أَطْيَشُ مِنْ فَراشةٍ! (2).. قصة واقعية من جُزْأَين

أما ما كان من أمري في المدرسة، فقد تغيرت سلوكياتي إلى الأحسن في قفزة تطورية أدهشت الجميع.

وصرت أكثر اجتهادًا، وبرزت بعض المواهب لدي والتي لم تكن ملفتة لأي أحد – حتى أنا نفسي – كالخط الجميل، والرسم.

وأحمد الله أنني استطعت أن أثلج صدر أمي وأرسم الابتسامة على شفتيها بعد أن كانت ترى فيَّ فتاة مخيبة للآمال. أمي التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها أرملة شابة، حزينة ووحيدة مع خمس فتيات صغيرات، أصغرهن وليدة لم تتجاوز الشهر من عمرها.

توفي والدي – رحمه الله – فجأة، ولم يكن يشكو من أي علة لكنها إرادة الله. حقًا أنه ترك لنا ما يكفي من المال لنعيش برغد، ويجنبنا العوز والحاجة؛ لكنه ترك فراغًا كبيرًا في حياتنا، وحاجة إلى السند. وكانت أمي هي كل شيء لنا في هذه الحياة، وينبوع الرأفة والحنو والشفقة.

في آخر عام من المرحلة المتوسطة وفي حفل تكريم للمتفوقات. سألت إحدى المعلمات أمي: ماذا فعلتِ لها، وأحدث تغييرًا هائلًا في شخصيتها؟ وكان ردها وهي في قمة السعادة وبوجه باسم حيث قالت: لم أفعل شيئًا، ولم أملك لها إلا الدعاء.

كل ذلك بفضل من الله، وبفضل مواجهة منها هي نفسها حملت فيها لنا – كعائلة – رسالة مهمة مفادها: ما أنا فيه سببه أنتم ورفضكم لي، أنا منبوذة بينكم ومدانة، فانتبهوا!

جعلنا ذلك ننتبه من غفلتنا، ونفتح أبواب التواصل والمشاركة، لذا تصرفنا معها بطريقة تظهر حبنا لها، وتمدها بالإحساس بالأمان.

كنت أرى – لحظتها – علامات الاستغراب مصحوبة بالإعجاب في عيني السائلة، مرددة : حقًا ما قيل: الحب أَشَدُّ أنواع السِّحر فَعَالية. وأعظم الحب وأجمله ما سكن قلوب الأمهات.

نعم، نجحت أمي في مداواتي بالدعاء والحب، وأخواتي بإظهار المودة والاهتمام والاحتواء، ونجحت أنا بمداواة نفسي بالقراءة وحب الاطلاع، والأهم من ذلك هو تقديري لذاتي، وألا أرضى لها إلا الأفضل دائمًا.

تعالوا معي لأحدثكم عن أمر القراءة؛ غيرتني كثيرًا، رحت أبحر فيها، أَثْرَتْ فكري، ووسعت أفقي، وأثارت فِيَّ الهمة، وأعانتني على فهم الحياة ومواجهة المشكلات ومحاولة وضع الحلول لها، ووجدت في عالم الكتب خير صحبة. كل ما مررت به كان بسبب تراكمات نفسية ظهرت في المرحلة الابتدائية، وتفاقمت في المرحلة المتوسطة.

وأحمد الله أنني تجاوزت تلك المرحلة بنجاح، ودون خسائر تذكر، سموتُ بنفسي وتحققت لي الراحة والطمأنينة الروحية بفضل الله.

حياتي أصبحت ذات مغزى، وصرتُ أتحلى بالصفة الإيجابية عند الفراشة ؛ وهو العمل الدؤوب والتنقل.
كالفراشة تمامًا تنتقل من زهرة إلى أخرى لجمع الرحيق ونقل حبوب اللقاح، وليس هذا دورها فحسب، بل ثبت أن لها أدوارًا عديدة مهمة في الطبيعة، فهي رغم عمرها القصير إلا أنها تحياه بسعادة، وتسعد من ينظر إليها وتبهجه؛ لرقتها الساحرة وألوانها الزاهية المبهرة، وحركاتها الجميلة.

إحدى عماتي عندما عرفت بولعي بهذه الحشرة المجنحة العجيبة؛ صارت تدعوني كلما أزهرت شجرة الليمون في حديقتها الغناء التي اهتمت بها، والتي أضحت مزارًا للفراشات وأسراب النحل والطيور؛ لكي أشاهد الفراشات وهي تضع بيضها على أوراق الشجرة، وأراقب يرقاتها الخضراء المكتنزة التي تلتهم الأوراق بنهم. بعدها تغزل لنفسها شرنقة من حرير كثوبٍ – من صنعها – تتدثر به، وتتدلى منها بين أوراق الشجر، وتعيش خاملة فيها مدة أسبوعين ثم تتحول إلى فراشة جميلة.

ضحكت مني عمتي مرة عندما قلت لها: أود الاحتفاظ بإحدى هذه اليرقات لتنسج لي الحرير؛ إنها أكبر ملكة ناسجة للحرير بلا منازع، أوليست يرقة “دودة القز ” هي التي تنسج حولها شرنقة من الحرير؟ ألم تكن صناعة الحرير تجارة منزلية ؟ لِمَ، لا؟ لو توفر هذا النوع من الفراشات في بيئتنا؛ قد نستطيع تحقيق ذلك، فأشجار التوت التي تتغذى اليرقات على أوراقها. بوفرة في مزارعنا.

حِلْمُ يقظة وجدت نفسي غارقة فيه، بينما صور المستقبل أمامي تتقاطر. ابتسمت عمتي بلطف، طوقتني بذراعها، وبيدها الأخرى ربتت على كتفي.

لا أخفي عليكم. صرت كالفراشة أعمل بجد، وأكثف الجهود وأجمع رحيق العلوم والمعارف وتجارب الآخرين في النجاح؛ لأستفيد. خاصة بعد خوض غمار تجربة فريدة عشتها – كما عايشها غيري – وهي الدراسة عن بُعد في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد – 19” ومتحوراته المثيرة للقلق.

وفي كل ذلك؛ حرصتُ على اللعب بتناغم في أرجوحة التوازن بين عالمين: الرقمي والواقعي. “عالم رقمي” لا غنى لنا عنه بكل تحدياته وتقنياته الحديثة المتغيرة بشكل سريع ووسائل الاتصال المتطورة فيه، وبين “عالم واقعي” بكل ما فيه من روابط الحب العائلية ووسائل الاتصال الطبيعية التي لن تتغير أبدًا.

إن العائلة هي الركيزة الأساسية لكل مجتمع، وهي مصدر مجده وارتقائه. أن نكبر ونحن نشعر بالحب وبالأمان، ونحيا في كنف أسرة متحابة وواعية بمستجدات العصر. يجعلنا ذلك قادرين على بناء حياتنا بتفاؤل وثقة ومعرفة.

أنهيت الآن سنتي الجامعية الأولى – لله الحمد والمنة – وها أنا ذا أنتقل – بإذن الله – إلى الثانية بتخصص مناسب لميولي.

طموحاتي لا تقف عند حد، ولأساهم في بناء عالم أفضل؛ ما زال أمامي الكثير لأفعله – بمشيئة الله – للآتي من الأيام.



error: المحتوي محمي