لا يرحل العالم، بل النَّاس هم من يرحلون عنه، يبقى وتمر أجيالٌ من البشر تأتي وتذهب! هذه سنة الحياة، والتاريخ يحفر فيه النَّاس بقدر جهدهم، وأكبر ما يحفر فيه وينحت آثارًا ضخمة هو العالِم – بكل أنواعِ وأنماطِ العلماء – وباقي النَّاس ينحتون سطرًا واحدًا يكون نعيًا لهم، إن كانوا محظوظين، وإلا فلا ذاكرَ لهم.
“يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ:
النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَة”.
هذه حكمةٌ من حكم الإمام علي ابن أبي طالب عليه السَّلام، تستحق أن تُكتب بمدادٍ من ذهب، ولو كتبها فيلسوفٌ غربيّ لرأيتها معلقةً في مداخلِ الجامعاتِ والمعاهد، أينما توجهت، خلاصتها: لا صاحب المال يبقى ولا الهمج الرَّعاع، وهم كثر على مرّ التَّاريخ. أما العالم الربانيّ فمَقعده محجوز ومجلسه محفوظ، لا ينافسه عليه أحد!
من منَّا لا يعرف اسمَ عالمٍ في الدِّين – أو الدّنيا – ويعرف عنه أكثر من آخرين بالكاد جفَّت تربةُ قبورهم؟! ليس ذلك إلا لأنه وإن غابَ جسدُ العالم والتفاعل اليوميّ معه، لم تغب روحُ العالم النَّاظرة وآثاره الباصرة.
مليارات البشر يولدون ويموتون، وكأنَّ شيئًا لم يكن، أما العالم إذا مات جسده بكته آثاره وأعماله، والتاريخ لا بابَ له فيدخل منه الإمَّعات والهمج الرَّعاع. تنقص الأمة إذا طُمس نجمُ عالم، لكنها متى ما أصبحت أمةً ولَّادة لنجومٍ آخرين يبثون في الأرضِ الضياء، فهي أمَّة حيَّة، لا يعتريها فناء!
كيف يموت شخص قال عنه رسولُ الله صلى الله عليه وآله: والذي نفس محمَّدٍ بيده! لعالمٌ واحد أشدّ على إبليس من ألفِ عابد، لأن العابد لنفسه والعالم لغيره. وقال أيضًا: موتُ العالمِ مصيبة لا تُجبر وثلمة لا تسدّ، وهو نجمٌ طمس، وموت قبيلة أيسر من موتِ عالم.