ورد عن رسول الله (ص): “إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين زين العابدين؟ فكأني انظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطو بين الصفوف” (علل الشرائع ج ١ ص ٢٣٠).
يحدثنا رسول الله (ص) وهو الصدوق، عن مشهد غيبي لا يقع في هذه الحياة الدنيا، وإنما هومن مواقف يوم الآخرة الذي يحاسب فيه العباد على ما فعلوا من خير أو شر، وينال فيه المطيعون ممن غالبوا شهواتهم وأهواءهم رضوان ربهم، وبلا شك أن الإخبار النبوي ينطوي على غايات وأهداف تحرك العقول والنفوس نحو السمو والكمال والصفات الحميدة، فيا ترى: ما الغايات التي يمكننا أن نقف عليها في هذا الإخبار؟
أولاً: مبدأ التحفيز والتشويق: من أهم محركات الإنسان نحو السعي والعمل الحثيث هو إدراكه لما سيلقى منه من نتائج وآثار تعود عليه بالنفع والإنجاز والتقدم، فالغاية الكبرى عن الناس هي الوصول إلى تحقيق الأهداف المرسومة والظفر بالسعادة، وكل سرور وارتياح دنيوي مشوب بالتنغص والكدر، كما أنه محدود بزمن معين ما يلبث أن ينقضي.
وأما السعادة الحقيقية فهي العمل للدار الأبدية، فيبذل جهده ويغتنم أوقاته لتحويلها إلى مكتسبات أخروية، وهنا يقدم لنا الرسول الأكرم (ص) تحفة تشويقية تظهر مكانة المجدين الساعين بعمل الخير وطاعة المعبود في الدنيا وما ينالهم من جزاء أكرم الأكرمين.
فالحديث وإن كان سياقه عن الإمام السجاد (ع) ولكنه يحمل دلالة ضمنية لمن يسير بنهجه ويتخذه قدوة في حياته وعلاقته بالله عز وجل، فلينظر صاحب البصيرة سيرة هذا الإمام العظيم ويتطلع لما تنقله الروايات الشريفة عن علاقته بالله تعالى وعبادته، ومن أراد أن يكون في زمرة الناجين والفائزين في يوم القيامة فلينشط في محراب الطاعة والعبادة كما كان عليه هذا الإمام العظيم.
فهذا المقام التشريفي وإظهار المكانة الخاصة التي نالها (ع) عند ربه وما له من خصوصية بين يدي الملأ من الأولين والآخرين يحظى بإشعاعاته السائرون على خطاه، فمن تمسك بهذا النور السجادي وهو العبادة الحقة المخلصة كان ممن يحظى بالعناية الإلهية، ولا نجد محفزاً نحو محراب العبادة وملازمة ذكر الله تعالى القلبي والسلوكي كهذا المشهد التكريمي.
وبلا شك أن أفضل سبل تربية النفوس هو التربية بالقدوة، أي رسم وذكر معالم سيرة أولئك العظماء وما كانوا عليه من سمو وكمال عبادي وفكري وأخلاقي، وها هو الرسول الأكرم (ص) يشير إلى أحد الغصون المتدلية من الدوحة المحمدية وسلسلة الإمامة وهو الإمام السجاد (ع)، وما كان عليه (ع) من ملازمة محراب العبادة لا يعني أنه يمتاز بذلك عن بقية الأئمة (ع) ويتفوق عليهم في هذا الجانب، بل لأن العبادة في زمانه أخذت جانباً تحريفياً وتحولت عند البعض إلى رهبانية وطقوس فارغة من المضامين التربوية، بحيث لا يبقى منها إلا الهيئة والصورة دون وجود أي تأثير في تعذيب السلوك وحصانة النفس من الأهواء والشهوات، والتي تؤكد أن العبادات لها مضامين تسمو بالنفس نحو الكمال والتقوى وتنهاها عن الفحشاء والمنكر.
فكان لجهود زين العابدين (ع) أكبر الأثر في تثبيت معالم الدين وقيمه، فأعطى للعبادة مفهومها الشامل لجميع جوانب حياة الإنسان وعلاقاته وتعاملاته، فالعبادة لا تقتصر على الصلاة والصوم وإن كان لها الأثر البليغ، ولكن العبادة علاقة خاصة بالمعبود تنجذب فيها النفس نحو المعرفة التوحيدية وتعظيم الخالق، عبادة تتجه فيها النفس لله عز وجل وتخلف وراءها كل زخارف الدنيا والتعلق المتيم بها، عبادة يحضر الرب الجليل في القلب فيراعي العبد أنه بعين الله تعالى في كل أقواله وأفعاله، عبادة ينطلق فيها المؤمن نحو الحضور الفعال في ساحة قضاء حوائج الناس والسعي لبلسمة حاجاتهم وآلامهم، عبادة المعرفة التي انطلق الإمام (ع) في ميادينها حينما اعتلى منبر جده المصطفى (ص) وبث من خلاله الأحكام والتعاليم الدينية؛ ليتحلق من حوله كوكبة من التلاميذ الكثر ناهلين من معين وعذب علوم أهل البيت (ع).
وشملت قائمة المتعلمين من كانوا تحت يد الإمام زين العابدين (ع) من العبيد الذين يتعلمون منه وينطلقون إلى بلدانهم لنشر تلك المعارف، عبادة الأخلاق والرقي السلوكي والتي هي أهم المضامين العبادية الصانعة لشخصية الإنسان السامية بعيداً عن المعاصي والعيوب، عبادة الكرامة الإنسانية التي تحفظ له كرامته وعزته واتزانه مهما كانت الظروف الصعبة التي يمر بها، وهذا زين العابدين (ع) خير مثال للإباء والصبر والعمل في ظروف استثنائية لا مثيل لها، ففي مسيرة السبي المؤلمة ظهرت قوته الإيمانية والنفسية ولم يبد أي استضعاف أمام أعدائه، بل صدح بالحق، ويدل على ذلك موقفه في الكوفة وخطبته في الشام.