فيما مضى كان ينام متى أراد، وفي أي مكان، يكفيه فقط لتحقيق ذلك شعوره بالنعاس ورغبته في النوم ليدخل فيه وبعمق، لقد كان ينام حتى ولو شرب إبريق شاهي، وقد يسبقه دلة قهوة مبهرة، بكل ما يطير النوم من عينيه من كافيين وهيل، ولا يشتكي من أرق ولا يتمنع النوم عنه ولا يحزنون، بل ينام قرير العين إلى الصباح.
بدءًا من الثقافات الهندية والصينية والمصرية، ومرورًا بهنود الإنكا، وانتهاءً بالتقاليد العربية، فإن تلك الحضارات تعتبر الشاي والقهوة مشروبات صحية مفيدة للجسم.
يعتبر الشاي والقهوة العربية رمزًا للضيافة، لهما عادات وتقاليد خاصة، وحضور كبير في الجلسات العائلية والحفلات والمناسبات الاجتماعية، يستقبلك صاحب الدعوة أو القهوجي بالاحترام الفائق بهذه العبارة “تفضل اشرب القهوة”، لكنهم اختلفوا في طرائق إعدادها وتناولها، قد يضاف لها بعض المنكهات لإكسابها الطعم المقبول والمميز، ويضاف الهيل والزعفران على نطاق واسع في القهوة العربية، كما يضيف بعض الناس إلى الشاي ماء الورد وأوراق النعناع والميرامية والحبق والريحان لإعطائه نكهة مميزة.
دأبت أمهاتنا صباح كل يوم على إعداد دلة القهوة وغوري الشاي، وتحرص هي بنفسها على تقديم فنجان القهوة واستكانة الشاي قبيل انصراف زوجها إلى عمله، فيكون في حالة من النشاط الذهني والبدني ليقوم بعمله باقتدار وكفاءة.
لقد اعتدنا على تناول الشاي والقهوة بين الوجبات بل في كل الأوقات، في المقاهي الشعبية والمناسبات الاجتماعية، وحينما تجمعنا اللقاءات والمؤتمرات، بهما نستقبل النهار، وبهما نلاقي الأحبة والضيوف، وبهما نفكر ونتأمل ونتكلم، وصار تواجدهما جزءاً من حياتنا اليومية.
هل أنت من عشاق القهوة؟ وماذا تفعل إذا جلست ذات صباح تتناول إفطاراً ولم تعد تلك المشروبات العزيزة أحد مفرداته؟ لا شيء يدفعني لتناول الإفطار، سأشعر بالقلق والشد العصبي وتقل قدرتي على أداء أعمالي العضلية والعقلية، هذا الشعور نابع عن عادة شرب الشاي والقهوة، يسميه الطب ” الإدمان على الكافيين.
فما حقيقة هذا اللغط الدائر حول الكافيين؟ هناك جدل حول تأثيره على صحة الإنسان، والواقع أن مضار القهوة والشاي وفوائدهما كانت موضع اهتمام اختصاصيي الغذاء والأطباء والباحثين، نظراً لما تحويه هذه المشروبات من كافيين، فهناك من يعتقد أن هذه المادة لها تأثيرات ضارة، قالوا عنها تهيج القولون وتسبب الأرق، وترفع ضغط الدم وضربات القلب، وتسبب هشاشة العظام، والسكري، والفشل الكلوي المزمن، وسرطان البنكرياس والقولون والمثانة.
وعلى النقيض تماماً من تلك التحذيرات نجد توصيات مشجعة لتناول تلك المشروبات، ففي هذا المجال تسجل الدراسات كل يوم نتائج جديدة تصبّ تارة في خانة تشجيع استهلاك هذا المشروب، أو تحذر من الإفراط في استهلاك ذاك، ويتكرر التضارب نفسه فيما نقرأ أو نسمع حول تأثيرها على صحتنا، وتتكرر معها كذلك حيرتنا! ونتساءل: نصدق من؟ وهل تمثل المشروبات المحتوية على الكافيين خطراً حقيقيا على صحتنا؟
نحاول هنا الوصول إلى المعلومات الدقيقة العلمية المبنية على دراسات وأبحاث والتي تفيد المستهلك وتزيل شكوكه محاولين توضيح ما أمكن عن مدى الفوائد والأضرار من استخدامه أو كثرة استهلاكه.
ونبدأ الحديث بأبسط تعريف للكافيين، هي مادة منبهة للجهاز العصبي المركزي للإنسان، لها تأثيرات سلبية إذا دخلت الجسم بكميات غير اعتيادية، هذه المادة الكيميائية هي موضع نقاش في صفوف الأطباء والباحثين، وهنا قد يسأل سائل عن ماهية الكافيين؟ نجيب بأنه أحد الأحماض الأمينية (1،3،7-تريميثيلكسانثين ) التي تحتوي على الكبريت ويقوم ببعض العمليات الأيضية “الهدم والبناء” في جسم الإنسان، ومن خصائصه الفيزيائية: مركب كيميائي على هيئة مسحوق بلوري أبيض اللون وسام، يذوب في الماء المغلي، موجود بشكل طبيعي في بعض أوراق وبذور وثمار حوالي 63 نوعاً نباتياً في العالم مثل: القهوة، الشاي، الكاكاو، جوزة الكولا، الغوارانا، والمتة، ويدخل في تركيبة العديد من الأطعمة والمشروبات الغازية والمكملات الغذائية المصنعة من هذه المحاصيل، وفي ظل انتشار استهلاك المشروبات والأغذية المحتوية على الكافيين، والذي يعد مادة منبهة توجد بكميات متفاوتة في الشاي والقهوة والمشروبات المصنعة، إلى أثره المرتبط بالجهاز العصبي مثل: زيادة التركيز، وتقليل النعاس والتعب وغيرها.
كما أن ما يقارب 80 % من سكان العالم يستهلكون الكافيين بشكل يومي، وفي المملكة على وجه الخصوص تزايد نمو الأنشطة التجارية ذات الصلة بالمقاهي والكافيهات، حيث احتلت المملكة عالميا في عام 2019م المرتبة الحادية عشرة في استيراد منتجات الشاي واحتلت المرتبةً الثالثة عشر في استيراد منتجات القهوة، بينما تصدرت المرتبة الرابعة عشر في استيراد منتجات الشوكولاتة.
(المصدر: “البيان العلمي للجنة الوطنية للتغذية حول تأثير استهلاك الكافيين على الحالة الصحية SFDAFN308 ” في 10 أغسطس 20 21 م ).
إذا كنت ممن يحبون شرب الشاي والقهوة ولكنك تحجم عن تناولها بسبب ما يشاع عنها كسبب لأمراض محددة.. فلا تخف واشرب منها بمقدار معتدل، فأحدث الأبحاث العلمية تنفي أي مزاعم حول أضرارها، وتؤكد أن لتناولها فوائد عديدة.
يعتبر الكافيين في نظر الطب مادة مدرة للبول، ومقوية للقلب، ومنشطة للأعصاب والعضلات إذا استعملها الإنسان باعتدال، موجودة في الشاي والقهوة والمتَّة، إن ثلاثة أكواب من القهوة يحتسيها الإنسان في اليوم الواحد، تعتبر منبهاً قوياً، أما ما زاد عن هذا المقدار فلا فائدة منه على الإطلاق، فإذا ما أكثر الإنسان من تناول القهوة وأدمن على ذلك أصيب بتسمم بطيء، فيغدو نومه خفيفاً قصيراً مفعماً بهواجس الأحلام، وتضعف شهيته للطعام.
توجد دراسات تثبت أن الكافيين لا يسبب الإدمان لمعظم الناس وإن كانت الدراسة قد أشارت أن له تأثيراً بسيطاً على صحة الإنسان، ولكنها تستنتج في النهاية أنه ليس للكافيين أي تأثير على الصحة، وحسب ما أعلن عنها في الاجتماع السنوي لجمعية الكيميائيين الأمريكيين فإن شرب 3 كؤوس من القهوة يومياً ليس له أي تأثير على جزء المخ المسؤول عن الإدمان، كما أن الاستهلاك المعتدل للكافيين يحفز الطاقة والنشاط ويجعل الإدمان أمراً غير قابل الحدوث.
ومن أبرز مظاهر الحياة العصرية هي كثرة المقاهي والكافيهات أو ما يسمى “كوفي شوب” تنتشر في الأسواق والمجمعات التجارية وعلى جوانب الطرق، هذه المقاهي والكافيهات تستقبل الروَّاد الراغبين في تمضية بعض الوقت حول فنجان قهوة أو كوب من الشاي ومشروبات أخرى تحمل أسماء متعددة، وغالباً يتردد عليها الكثير من الناس وخصوصاً فئة الشباب لأسباب عدة منها ما هو مبرر ومنها ما هو دون ذلك فهي مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية والأنماط الحياتية، تلك الأماكن تقدم مشروباتها في جلسات مريحة ذات تصميم متميز، وجو هادئ، يتطلب تحضيرها وحضورها براعة ولياقة وارتداء أحدث الموديلات، وسرعة تقديم الخدمة في فترة وجيزة وبصورة راقية؛ فخلال ثوانٍ تستطيع تناول كوباً من الشاي أو القهوة وغيرها من المشروبات الساخنة والباردة المنكهة الملونة، التي تأخذ أسماءً غريبة على لغتنا وبيئتنا وتقاليدنا، يحتسيها الشخص ويتلذذ بطعمها الجذاب، وهي سر من أسرار الشركات التشغيلية، لديها روح التجديد والاستمرارية، وهذا ما يدفع ويشد الشباب إلى تناولها دون ملل رغم اسعارها المرتفعة إلى حد كبير جداً، وهذا طيب، لكن هل هذه المشروبات التي تعد بشكل جيد وجميل مأمونة صحياً وغذائياً؟!
بكل بساطة هذه المشروبات ليست كما يظن البعض أنها تقدم الشاي والقهوة التي اعتدنا على تناولها في مجالسنا، هذه المشروبات طرأت عليها تغييرات كبيرة في طبيعتها الغذائية ونكهتها الأصيلة، وأصبحت عبارة عن خلطات صناعية يتم مزجها أمام أعيننا، فالأمر متروك لنا، نختار ما يحلو لنا، والتي قد تقودنا لأخطار تفتك بصحتنا، فإننا لا نحتاج إلى دليل لإثبات ضررها على الصحة، هذه المشروبات تزخر بالمحليات والنكهات والألوان الاصطناعية والمواد الحافظة والخلطات السرية والكثير الكثير من المواد التي تجعلك تشعر بالاستمتاع بطعمها دون علم بما تحمله من تجاوزات واخطار على الصحة العامة.
إضافة الكافيين بمستويات عالية في المشروبات الغازية والطاقة والقهوة المعلبة من أجل تحفيز النشاط مرغوبة جداً عند الطلاب وعمال المصانع وسائقي التاكسي والشاحنات لكن هذه الزيادة في الكافيين يجب أن تتوافق مع اللوائح الفنية التي وضعتها الجهات المعنية.
– المصدر: المشروبات الغازية GSO 18/2014، الحد الأقصى المسموح به من مادة الكافيين 200 ملغ/ كغ.
– المصدر: مشروبات الطاقة GSO 1926/ 2009، الحدود القصوى للكافيين 32 ملغم/ ١٠٠ مل.
– المصدر: البن سريع الذوبان GSO 783/ 1997، ألا يقل محتوى الكافيين عن 2% بالكتلة الجافة وفي حالة البن السريع الذوبان منزوع الكافيين – يجب ألا يزيد محتوى الكافيين على 0.3 % بالكتلة الجافة.
قالوا عنه يهيج القولون والمتهم الأول في مسألة الأرق، وعرفنا عنه مفيد، فأين الصحيح؟ اتركوا ما يقال لكم جانباً ودعونا نضع لكم هذه التوصيات الخفيفة لمزيد من الصحة والحيوية:
بناءً على المراجعات الأدبية للدراسات والأدلة العلمية، توصي اللجنة الوطنية للتغذية بالآتي:
• على الحوامل، المرضعات، الأطفال، والمصابين بحساسية الكافيين عدم استهلاك مشروبات الطاقة، كما أن تناول أكثر من عبوتين في اليوم قد يؤدي إلى الإضرار بصحة الفرد.
• ألا يتجاوز استهلاك الكافيين للشخص البالغ السليم عن (400) مليجرام يوميا، وهذا ما يعادل (3) أكواب من القهوة ًالسوداء بسعة (250) مل أو ( 15) فنجان من القهوة العربية بسعة (50 مل).
• ألا يتجاوز استهلاك الكافيين للحامل والمرضع (200) مليجرام يومياً، مع الحرص على استشارة الطبيب المختص أو اخصائي التغذية.
• ألا يتجاوز استهلاك الكافيين للأطفال والمراهقين من عمر 3 – 18 سنة (2.5 ) مليجرام لكل كيلو جرام من وزن الجسم يومياً.
• على المرضى المصابين بأمراض القلب والشرايين الحد من استهلاك المنتجات ذات المحتوى العالي من الكافيين وألا تتجاوز كمية الكافيين في اليوم (200) مليجرام.
• الحرص على التقليل قدر الإمكان من استخدام أظرف المشروبات سريعة التحضير مثل: (أظرف القهوة أو الكرك)، وذلك لاحتوائها على نسبة عالية من السكر والدهون، واستبدالها بالمشروبات المحضرة في المنزل باستخدام منتجات طازجة.
الحرص على التقليل من المضافات الغنية بالسكر والدهون في القهوة مثل: (مبيض القهوة، الكريمة المخفوقة، الحليب المبخر كامل الدسم، الشراب المركز (Syrup)، صوص الشوكولاتة، واستبدالها بالبدائل الأكثر صحية مثل (حليب قليل الدسم أو خالي الدسم، الشراب المركز (Syrup) خالي السكر، صوص الشوكولاة الداكنة)، وذلك للمحافظة على الوزن والمساعدة في الحفاظ على تحسين الحالة الصحية والتغذوية للأفراد.
• الحرص على التقليل قدر الإمكان من إضافة المشروبات الغازية أو مشروبات الطاقة للعصائر أو مشروبات المنكهة واستبدالها بالبدائل الأكثر صحية مثل المياه المعدنية وعصير الفواكه مثل الليمون.
– المصدر: SFDAFN308 ” في 10 أغسطس 2021 م.
هناك دراسات تشير إلى أن تناول الحامل لكميات كبيرة من القهوة له علاقة بحالات موت الرضع المفاجئ، وتأثيرات مستقبلية على سلوك الطفل وعصبيته، وتطالب تلك الدراسات الأمهات بألا يزيد ما يتناولنه من الكافيين على (300) مليجرام يومياً، وتحديد هذه الكمية له علاقة بنوع القهوة، ولكن من الأحوط للأم ألا تزيد كمية القهوة على (3) أكواب يومياً.
ويظهر من مراجعة الأدلة العلمية للدراسات العلمية بأن استهلاك الفرد للكافيين بالمشروبات يجب ألا يتجاوز (400) مليجرام للبالغين، و(300) مليجرام للنساء الحوامل، و(2.5) مليجرام لكل كيلو جرام من وزن الجسم يوميا للأطفال والمراهقين، كما يظهر من هذه الأدلة عدم ارتباط أي من هذه الجرعات من الكافيين بأي مضاعفات خطيرة على وظائف وأجهزة الجسم.
فهنا يصدق قول من يطالبون بالشاي أو القهوة وهم يقولون “نرد الكيف ونعدل المزاج!”.
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.