هكذا تحدث عبدالكريم الجهيمان .. معلّم الأمراء ورائد الصحافة بالمنطقة الشرقية

الجزء الأول

مقــدمـــة

هو أحد الرواد الذين خدموا الحركة الصحفية في المملكة العربية السعودية بكل إخلاص، لا سيّما في مرحلة البدايات والتأسيس، وقبلها كان معلّمًا أمينًا ومؤلّفًا فطنًا للكتب الدراسية، ممَّا ساعد على تأسيس أجيال من أبناء هذا الوطن، هو كذلك من أوائل المنادين بتعليم المرأة في المملكة. وفي مجال الصحافة والأدب استطاع بأسلوبه السهل الممتع؛ أن يكوّن محطات ثقافية وأدبية وصحفية، رصدها بمداد الأديب، ورؤية المفكر، وإبداع الصحفي؛ إذ كان في الخمسينيات الميلادية رئيسًا لتحرير صحيفة “أخبار الظهران”، إنه الشيخ الراحل “عبدالكريم الجهيمان”، معلّم الأمراء ورائد من رواد الصحافة في المنطقة الشرقية.

وفي هذه الحلقة من برنامج (ما بين أيديهم) مع الزميل، الكاتب والإعلامي محمد رضا نصرالله، قدّم الجهيمانبعضًا من سيرته ومسيرته، محاولًا في ثنايا حديثه أن يكشف لنا عن عصاميته في طلب المعرفة واقتحام مصاعب الحياة، والإخلاص للعلم طالبًا ومعلّمًا، والإخلاص للكلمة صحفيًّا وأديبًا.

نشأة قروية

* كم كنت سعيدًا وأنا ألتقي باحثًا عربيًّا مرموقًا في جامعة أمريكية مرموقة، كان ذلك الدكتور حليم بركات، الروائي السوري المعروف، وأستاذ علم الاجتماع المعاصر، حين سألني عن الطريق إلى بيت ضيفنا الشيخ عبدالكريم الجهيمان، وقد اعتمد كتابه ذائع الصيت والشهرة “الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية”، واحدًا من مراجعه في دراسته الشهيرة”المجتمع العربي المعاصر”، وهذا هو ضيفنا الشيخ عبدالكريم، هذا الرائد الذي لم يكذب أهله، وإنما نصحهم في وقتٍ مبكر، هو معنا اليوم كي نستجلي معه صفحات الذكريات المديدة بالعطاء، والحب لهذا الوطن.

** الله يحفظك ويسلمك، ويبارك فيكم.

* في البدء؛ نريد أن تتحدث لنا عن البيئة التي خرج منها ذلك الصبي، المعروف بعفرتته، حدِّثنا عن ظروف النشأة، وعن التربية التعليمية، والظروف الاجتماعية.

** أنا ابن فلاح، من إحدى قرى الوشم، وعشت بسيطًا، وأهلي ليسوا فقراء، إنهم فلاحون يعيشون عيشة رغدة، ولكن الأقدار فرَّقت بين والدتي ووالدي في سنٍّ مبكرة، فكانت والدتي في قرية ووالدي في قرية مجاورة، لا يحول بينهما إلَّا وادٍ لا يتجاوز 100 متر، فكانت والدتي تعيش في هذه القرية ووالدي يعيش في قرية مجاورة، وكنت أعيش بينهما، وأنا أعتقد أنني عشت طفولةً من أسعد الطفولات، لأنني كنت أتمتع بحرية لا مثيل لها، وأنا أعتقد بأن أطفال القرى يتمتعون بهذه الحرية بالأسلوب نفسه الذي تمتَّعت به، أما حياة المدن فهي معقَّدة، والطفولة فيها صعبة جدًّا، فنحن في القرية ليس لنا إلَّا أن يخرج الإنسان من بيت أهله، فيجد شوارعَ ليس فيها صخب ولا سيارات ولا أخطار تهدِّد الطفل، فإذا خرج من بيته وجد من الأطفال من هم في عمره، فيعيش معهم، يستمتعون بعدة ألعاب كلها من البيئة، لا يستوردون شيئًا، وليس عندهم أيّة أداة من أدوات التسلية من الخارج.

وكانت هذه الألعاب البسيطة تمثِّل الثقافة الشعبية، كما أنها تمثِّل حب الوطن، وأنا لا أزال أحن إلى قريتي “غسلة”، وآخر ما ذهبت إليها في منتصف ليلة العيد كي أشاركهم الاحتفال بهذا اليوم، وهناك وجدت ملتقى قرويًّا كله حب وكله شوق وسعادة، ومن ثمَّ يتمتع الإنسان بمأكولات نساء القرية الشهيّة واللذيذة والمتعددة.

التعليم في القرية

* قبل أن نعقد المقارنة بين ماضي هذه القرية النجديةوحاضرها، حيث أخضعتها قوانين التغيُّر الاجتماعي إلى كثير من التبدُّلات، حدِّثني عن طريقة التعليم، بالطبع كانت الكتاتيب إذ ذاك، فأريد معرفة أساتذة الشيخ عبدالكريم وأقرانه وطبيعة ومضمون الدراسة في هذه الكتاتيب، إذا تجاوزنا حفظ القرآن الكريم وقراءة بعض أطراف من السنة النبوية.

** تعلَّمنا القراءة والكتابة في القرية، ولم يكن عندنا كتب أو أوراق أو دفاتر أو أيّ شيء من هذا القبيل، وكان كل اعتمادنا على ما هو موجود في بيئتنا، فكنا نصنع لوحًا من الخشب ونطليه بمادة بيضاء، ومن ثمَّ نكتب فوقه ما يمليه علينا أو يطلبه منا معلمنا، فإذا حفظناه محوناه ثم أعدنا كتابته بهذه المادة البيضاء، وكنا نصنع الأقلام من الشجر، والحبر نصنعه بأيدينا، كنا نتدرب على الكتابة على الرمل والألواح الخشبية، وعندما ختمنا القرآن الكريم وحفظنا بعض السور القصيرة غيبًا، انتهت الدراسة في القرية، حيث تنتهي إلى حد معرفة القراءة والكتابة فقط.

مع الوالد

* هل كنت تساعد والدك في أعمال الزراعة أو بعض المتطلبات المعيشية؟

** والدي كان ابن أحد الفلاحين الكبار ولكنه تخلّى عن الفلاحة وتركها لوالده ولأخيه الذي هو أصغر منه، واشترى جملًا وصار يعمل عليه في نقل الأحمال بين قريةٍ وأخرى، وكان يعيش من أجور هذه الأحمال، وكنت أسافر معه إلى الرياض.

في رحاب الرياض

* أريد هنا معرفة أول رحلة إلى الرياض؛ متى كانت؟وكيف كانت الرياض وقتها؟

** الرياض لم تكن كبيرة، وكانت مهدَّمة، ولكن فيها سور عظيم يقولون: إنه سور دهام بن دواس، كان يحيط بالرياض ومزارعها ونخيلها، ولم تكن مباني الرياض كبيرة، بل كانت بيوتها تعيش في إطار سور له عدة أبواب، يسمون الباب دروازة، وأعتقد أن هذه الكلمة فارسية، وأتذكر أنني كنت أسير خلف سور الرياض على أقدامي فأتمّ دورة حول سور الرياض خلال ربع ساعة فقط، ولم تتسع الرياض إلَّا بعد فترة طويلة، أظن بعد الستينيات الهجرية، وكان هناك احتجاج ومعارضة ضد هذا الاتساع؛ لأن البعض كانوا يقولون: إن داخل السور هناك أوقاف لمن ماتوا وكذلك أوقاف اجتماعية، وكان الظن الغالب أنه إذا اتسعت الرياض وخرجت المباني خارج السور، فستتعطل المباني الموجودة داخله لأنها كانت قديمة، ولكن مع الوقت، تغلّب الرأي القائل بأن مدينة الرياض لا بد أن تخرج خارج هذا السور، وبدأت تتوسَّع نحو الغرب ونحو الشرق، وهي إلى الآن لا تزال تتوسَّع.

* ما الذي لفت نظرك في الرياض منذ تلك الرحلة الأولى؟

** لفت نظري أنها تنمو بسرعة هائلة، حتى أن الإنسان إذا زار منطقة من المناطق ثم زارها بعد شهر، وجدها قد تغيّرت في مبانيها وشوارعها وسكانها، ففي الواقع كان نمو الرياض أكثر مما يتصوره الإنسان، فهناك أراضٍ حول الرياض -كنا نتنزه فيها- كانت خالية من السكان، فبلغها العمران وتعداها، ولا تزال الرياض تنمو مع الزمن، فهناك مثلٌ يقول: “جاور ملكًاأو بحرًا”، ونحن في هذه الصحراء ليس أمامنا سوى مجاورة عاصمة الملك، لابتعادنا عن البحر، لذا فإن أهل كل القرى حول الرياض كانوا ينتقلون إليها، إما للتجارة والبيع والشراء، أو لأن بعض أولادهم يدرسون في مدارس وجامعات الرياض.

رحلة التعليم

* قبل الجامعات والمدارس الحديثة، كانت لك وقفة في الرياض، كما كانت لرفيقك الراحل الشيخ حمد الجاسر، أنت تعلمت في الرياض، أليس كذلك؟

** نعم، تعلمت فترة حوالي سنة أو سنة ونصف تقريبًا.

* في أي عام تقريبًا هذا؟

** في عامي 1346هـ و1347هـ، وكان الشيخ حمد الجاسر زميلي في الرياض، وأذكر -أيضًا- أن الشيخ عبدالله الخيّال، الذي أصبح سفيرًا في بغداد ومن ثم في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، كان من الذيندرسوا على المشايخ، وكانت الدراسات كلها في المساجد، وكان أبو العلماء حينها الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمه الله)، وكان هناك مشايخ آخرون؛ أذكر منهم الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، أخو الشيخ محمد، أسأل الله الرحمة للجميع.

* من هم أساتذتك في الرياض؟

** كنت أدرس على الشيخ محمد، وأخيه الشيخ عبداللطيف، وبقينا على ذلك حتى سنة السبلة، حيث حجَّ الملك عبدالعزيز، وطبعًا كانت تأتي سيارات كثيرة لتحمله هو وعائلته وحاشيته، فيذهبون إلى مكة، وبعد الحج يأتون في سيارات ليست ملكًا لهم، وإنما يأتون بسيارات قليلة وصغيرة لأفراد العائلة الكبار، أماالباقون فيأتون في سيارات نقل، وحتى إذا ما وصلوا إلى الرياض، عادت هذه السيارات إلى مكة، لأنها كانت تابعة لشركات في المنطقة الغربية.

المعهد العلمي السعودي

* حدثنا عن رحلتك إلى مكة ومحاولة التحاقك بالمعهد العلمي؟

** سمعنا أنه في الحرم تُلقى دروس متنوعة، ومسألة الحرم ومكة كانت لها جاذبية ولها جوانب روحية، تجعل الإنسان يتمنَّى أن يكون في رحاب هذه البقاع الطاهرة، وعندما عادت السيارات بالملك بعد الحج، طلبنا من رئيس الخاصة الملكية الذي هو عبدالرحمن الطبيشي، أن يأمر بإركابنا في هذه السيارات التي ستعود إلى مكة، وبالفعل ذهبنا إلى مكة، ووصلنا ولكن لم تكن لدينا نفقة، وطالب العلم يحتاج إلى نفقة وسكن وأكل وشرب، ولم يكن هناك في ذلك الوقت فنادق، فلم يكن منا إلا أن نزلنا ضيوفًا عند بعض أقاربنا، واستشرناهم فقالوا لنا: إنكم جئتم لطلب العلم ولا بد لطالب العلم من نفقة، فسألناهم الرأي، فقالوا:يجب عليكم أن تلتحقوا بإحدى الوظائف الحكومية، فمع الوظيفة سيأتيكم راتب يعينكم على أكلكم وسكنكم، وأيضًا يمكنكم تحصيل العلم في الساعات التي ليس لديكم فيه عمل.

وكنت قد سافرت مع ابن عمي إبراهيم (رحمه الله)، وكان يكبرني بخمس سنوات، وذهبنا إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها كانت تطلب موظفين من المتعلمين ليأمروا بالمعروف وينهون عن المنكر،ويُعوِّدون الناس الإقبال على المسجد وصلاة الجماعة، وقد قبلوا ابن عمي في الهيئة، أما أنا فقالوا لي: إنك صغير ولست في المستوى المطلوب لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاستشرنا مجددًا، فقالوا:ليس لك إلا الهجانة، والهجانة هم جنود مسلحون يلبسون لباسًا عاديًّا، وليس هناك تدريب أو ملابس عسكرية، وكانت تقسم على أماكن مختلفة، وتم توزيعي على قلعة أجياد، حيث بقيت فيها لمدة سنة.

وفي السنة التالية لوصولنا إلى مكة، جاء موسم الحج، وكان الملك عبدالعزيز قد أمر بافتتاح معهد للتعليم، الذي هو المعهد العلمي السعودي، فمكة لم يكن فيها إلا مدرسة الفلاح، وهذه كانت قبل مدرسة تحضير البعثات، وكان الإقبال على المعهد قليلًا لأنه كانت هناك دعايات سيئة حوله، بأن له مذهباً خامساً وغيرها من الدعايات التي كانت ظلمًا وعدوانًا، فدعوة الشيخ محمد وأهل نجد كلهم على الطريقة المحمدية النظيفة والشريفة، التي لا يدخلها شيء من الخرافات، وعندما حج الملك أمرَّ الشيخ محمد بن إبراهيم الذي هو رئيس العلماء، والذي تخرج على يده الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ ابن باز وأناس كثيرون، وكان أستاذًا في الرياض، فأمره الملك بأن يختار جملة من الشباب من المنطقة الوسطى، فاختار حوالي 20 طالبًا، وأمربإسكانهم وإعاشتهم وإعطائهم نفقة جيبية ليشتروابها بعض الكتب التي تعينهم على دراستهم، وهكذا التحقنا بالمعهد السعودي في قسم خاص اسمه قسم التخصص الديني.

* التخصص الديني؛ أيّ إن مواده كانت شرعية؟

** نعم، حديث وفقه وفرائض، مع ما يقويها من اللغة العربية؛ من نحو وصرف وتعليم الخط العربي، وما يساعد في معرفة اللغة العربية.

* كم كانت مدة الدراسة؟

** ثلاث سنوات، وبعدها تخرجنا، وقد التحقت بسلك التعليم، كانت مديرية ولم تكن وزارة، وقد تقلب على إدارتها أناس كثيرون، لكن ممن بينهم كان السيد طاهر الدباغ، وهو الذي تقدم بها خطوات كبيرة وجبارة جدًّا.

في سلك التعليم

* بعد التخرج في المعهد العلمي السعودي، ماذا عملت؟

** انتظمت في سلك التدريس، فأول مدرسة تعينت في فيها كانت مدرسة المعلا، ثم انتقلت إلى مدرسة الشبيكة وهي المدرسة الفيصلية، وأذكر أن الأمير عبدالله الفيصل قد التحق بهذه المدرسة لفترة قليلة، وأنا كنت من جملة من درسوا له لفترة فيها، وهو يعترف أنني من أساتذته، ثم انقطع عن المدرسة، وأعتقد أنه قدجيء له بأساتذة خاصين وصاروا يدرسونه في بيته.

التطلع إلى المعرفة

* شيخ عبدالكريم، وقتذاك كانت المنطقة الغربية في مكة المكرمة والمدينة المنورة على مستوى من النشاط الثقافي، كانت هنالك صحف، ألم تؤثر هذه الأجواء في هذا الشاب الآتي من وسط نجد، والمتطلع للتعليم والمعرفة؟

** بلا شك، إننا تأثرنا، ولا سيما أننا كنا نتطلع لمعرفة المجهول، ولمعرفة أي شيء، لأننا جئنا من صحراء قاحلة، قليلة العلماء.

* ما الصحف التي قرأ فيها الشيخ عبدالكريم، أسماء الكتّاب والأدباء الذين سبقوك، أنت والشيخ حمد الجاسر، كالعواد مثلًا وعبدالوهاب آشي وأحمد السباعي والشيخ عبدالقدوس الأنصاري؟

** بلا شك، إنهم سبقونا، ولا تنسَ الشاعر الكبير محمد حسن فقي، فهذا كاتب وفي الوقت نفسه كان شاعرًا جيدًا جدًّا، وكان رئيسًا لتحرير جريدة (صوت الحجاز)، التي تقلَّب عليها كثيرون من رؤساء التحرير، وامتياز الصحيفة كان لمحمد صالح نصيف، وهو غير محمد بن حسين نصيف، الذي كان رئيسًا للعلماء في جدة، وكان الملك عبدالعزيز (رحمه الله) إذا نزل إلى جدة يختار بيت نصيف ليسكن فيه، فقد كان أحسن بيوتها.

صحف ومجلات

* إذن، ما هي الأسماء التي قرأ لها الشيخ عبدالكريم الجهيمان، وهو في مكة المكرمة؟ وما هي الموضوعات التي لفتت نظره في الصحافة وقتذاك؟

** طبعًا الصحافة كانت محدودة، كانت هناك (أم القرى) و(صوت الحجاز) ومجلة (المنهل)، هذه كانت أهم الصحف والمجلات الموجودة في ذلك الوقت، وكنا نكتب فيها بعض المقالات، وكان الملك إذا جاء للحج نتسابق -نحن الشباب- لنظم بعض القصائد في مدحه والثناء عليه والترحيب به، وكنا نطرب إذا رأينا قصائدنا وأسماءنا منشورة في تلك الصحف، كانت آفاقنا محدودة، ولم يكن عندنا شيء من التطلعات البعيدة، حيث يكتب الإنسان ما يخطر على باله في تلك البيئة المحدودة.

كتب وثقافة

* شيخ عبدالكريم، وقتذاك حينما كنت في مكة المكرمة، بالتأكيد كنت تتردد على الحلقات العلمية المقامة في الحرم المكي، وبالتأكيد قرأت بعض الكتب المتعلقة بهوية ثقافتك العربية واللغوية، فهل من حديث هنا ووقفة؟

** كانت الحكومة قد جعلت الطلاب المختارين للمعهد في بيت مقابل لباب السلام، وباب السلام كان هو مجمع الدكاكين التي تتعامل في الكتب، وكان الباب مفتوحًا لأي كتاب مطبوع يأتي إلى مكة ويكون مطلوبًا ومرغوبًا، فكنا نمر على باب السلام خمس مرات، ونرى الكتب بين أيدينا، فنشتري ما يطيب لنا، وكانت كتب الأدب تعجبنا، وكتب التاريخ والشعر، فنختار منها ما نشاء، ونقرؤه.

* ما هي أبرز هذه الكتب التي قرأها الشيخ عبدالكريم وقتذاك؟

** قرأت أشياء كثيرة، قرأت -مثلًا- كتاب الأغاني، وكتاب تاريخ ابن كثير، وأذكر أنني قرأت كتاب سيبويه في النحو، وإذا قيل (الكتاب) فهو يبلغ حوالي ألف صفحة، وقد حفظت تقريبًا معظم ألفية ابن مالك، وإن كان للأسف قد تبخر من الذاكرة معظمها مع الزمن.

* ماذا عن الكتب الحديثة في مكة، حيث كانت هناك بعض الكتب التي تستورد من مصر أو من الشام، فهل اطَّلع الشيخ عبدالكريم على نماذج من هذه الكتب؟

** لا، فقد كانت ثقافتنا دينية فقط، صحيح كنا نقرأ بعض الصحف والمجلات التي تأتينا من مصر مثل (الرسالة)، ومثل (آخر ساعة) و(الأهرام)، لكن لم تكن لدينا دوافع لقراءة بعض القصص أو الكتب الحديثة، لأن دوافعنا كانت عربية دينية.

* لم يكن لديك اهتمام مبكر بقراءة الصحف والمجلات؟

** أذكر أنني عندما كنت في قريتي، وإذا ما ذهب الحجاج إلى مكة كنت أوصيهم بأن يأتوني بنسخة من جريدة (أم القرى)، وهم يذهبون على ظهور الجمال شهرًا في الطريق إلى مكة، وشهرًا في الطريق إلى قريتنا، فلا تأتيني النسخة إلا بعد شهرين، فقد كان لدي حب للاطلاع على أي شيء مجهول، والحمد لله لدي عقل وتفكير يميّز بين النافع والضار، فكنت أقرأ أي كتاب يقع تحت يدي إذا أعجبني، وقد أستفيد منه ولو فائدة واحدة، والحمد لله بقي الشيء النافع المفيد، أما الأمور الأخرى الزائفة فإنها ذهبت أدراج الرياح.

مُعلّم الأمراء

* شيخ عبدالكريم، بعد عودتكم من مكة إلى الرياض، وبحسب ما قرأنا، فنحن لم نعاصركم، كان لديك اهتمام بالتعليم، والتعليم وقتذاك كان لشريحة معينة من المجتمع، فهل من حديث هنا -ونحن نعلم بأنك علّمت الكثير من المسؤولين والأمراء، وكنت مشرفًا على التعليم في قصر الأمير سعود بن عبدالعزيز وقتذاك حينما كان وليًّا للعهد، في عهد والده الراحل الملك عبدالعزيز طيّب الله ثراه- كي تشبع لنا هذه المحطة التعليمية في حياتك؟

** سوف أذكر لك بداية رحيلي من المنطقة الغربية إلى المنطقة الوسطى، حيث كنا في أواخر الحرب العالمية الثانية، وكانت المواد الغذائية تقريبًا شحيحة جدًّا، وكان وزير المالية -وهو عبدالله بن سليمان- لديه فكرة بأن يحقق اكتفاءً ذاتيًّا، أو بعض الاكتفاء في مسألة المواد الغذائية، فكان الخرج فيه عيون جارية، فجاء إلى الخرج وعمل مشروعًا زراعيًّا كبيرًا، وصار هو بنفسه الذي يشرف عليه ويختار بعض الرجال كذلك من حاشيته ليساعدوا في هذا المشروع، وكان رجاله الذين يختارهم عندهم عوائلهم وأطفالهم، فقرَّر أن يفتح مدرسة نظامية في الخرج، وكان الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله) هو مدرس أولاد عبدالله بن سليمان، ويبدو أن عبدالله بن سليمان قد سأله عمَّن يختاره لهذه المدرسة، فأشار عليه بأن يستقدمني لتولي شؤون هذه المدرسة، وبالفعل فقد جئت إلى المدرسة، وهي مدرسة صغيرة ليس بها إلا أستاذ واحد، وهو الشيخ سليمان السكيت، من حائل، وهو رجل فاضل، وقد سمعت أنه في آخر حياته قد تولى القضاء.

توليت معه هذه المدرسة، وجاء الطلاب من رجال ابن سليمان وكذلك من منطقة الخرج، والتحقوا بهذه المدرسة، وكنا نعطيهم دروساً نظامية حسب منهج مديرية المعارف، وقد حازت شهرة كبيرة جدًّا، وأذكر أن الملك عبدالعزيز (رحمه الله) كان يأتي في الأسبوع مرة إلى الخرج، كنوع من عطلة الأسبوع، حيث فيها بساتين ونخيل وخضرة، فكان يأتي كل أسبوع، وقد أشار علينا بعض حاشية ابن سليمان وبعض آباء الأبناء بأن نقابل الملك بعد العصر في جلسته الخاصة، ومعنا أولاد ممَّن علَّمناهم بعض المحاورات في الفقه والتوحيد، والملك عبدالعزيز كان يحب هذا الشيء ويرغب فيه، فعلَّمناهم بعض المحاورات وبعض الأناشيد، وأنا كذلك أعددت قصيدة لإلقائها بين يدي الملك، وذهبنا إليه بعد العصر عندما جلس، وكنا مستعدين، فجئناه وتقدَّمت إليه، وكان عن يمينه سعود وعن يساره فيصل، وقلت له: لدي قصيدة أحب أن ألقيها بين يدي جلالتك، فألقيتها ثم تقدَّمت وأعطيتها إياه، وقلت: إن معي بعض أولادك من المدرسة يحبون أن يلقوا بين يديك بعض المحاورات في الفقه والتوحيد والمحفوظات، فاستجاب وقال: الله يحييهم.

ألقى الطلاب محاوراتهم ومناقشتهم، وسلَّمنا عليه، وقال: “بارك الله فيكم يا أولادي”، وهذا وسام شرف أننا أولاد الملك عبدالعزيز، وكان سعود قد أعجب بالطريقة التي تم بها الأمر وأعجب بالطلاب وإلقائهم وحفظهم، وبعد يوم أو يومين أرسل سعود برقية إلى ابن سليمان، بأن أولاده لم يكن لديهم أحد كي يدرس لهم، ويطلب منه إرسال عبدالكريم الجهيمان لكي يعلمهم، وقد نصّ على اسمي بالذات، فجاء ابن سليمان وقال:إن هذه برقية من ولي العهد، وليس أمامنا إلا السمع والطاعة، وطلب تسليم المدرسة وإدارتها إلى الشيخ سليمان السكيت، وتوجَّهت أنا إلى الرياض، وتوليت إدارة المدرسة هناك، ولم يكن فيها إلا مدرس واحد فقط، وهو عبدالرحمن بن عوين، وكان أولاد سعود معدودين، أكبرهم محمد، الذي أصبح أمير منطقة الباحة (قبل وفاته)، وعبدالله، الذي تولى إمارة مكة لفترة من الزمن، فجئت وتوليت المدرسة، وكان ابن عوين يدرسهم القرآن والتجويد، وأنا توليت بقية الدروس، وبعد ذلك بقيت فترة ثم كان هناك سليمان السديري، هذا الرجل الفاضل، وكنت طبعًا قد أُخرِجت من المنطقة الغربية بأمر ملكي بسبب وجود مشكلة في الاختبارات وما إلى ذلك، فأمر الملك عبدالعزيز بأن أخرج من الحجاز وأن أتوجه إلى نجد.

* وبعد ذلك، ماذا حدث؟

** بعد ذلك، جاء بي سليمان السديري، وطلب مني أن أدرس له دراسة خاصة، وذلك لحرصه على التعليم، وأنا سوف أدفع لك مثل الراتب الذي كان يدفعه لك ولي العهد، وكان رجلًا كريم الخلق، نظيف المسلك، وكانت والدته صالحة وتقيّة ونقية ومن خيار النساء، فبقيت أدرس له إلى أن جاء وقت الحج، فذهب إلى الحج مع والدته، وطبعًا لم يكن بمقدوري الذهاب إلى مكة وأنا مُخرجٌ منها، ولكن مع الأمير سليمان السديري استطعت أن أذهب وأحج معه، وبعد الحج جاءت برقية من الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، وكان عنده عثمان الصالح، وهو من يدرس لأولاده، ويبدو أنه حدث خلافبينه وبينهم، فطلب إعفاءه من تدريس أولاد عبدالله، فأعفاه، فأرسل برقية إلى سليمان السديري يطلب مدرسًا لأولاده، ويخبره برغبته في أن يستقدمني لتعليمهم، فأخبرني سليمان بشأن البرقية وقال: إنه ليس أمامنا إلا السمع والطاعة، فذهبت إلى عبدالله بن عبيد، الذي كان وكيلًا للأمير عبدالله، وبدأت أدّرس لأبناء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن.

* كم من الوقت استمريت في تدريس أبناء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن؟

** جلست عند الأمير عبدالله لمدة خمس سنوات، وكانت من أسعد أيام حياتي، أذكر من كبار أولاده؛ الأمير عبدالرحمن بن عبدالله، ومن أولاده -أيضًا-يزيد، وهو أحب أولاده إليه. وفي سنة من السنوات حيث كان عمره 14 أو 15 سنة، طلب من والده أن يسافر إلى مصر للعلاج، والده كان يحبه، وهذه كانت فرصة للانتقال من هذا المحيط المحلي إلى محيط أوسع.

خارج حدود الوطن

* إذن، حدِّثنا عن هذه التجربة، حدِّثنا عن أول بلد زاره الشيخ عبدالكريم الجهيمان خارج هذه الحدود، والآثار -أيضًا- التي انطبعت في ذهنه وفي وجدانه.

** أول بلد زرتها خارج بلدي، هي القاهرة، وكان ذلك في عام 1371هـ، وقد انبهرت بما فيها من الأضواء والعمارات وحركة السيارات وحركة البشر، في الحقيقة كانت نقلة كبيرة.

* ماذا -أيضًا- لفت نظرك في القاهرة غير السيارات والعمارات؟ هل اتصلت -مثلًا- هناك بالصحف لتأكيد هذه الرغبة المبكرة في حب الصحافة وإصدار صحيفة بعد ذلك في المنطقة الشرقية، حينما كنت في القاهرةهل التقيت ببعض الكتاب أو حاولت الاتصال بهم؟

** أنا في الحقيقة حركتي كانت محدودة، لم أكن بكامل حريتي، فأنا كنت سكرتيراً لأمير، ويجب أن أكون دائمًا بجواره ومعه، صحيح أنني ألتقي بعدد من الأدباء وشخصيات كبيرة أخرى، مثل السفير وغيره من رجال السفارة، فكانت إمكانياتي محدودة جدًّا بسبب ارتباطي بالأمير، وبقينا في القاهرة حوالي ستةأشهر، ثم جاء الصيف فذهبنا إلى الإسكندرية، ومن بعدها سافرنا إلى أوروبا، حيث بقينا فيها تقريبًا حوالي ستة أشهر أخرى، وبقينا في لندن حوالي خمسة أشهر، ثم تجولنا لمدة شهر، حيث انتقلنا من بريطانيا إلى بلجيكا، ومنها إلى هولندا، ثم إلى سويسرا، ومنها رجعنا إلى إيطاليا، ومن إيطاليا ركبنا باخرة وعدنا إلى القاهرة.

في بلاط الصحافة

* بعد ذلك، وجدنا لك محطة أخرى محتدمة بالنشاط والحيوية، وهي المحطة الصحفية.

** في منطقة الخليج، حيث كانت لدي فكرة بأن أذهب إلى الكويت، كي أراها، وأن أذهب إلى البحرين، وإلى قطر، وإلى عمان، حيث كان لدي حب الاطلاع والمعرفة والاختلاط، وعندما وصلت إلى الدمام وجدت صديقًا قديمًا، هو عبدالله الملحوق، الذي كان سكرتيرًا للأميرسعود بن جلوي أمير المنطقة الشرقية، ولكنه استقال بنية الذهاب والاستقرار في بيروت، حيث كان قد أنشأ شركة للطبع والنشر والترجمة، وهي شركة الخط، فوجدأن وجودي في الدمام فرصة، واستطاع أن يطلب منيتولي إدارة هذه الرحلة، وقال: إن هذه المنطقة منطقة مهمة جدًّا، ولها مستقبل زاهر، وهذه أول صحيفة تنشأ، ومن أول شركة للطباعة في المنطقة الشرقية، ولها مستقبل حافل، واستطاع أن يقنعني، فتوليت إدارة هذه الشركة.

وبعد فترة قصيرة، رأينا أن نطلب ترخيصًا لإصدار جريدة تابعة للشركة، باسم “أخبار الظهران”، وجاءتنا الموافقة، وصدرت هذه الجريدة في عام 1374هـ، فأصدرنا الجريدة التي كانت أولًا تُطبع في بيروت، وكانت أسبوعية، وإن كنا نصدرها نصف شهرية في البداية، ثم صار لدينا في الدمام استعدادًا لأن نطبعها فيها.


فيديو: (هنا).




error: المحتوي محمي