الوعي وأثره على الخيارات الأكاديمية للطلاب

إن تكوين الوعي أمرٌ أساسي، ومسؤولية الأسرة والمدرسة، بدرجة أولى، حيث عليهما بناء شخصية الطالبات والطلاب، ليكونوا مؤهلين لاختيار مستقبلهم بكل استقلالية، بعيداً عن الميلِ نحو أحلام الأمهات والآباء، أو الجلوس في مقعدٍ دراسي فقط لأنه بجوار صديق أو صديقة لا أكثر… وللحديث تتمات

سأسردُ نزراً من ثنايا تعليقين استمعت لهما أثناء نقاشي مع صديقين عزيزين، الأفكار التي وردت في مقال الأسبوع الفائت «متفوقون خارج المقاعد الجامعية».

الصديق الأول، قال إن ابنه تخرج من الثانوية العامة بتفوق، وحاول الحصول على مقعد دراسي في أكثر من جامعة، أو اقتناص فرصة في إحدى الشركات السعودية الكبرى التي تقدمُ منحاً للطلبة والطالبات، إلا أنه لم يُوفق لذلك؛ وفي النهاية قُبلَ ضمن «المسار العلمي» بـ»جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل» في المنطقة الشرقية.

الأب الحريص على ابنه أشار إلى أمرين مهمين:

الأول: أنه رغم ما يمتلك من علاقات واسعة، إلا أن كل ذلك لم يُسعفه في الحصول على مقعدٍ لابنه، وأن «الواسطات» باتت اليوم أقل نفوذاً بكثير مما كانت عليه في أزمنةٍ خلت. وأن العديد من الجامعات والشركات في الوقت الحالي، تعمل وفق مسطرةٍ علمية واشتراطات مهنية تسير عليها. وهذه المعلومة التي ساقها صاحبنا من تجربة شخصية، مؤشرٌ مبشرٌ بالخير، وهو أمرٌ أفرحهُ أيضاً، لأنه يحقق التكافؤ في الفرص، ويجعل السعوديين سواسية، لا فرق بينهم، ويحد من التدخل البشري السلبي، الذي كان يستثني البعض من القبول الجامعي لأسباب عديدة وغير مقنعة. صحيح أن «الواسطات» لم يتم القضاء عليها بشكل تام، والتجاوزات موجودة في بعض الأمكنة، إلا أن الأهم أنها في الطريق إلى الانحسار، وأن المتضررين منها من حقهم التظلم، ورفع شكوى ضد الجهة التي تمارس عليهم الإقصاء لتمنح الفرصة التي يستحقونها لأفراد آخرين أقل كفاءة.

الأمر الثاني: سؤال يستحق النقاش، ألقى به الصديق الأثير، عندما قال: هل يجب أن يحصل كل خريج على مقعد جامعي؟ وهل الجامعات من المفترض أن تحتضن مختلف الطلاب السعوديين، بنسبهم المتفاوتة؟

الجواب في نظر صديقنا هو: لا! كونه يرى أن طبيعة الحياة، ومقتضيات سوق العمل، وسيرورة التطور البشري، كل ذلك يقتضي أن تكون هنالك خيارات أخرى، وهو أمرٌ يعتمد بدرجة كبيرة على الفرص المتاحة، والمسارات الممكنة، وقبل كل ذلك وعي الطلاب وأسرهم، والثقافة المجتمعية السائدة.

هي ربما قضية شائكة، تحتاج نقاشاً موسعاً في مقال مستقل، لبحث ما هي البدائل، ولماذا المقعدُ الجامعي ليس هو الطريق الوحيد لمستقبل ناجح ومستدام.

الصديق الثاني، روى لي قصة ابنه الذي حصل على قبول في «جامعة الملك فهد للبترول والمعادن»، كونه حقق النسبة «الموزونة» المطلوبة، تمهيداً لدراسة التخصص الذي يرغبه، وهو «الإدارة المالية».

الأبُ، كان في حوار مع ابنه، ليستفسر حول السبب الذي منعه من التسجيل لدراسة «الطب» أو «الهندسة»؛ ليجيب الابن عن عدم رغبته بذلك، مردفاً: البلدُ مقدمٌ على تغيراتٍ واستقطابِ وافتتاحِ شركات جديدة؛ هذه الشركات ليست جميعها بحاجة لأطباء أو مهندسين، لكنها بأكملها تحتاج لإداراتٍ مالية تنظم شؤونها، ولذا اخترتُ هذا التخصص.

الأب فرحَ لجواب ابنه، وافتخر بأن هذا الخريج اليافع من الثانوية العامة كان لديه الوعي الكافي ليختار التخصص الذي يلبي طموحه من جهة، ويتناسب مع سوق العمل من جهة أخرى. الرؤية الواضحة لدى ابن صديقي، لم تكن بهذا الاكتمال لولا أن بيئته المنزلية ساعدته في بناء ثقافة عامة، تجعل شخصيته أكثر استقلالا، وتنمي وعيه بأهمية المستقبل، وأن الخيار يكون بما يناسب إمكانات كل فرد واهتماماته، وأن عليه ألا يكون جزء من العقل الجمعي الذي لديه خيارات رتيبة يسير عليها من عشرات السنين، ليختار بين: الطب والهندسة، ولا يرى النجاح الحقيقي خارجهما.

إن تكوين الوعي أمرٌ أساسي، ومسؤولية الأسرة والمدرسة، بدرجة أولى، حيث عليهما بناء شخصية الطالبات والطلاب، ليكونوا مؤهلين لاختيار مستقبلهم بكل استقلالية، بعيداً عن الميلِ نحو أحلام الأمهات والآباء، أو الجلوس في مقعدٍ دراسي فقط لأنه بجوار صديق أو صديقة لا أكثر… وللحديث تتمات.


المصدر: صحيفة الرياض



error: المحتوي محمي