفع الخصم السابق يراجع رأيه متأملًا في داخل نفسه، عن عظمة هذا الرجل الإنسان…” ليس هو بملك… ولا يمكن أن يكون ساعيًّا لملك”.
– هل كان هذا كله إكرامًا لـ “حاتم الكريم”؟..أو ليكسب قبيلة طيء؟… الدافع الأساس هو طبيعته وخلقه الرفيع، فهو، بوصف المولى جلَّ جلاله: “على خلق عظيم”، وما ذكر من دوافع وغيرها هي حتميات تابعة لهذا الخلق. فهو عليه الصلاة والسلام، يعز الأخلاق وأصحابها ويعرف الرجال ويقدرهم، وقصته مع زيد الخير، الذي كان في وفد طيء الذي أتاه في المدينة، من خير الشواهد على عظمة هذا العظيم الذي ما كان أمره ملكًا…بل دين هداية ونجاة وسعادة للبشر… و “رحمة للعالمين.”.
الهوامش
[1] “الأمر” هنا يراد به: الحال أو الشأن (المعم الوسيط)، الفعل والعمل (معجم ألفاظ القرآن الكريم).