إشكالية المقدس في نقد الكاتب عبد الأعلى لخطاب السيد المنير

من بوابة الجندرية والحركة النسوية وجدل التاريخ والمتخيل

دخل العلامة المنير الموسم العاشورائي لعام 1443هــ  جاعلاً (موضوعة المرأة) تحت مجهره الخطابي, لما تمثله تحديا صعبا في الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة و موضوعا مائزا بين الكلام القديم والكلام الجديد هذا من جهة, ومن جهة أخرى تجريب مناهج العلوم الإنسانية واللسانية المعاصرة ,من هنا جاء تعليق أحد الكتاب (سلمان عبد الأعلى ) حول المحاضرة الأولى ( سيرة الزهراء ع بين التحقيق التاريخي والتلاعب الطائفي ) من خلال مناقشة سماحة السيد منير الخباز لكتاب  (جدل التاريخ والمتخيل سيرة فاطمة للدكتور بسام الجمل) اذ يقول صاحب التعليق الكاتب سلمان عبد الأعلى :

(احتج السيد الخباز على الدكتور الجمل بمنهجية لا تتناسب مع منهجيته، فقد احتج عليه بالقرآن الكريم في الآيات المتعلقة بالسيدة مريم عليها السلام في مسألة الرزق، ونبي الله عيسى عليه السلام في مسألة الخلق، ونبينا محمد صلى الله عليه وآلهوسلم في مسألة الإسراء، وهذا الاحتجاج لا يفيد للاحتجاج مع أصحاب الفكر الذي يُحسب عليه أمثال الدكتور بسام الجمل، لأنهم يرون أن القرآن الكريم من مصادر تكوين المتخيل الديني).

ثم أشار إلى مقالة له نقد فيها ما جاء في كتاب الدكتور الجمل تحت عنوان “فَاطِمَةُ (ع) بَيْنَ التَّارِيخِ وَالمُتَخَيِّل”

مما يوحي للقارئ أنه استخدم منهجية تتناسب مع منهجية الدكتور الجمل وأن منهجية  سماحة السيد منير الخباز كانت خارجها 

سؤال مركزي

وهنا نسأل هل فعلا منهجية سماحة السيد منير الخباز كانت خارج منهجية الدكتور الجمل وأن منهجية  الكاتب سلمان عبدالأعلى تتناسب ومنهجية الدكتور الجمل أم لا ؟

للإجابة على هذا السؤال المركزي لابد أن نحلل نقد الكاتب عبدالأعلى لكتاب الدكتور الجمل ومقارنته بمحاضرة سماحة السيد منير الخباز وذلك من خلال النقاط التالية :

1 – موضوع النقد 2.  هدف النقد 3. منهجية النقد وأدواته 4. نتيجة النقد

1- موضوع النقد : سيرة السيدة الزهراء  (عبين التحقيق التاريخي والمتخيل .

انصب جل جهد الكاتب عبد الأعلى على التحقيق التاريخ بالدرجة الأولى عن المتخيل لقول الدكتور الجمل :

(وآية ذلك أن التاريخ يوفر للمتخيل مادة أولى يتخذها منطلقاً لبناء صورة عن فاطمة مثلما أن المتخيل يعيد قراءة المعطيات التاريخية بطريقة تأويلية رمزية.  

إذا فموضوع النقد واحد عند الدكتور الجمل و سماحة السيد منير و الكاتب عبد الأعلى .

2 – هدف النقد أو الناقد (تأثير الهدف في اتخاد المنهج المناسب  و إشكالية المقدس)

لهدفية النقد تأثير واضح في اتخاذ المنهج المناسب فمثلا هدف الدكتور الجمل هو :

( بأن اهتمامنا بفاطمة في التاريخ ليس القصد منه إعادة كتابة سيرة فاطمة بأدوات المؤرخين المحترفين، وبمناهجهم الحديثة المعاصرة في المقاربة، وإن كان النظر في ذلك مهماً؛ بل القصد معرفة كيفيات الانتقال من سيرة تاريخية يُعتقد أنها كذلك لدى منتجيها، إلى سيرة متخيلة نراها نحن على هذه الصفة، ويراها غيرنا من العلماء المسلمين قدامى ومعاصرين من صميم التاريخ.  

واما هدف الكاتب عبد الأعلى فهو كما يقول :

(والحق أن هذا النوع من الدراسات النقدية الحديثة في غاية الأهمية، نظراً لكوننا في مسيس الحاجة لإخضاع جميع شخصياتنا الدينية المركزية – وليس فاطمة (ع)  فحسب – لدراسات من هذا القبيل، وذلك لكي نستطيع أن نميز بين ما له أصل تاريخي، وبين ما هو متخيل خارج عن الأُطر التاريخية) 

نلاحظ هنا أن هدف الكاتب يتقاطع مع هدف الدكتور الجمل حسب الظاهر

سؤال :

إلى أي مدى يتقاطع هدف الكاتب مع هدف الدكتور الجمل في الدراسات الحديثة فهدف الدكتور الجمل يتناسب مع حقل مايسمى بفلسفة الدين

تعريف فلسفة الدين :

ـ فلسفة الدين: وهي “نوع من الفلسفة تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدّسات والمعتقدات والظواهر الدينيّة وتفسيرها، وهي لا تتوخّى الدفاعَ عن هذه المعتقدات وتبريرها، مثلما يفعل اللاهوتيّون والمتكلّمون، وإنّما تهتمّ بشرح وبيان بواعث الدين ومنابعه في الروح والنفس والعقل، ونشأة المقدّ وتجلّياته في حياة الإنسان، وصيرورته وتحوّلاته في المجتمعات البشريّة” .

وأيضا يقول الباحث الإسلامي الدكتور عبدالحسين  خسربناه

( أما اليوم فلا تطلق فلسفة الدين إلا على التفكير الفلسفي والعقلاني حول الدين , ولا يمكن عدها وسيلة لتعليم الدين بناء على ذلك يمكن للملحدين وللا أدريين – كما للمتدينين – مزاولة التفكير الفلسفي  حول الدين)

اي كما أشار إليه الدكتور عبدالجبار الرفاعي (وهي لا تتوخّى الدفاعَ عن هذه المعتقدات وتبريرها، مثلما يفعل اللاهوتيّون والمتكلّمون.

ولذا عرف الدكتور خسروبناه علم الكلام (هو علم وفن ينتمي للدراسات الدينية تستنبط وتنظم وتبين به المعارف والمفاهيم العقائدية من خلال الاستعانة بالنصوص الإسلامية ويستدل به على إثبات تلك المعارف وتبريرها باتباع مختلف المناهج والمقاربات الدينية وغير الدينية ويرد به على شبهات المخالفين ومناقشاتهم العقائدية)  

وإن كان حاول البعض كالمفكر الإيراني عبدالكريم سروش ربط علم الكلام بفلسفة الدين عبر مفردة الجديد أي علم الكلام الجديد وهنا ندخل في إشكالية كبرى في بلورة علم الكلام الجديد 

هل هو امتداد للقديم كما هو في التعريف السابق  وهومختار الدكتور خسروبناه أم هو انقلاب على جوهر الكلام القديم واشترك معه في اللفظ أي بما يسمى بالاشتراك اللفظي كما هو حاصل عند بعض المفكرين الحداثيين أو هو تكامل لعلم الكلام القديم عبر استخدام المناهج  الحديثة  والمسائل المستحدثة  كما هو حاصل عند مدرسة المفكرين السيد محمد باقر الصدر والعلامة الشهيد الشيخ مرتضى المطهري .

فواضح هدف سماحة السيد منير الخباز من المحاضرة  هوالدفاع عن مكانة السيدة الزهراء عليها السلام وموقعها الإسلامي فهذا الدفاع يتناسب مع حقل علم الكلام الجديد المنطلق من مدرسة المفكرين الشهدين الصدر والمطهري  وهو الدفاع عن المعتقدات والمقدس من خلال الاسفادة من المناهج الحديثة.

أما هدف الكاتب عبد الأعلى فقد وقع في ارتباك في التعامل مع منهج الدكتور الجمل عبر ما يسمى بإشكالية المقدس  أيتوخى الدفاع عن مكانة السيدة الزهراء عليها السلام فيدخل في حقل علم الكلام؟  أم لا يتوخى ذلك فيشترك مع الدكتور الجمل في حقل فلسفة الدين.؟ 

للإجابة على هذا التساؤل نستشهد بالتالي :

1. بدأ الكاتب عبد الأعلى متحمسا في بداية مقاله بقوله :

(حاول الباحث بسام الجمل دراسة كيفية تحول سيرة فاطمة الزهراء  (ع) من الواقع التاريخي إلى المتخيل الإسلامي، والحق أن هذا النوع من الدراسات النقدية الحديثة في غاية الأهمية، نظراً لكوننا في مسيس الحاجة لإخضاع جميع شخصياتنا الدينية المركزية – وليس فاطمة   فحسب – لدراسات من هذا القبيل، وذلك لكي نستطيع أن نميز بين ما له أصل تاريخي، وبين ما هو متخيل خارج عن الأُطر التاريخية.  

ثم يتدارك الكاتب عبد الأعلى بقوله :

لا يمكن القول بأن جميع الشخصيات يصح التعامل معها وفقاً لهذين المعيارين، وبالخصوص الأنبياء   ومن يقترب من دائرتهم، فهل يصح القول بأن النبي (ص) وابنته فاطمة  (ع) هما ممن يتفقون في تعاملاتهما في أمورهما الحياتية – كالعادات الخاصة بأمور الزواج وإدارة شؤون الحياة – مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي آنذاك؟ أعتقد أن هذا الأمر مجانب للصواب، وبالخصوص بالنسبة للرسول (ص)،فمما لا شك فيه أن دعوته اشتملت على ما لا ينسجم مع الكثير من القيم الاجتماعية الموجودة في عصره

ولهذا توصل الكاتب  عبد الأعلى في نتيجة قراءته النقدية لكتاب الدكتور الجمل الى القول :

(ولكنه للأسف الشديد فر من هذه القراءة ووقع فيما هو أعظم منها، حيث أنه قرأ سيرتها بما أستطيع أن أسميه بالقراءة التحقيرية أو التسفيهية ) 

ثم يقول  في موضع أخر :

(علماً بأنه ليس بالضرورة أن تكون الشخصية هامشية حتى تتحول سيرتها من التاريخ إلى المتخيل، لأن هناك الكثير من الشخصيات المحورية المهمة كالأنبياء   التي تحولت سيرهم من التاريخ إلى المتخيل، بل أكاد أجزم بأن الشخصيات المحورية المهمة هي التي تكون قابلية انتقالها للمتخيل أكثر من غيرها، وذلك نظراً لتأثيرها الكبير في نفوس المتأثرين بها).  

3- منهجية النقد وادواته ( معالجة سماحة السيد منير الخباز لإشكالية المقدس). 

عزيزنا عبد الأعلى اذاً لا معنى لنقدك  لسماحة السيد منير الخباز بقولك  في التعليق :

(احتج السيد الخباز على الدكتور الجمل بمنهجية لا تتناسب مع منهجيته، فقد احتج عليه بالقرآن الكريم في الآيات المتعلقة بالسيدة مريم عليها السلام في مسألة الرزق، ونبي الله عيسى عليه السلام في مسألة الخلق، ونبينا محمد صلى الله عليه وآلهوسلم في مسألة الإسراء، وهذا الاحتجاج لا يفيد للاحتجاج مع أصحاب الفكر الذي يُحسب عليه أمثال الدكتور بسام الجمل، لأنهم يرون أن القرآن الكريم من مصادر تكوين المتخيل الديني).  

فإن ما طرحه سماحة السيد منير الخبازملتفت لما أشكلت عليه  وهو قولك :

( لا يمكن القول بأن جميع الشخصيات يصح التعامل معها وفقاً لهذين المعيارين، وبالخصوص الأنبياء   ومن يقترب من دائرتهم) .

بينما قلب  سماحة السيد منير الخباز الطاولة على الدكتور الجمل في إشكالية قبول الغيب والمعجز أذا ثبت تاريخيا وذلك عبر تواتر القرآن   فما بعد القرآن تواتر كوثيقة تاريخية في سياق قوله والذي لم يفهمه الكاتب عبد الأعلى .

(إذا كانت كل رواية فيها لمسة إيمانية غيبية، نتحفظ عليها ولا نقبلها لأن فيها لمسة غيبية إيمانية، بعيدة عن مسار التاريخ هذا يقتضي أن نتوقف حتى في الأحداث التي ذكرت في القرآن، القرآن ماذا قال عن مريم؟ ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ هل نتوقف لأن فيها لمسة غيبية؟ أو عندما يقول عن عيسى ابن مريم: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذه لمسة غيبية إعجازية، محمد   عندما يقول عنه القرآن الكريم: ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ هذه قصة عليها لمسة غيبية إعجازية واضحة.

إذن ليس كل حدث فيه لمسة إعجازية يتحفظ عليه ويقال هذا ليس من التاريخ، بل المهم أن هذا الخبر ثبت بطريق صحيح أم لا، إذا ورد الحدث بطريق معتبر بحسب الموازين العلمية يؤخذ به حتى لو كانت فيه لمسات غيبية أو إعجازية أو إيمانية) 

فتواتر القرآن مما لا شك فيه سواء أكان ذلك عن طريق تعاقبه في كل عصر بالمشافهة أو الكتابة  سواء عن طريق المخطوطات التي اكتشفت في العصر الراهن وتم التأكد منها بالفحص الكربوني أو غيرها فالأشكال على تواتر القرآن يذكرنا بما أشكل به عميد الادب العربي طه حسين على الشعرالجاهلي أنه منحول مستوردا هذه الشبهة من بعض المستشرقين فسالت عليه الردود العلمية تترى وكيف لا يكون ذلك فالشعر ديوان العرب ؟! كذلك القرآن كتاب المسلمين فالإشكال على النص القرآني شبهة مقابل البديهة ولهذا كان الدكتور الجمل ملتفتا إلى هذا الامر، أي قيمة التواتر في الثقافة الإسلامية وأدواته الاحترافية مما تدلل على إبداع العقل الإسلامي والتي استفادت منها الحضارة الغربية  فقال الجمل :

(التاريخ ليس القصد منه إعادة كتابة سيرة فاطمة بأدوات المؤرخين المحترفين )  

ومن جهة أخرى يقول :

( وآية ذلك أن التاريخ يوفر للمتخيل مادة أولى يتخذها منطلقاً لبناء صورة عن فاطمة مثلما أن المتخيل يعيد قراءة المعطيات التاريخية بطريقة تأويلية رمزية )

وهذا ما يقصد به من كلمة (جدل) في عنوان الكتاب (جدل التاريخ والمتخيل) أي أن الدكتور الجمل لا يمتلك أدوات المؤرخين المحترفين فاستعاضه بمفردة الجدل والتي تعني الديالكتيك و الصيرورة المستمرة  أي التاريخ يؤثر في المتخيل و المتخيل يعيد قرأءة التاريخ اي لا يوجد ثابت في التاريخ وهذا  ما احتار فيه الكاتب عبد الأعلى 

 فقال أي  الكاتب عبد الأعلى :

(من الغريب حقاً أن يقع الباحث في الإشكالات التي أشرنا إليها آنفاً رغم التفاته لهذا الأمر، واعترافه في مقدمة دراسته بوجود تداخل بين الخطابين: التاريخي والمتخيل، مما جعل عملية فصلهما وتمييزهما عن بعضهما البعض مسألة صعبة، بل اعتبر هذه المسألة من أهم الصعوبات التي واجهته في دراسته، حيث يقول: ”التعالق والتداخل بين خطابين اساسيين في مدونة البحث هما: خطاب التاريخ، وخطاب المتخيل، حتى إنه يصعب، أحياناً تخليص هذا من ذاك، وتعسر إقامة حدود فاصلة بينهما) .  

ففي هذا النص نجد الباحث يعترف بصعوبة التمييز والفصل بين خطاب التاريخ وخطاب المتخيل، وهذا ما جعله يطرح على نفسه سؤالاً في غاية الأهمية، وهو السؤال التالي :

”كيف تتسنى لي دراسة فاطمة في المتخيل الإسلامي، والحال أن التداخل بين ذينك الخطابين لا يمكن إنكاره أو غض الطرف عنه؟“ .  

والحق أن هذا السؤال مهم وأساسي، ولذا كان من المتوقع بالباحث أن يُجيب عليه بمحاولة التأسيس لآليات وضوابط محددة تمكنه من الخروج من هذه الإشكالية، أعني التمييز والفصل بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، لأنه أكتفى فقط بالإجابة عن هذا السؤال بالجواب التالي :

”والحق أن وعيي بهذه الصعوبة المعرفية «يقصد فصل التاريخي عن المتخيل» حملني على مواجهتها بضرورة مقاربة موضوع فاطمة مقاربة تاريخية موظفة في اتجاه فهم مختلف تمثلات الدارسين لشخصية فاطمة في المتخيل الإسلامي؛ إذ الحقيقة، عند الفحص، حقيقتان: حقيقة تاريخية مدارها علىالأقوال والأفعال المنسوبة إلى فاطمة، وحقيقة متخيلة تعكس ضمير الجماعات الإسلامية، وتعبر عن“ لا وعيها الجمعي” .  

والمُلاحظ في هذا الجواب أنه مجرد إعادة صياغة لما جاء في السؤال على هيئة جواب لا أكثر، لأن كل ما قام به الباحث هو تفسير الماء بعد الجهد بالماء كما يُقال في المثل المشهور، فالسؤال كان حول كيفية دراسة سيرة فاطمة  في المتخيل الإسلامي في ظل التداخل بين الخطابين التاريخي والمتخيل، وأتى بهذا الجواب الذي يُعلن فيه أن هذه الإشكالية حملته على مواجهتها بضرورة مقاربة سيرة فاطمة  مقاربة تاريخية من خلال فهم ما أسماه ب ”مختلف تمثلات الدارسين لشخصيتها في المتخيل الإسلامي“، وبعدها أكد مرة أخرى على ما جاء في السؤال من جود خطابين: تاريخي ومتخيل 

ثم علق الكاتب عبد الأعلى بقوله  :

(وكل هذه الإشكاليات العويصة التي وقع فيها الباحث تعود – باعتقادي – لعدم تأسيسه لآليات وضوابط صارمة قبل البدء في الخوض في أي بحث مرتبط بفصول الدراسة، بحيث تكون هذه الآليات والضوابط من جهة بمثابة مدخلية ينطلق منها في أبحاث دراسته، وتكون من جهة أخرى مرجعية علمية ومنطقية يُرجع إليها عند القيام بفصل البحث التاريخي عن بحث المتخيل، وعند اختيار الأخبار التاريخية الخاصة بسرة فاطمة ،وكذلك عند ترجيح بعض تفسيراتها المحتملة).  

و بعدها تبرع الكاتب عبد الأعلى في إيجاد معيارين وهما  :

(وعليه؛ يمكن أن نقول بأن الآليات والمعايير التي على أساسها قام الباحث بفرز الأخبار بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، وما اعتمده أيضاً في اختيار بعض الأخبار التاريخية، وكذلك ما اعتمده في ترجيح بعض الاحتمالات لتفسيرها هي ما يلي :

أولاً: ما ينسجم مع سنن الاجتماع الإنساني.

ثانياً: ما يتفق مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد.  

ثم يعلق قائلاً  :

ومن خلال هاذين المعيارين اللذين تبرع في إيجادهما الكاتب عبد الأعلى قام بمناقشة الدكتور الجمل .

1. مثال مناقشة الكاتب عبد الأعلى للدكتور الجمل بحسب المعيار سنن الاجتماع التاريخي 

بين الباحث في هذا النص أن زواج فاطمة الزهراء جاء متأخراً جداً، لأنه يتراوح بين سن الخامسة عشر والحادية والعشرون، معتمداً في وصوله لهذه النتيجة – أعني تأخر زواجها – على معيار «القيم الاجتماعية المألوفة في الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد»، ولذا نحن نتفهم ذلك، بل ونجد المبرر لهذا التقييم بناءً على هذا المعيار، غير أننا لا نجد مبرراً لإحالته سبب تأخر زواجها لما أسماه ب ”عزوف شباب أهل مكة خاصة“ عن خطبتها، لأنه لم يُبين لنا كيف رجح هذا الأمر بحسب «سنن الاجتماع التاريخي» أو «الأعراف القبلية السائدة آنذاك»، لأنه بحسب هذين الأمرين هناك عدة احتمالات أخرى غير ما ذكره، فلماذا رجح هذا الاحتمال على غيره؟! فلماذا لم يُرجح مثلاً بأن ذلك راجع لعدم رغبة الرسول  بتزويجها ممن تقدموا لخطبتها كما تنقل بعض الروايات التاريخية أو أن تكون هي من كانت ترفض الزواج ممن تقدملها؟! أو لأي سبب آخر غير ذلك، إذ من الغريب جداً أن يُرجح كون تأخر سن زواجها راجع لما أسماه بـ ”عزوف شباب أهل مكة خاصة“ عن خطبتها دون أن يذكر مبرراته لهذا الترجيح .  

2. رجح الباحث كون الظروف الصعبة التي عاشتها فاطمة  مع الإمام علي  قد ساهمت في توتر مستمر في حياتهما الزوجية بحسب تعبيره – لاحظوا هنا مفردة مستمر – كما ذكر بأن الإمام علي  كان يعاملها بشدة وقسوة كما تشير بعض الروايات دون أن يحيل إلى أي رواية أو مصدر يدل على ذلك، علماً بأنه حتى لو أحال لمصدر واستشهد ببعض الأخبار التي تؤكد ما ذكره، فإن هناك أخباراً أخرى تبين خلاف هذه النظرة التي رسمها للعلاقة الزوجية بينهما، إذ أن هناك بعض الروايات التي يمكن الاستفادة منها لإثبات عمق العلاقة الزوجية بينهما كالرواية التي تحكي عن قول الإمام علي  عن علاقته الزوجية بفاطمة  ما يلي: ”فوالله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزوجل، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والاحزان“.  

فهذه الرواية مثلاً ترسم لنا صورة مخالفة لما صوره الباحث، حيث نجد فيها ما يشير إلى جود الانسجام الكامل بما يحقق الاستقرار الأسري والتوازن النفسي بين الإمام علي  وفاطمة ، علماً بأن هذه الرواية موجودة في بحار الأنوار للمجلسي، وهو المصدر الذي أكثر الباحث من الإحالة إليه في دراسته.

والسؤال المعتاد والمتجدد هو: على أي أساس رجح الباحث الرؤية التي ذكرها على غيرها رغم وجود روايات أخرى تخالفها ولا تتعارض مع سنن الاجتماع التاريخي؟! 

أما سماحة السيد منير الخباز   فقد أصل لمنهجه من خلال الخطوات التالية :

1- هناك مجموعة من الباحثين يقولون يجب أن يقرأ التاريخ مجردا عن العقيدة، تقرأ التاريخ بما هو تاريخ لا تأتي بالعقائد وتدخلها بالتاريخ، يجب أن يقرأ التاريخ بتجرد وأن لا يفرض عليه مسبقات فكرية وإسقاطات عقدية، فإنك إذا فرضت عليه عقيدتك لم تكن القراءة للتاريخ قراءةموضوعية، لذلك لا يصح أن نرفض خبر لأنه يتنافى مع العصمة.
4- البحث الكبروي: أولا: نحن عندما نرفض خبر لأنه يتنافى مع العصمة هذا ليس قراءة للتاريخ من خارج التاريخ، وليس فرضا وإسقاطا للعقيدة على قراءة التاريخ، بل هو قراءة للتاريخ من داخل التاريخ، كيف ذلك؟
5- هناك تاريخ ثابت، وتاريخ مشكوك

إذن ثبتت العصمة من خلال التاريخ نفسه، العصمة أصبحت مدلول تاريخي ثابت، فعندما تأتيني رواية تتنافى مع العصمة أطرحها لأنها منافية للتاريخ الثابت.

6- كيف تحقق التاريخ؟ كيف توثقها؟ كيف تثبت وقوع هذه الأحداث أو عدم وقوعها؟

من هنا إذا لاحظنا التاريخ لا يمكن دعوى اليقين، يعني لا يمكن لك أن تقول أنا عندي يقين بأن هذا التاريخ حدث، اليقين الرياضي بوقوع التاريخ أمر نادر الحدوث، يعني قليل من الأحداث التي نتيقن من حدوثها، عندنا يقين بمقتل الحسين  ،بمظلومية الإمام علي  ، بفتح مكة وهكذا، القضايا اليقينية قضايا قليلة، معدودة، إذن غيرها من القضايا كيف نقوم بتوثيقه؟

أول من فتح هذا الباب ألا وهو الأسلوب التحقيقي للتاريخ ابن خلدون في مقدمته، سلك هذا الدليل، الآن في المصطلح العلمي الرياضي يسمى: دليل حساب الاحتمالات، وهو دليل رياضي تستطيع أن تقرأ به التاريخ أيضا، يعني أن تجمع القرائن والشواهد والأدلة، ونتيجة جمع الشواهد والأدلة والقرائن تصل إلى الاطمئنان بوقوع الحدث التاريخي أو بعدم وقوعه، أو أن وقوعه أقرب من عدمه، أو أن عدم وقوعه أقرب من وقوعه، استخدام دليل حساب الاحتمالات في مجال تحقيق التاريخ هو الأسلوب العلمي والمنطقي في مجال تحقيق التاريخ، هذا الأسلوب له عدة أدوات نتعرض إليها مع أمثلتها في تاريخ السيدة الزهراء .

ما هي أدوات هذا الأسلوب، ألا وهو الأسلوب التحقيقي في قراءة التاريخ وتوثيق أحداثه؟

الأداة الأولى: أن لا يكون الخبر التاريخي معارضا بخبر أقوى منه وإلا لا يثبت .

الأداة الثانية: أن تكون المسافة الزمنية المنقول عنها الخبر أقرب للحدث من مسافة أخرى.

الأداة الثالثة: الشهرة.

الأداة الرابعة: أن يكون الناقل للحدث من المؤرخين المعروفين بالتثبت والدقة.

الأداة الخامسة: أن يكون الخبر المنقول محفوفا بمعطيات وبعوامل نوعية توجب الوثوق به أو الوثوق بعدم وقوعه.

ثم يؤصل سماحة السيد لمناقشة كتاب الدكتور الجمل من خلال تغعيل تلك الأدوات :

 عندما نأتي لعلم التاريخ نرى المؤرخين يختلفون ما هو أوثق قرن، أي ما هو آخر قرن نثق بنقله، هل القرن الرابع نثق بنقله، أو القرن السادس آخر قرن نثق بنقله، أو القرن العاشر، ما هو آخر قرن من هذه القرون الأربعة عشر من يوم الإسلام إلى يومنا هذا، ما هو آخر قرن يوثق بنقله؟

نأتي إلى قراءة نص لبعض الكتاب حتى نرى هل هذا الكلام صحيح أم غير صحيح

عندما تأتي إليه في الكتاب، ما هو آخر قرن يوثق بنقله عن شخصية الزهراء   وعن سيرتها؟

يقول

إن ترجمة فاطمة في المصادر السنية إلى حدود منتصف القرن الثالث للهجرة مع ابن سعد في طبقاته، هي أقرب إلى ما يكون في التاريخ، يعني إلى هذه المدة نصف القرن الثالث، نأخذ بهذه الروايات إلى ما رواه ابن سعد في طبقاته، فكل الأحداث المتعلقة بهذه الشخصية ممكنة الحصول من منظور تاريخي وليس فيها ما يخرج عن سنن التاريخ، ولادة، وزوجا، ومرضا، ووفاة، ولكن يبدو من نحو منتصف القرن الرابع للهجرة مع الطبراني – صاحب المعجم – من هنا بدأ التضخيم لحياة الزهراء  ، الطبراني في معجمه بدأت تتسلل إلى الترجمة معطيات لا يمكن قبولها إلا من وجهة نظر إيمانية لا علاقة لها بالتاريخ، من قبيل مناقب فاطمة في يوم القيامة، من قبيل أن تزويجها بأمر من السماء، من قبيل أنها تمر يوم المحشر بين الناس فيقال غضو أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد  ، يقول: كل هذا متخيل، كله خيالات، هذه الأخبار جاءت من القرن الرابع فما بعد ونحن لا نقبل، المسافة الزمنية هي ما قبل القرن الرابع، لا ما بعد القرن الرابع. هل هذا الكلام دقيق أم لا؟ هذا الكلام ليس كلاما علميا ولا موضوعيا.

أولا: لا فرق بين نصف القرن الثالث ونصف القرن الرابع، بينهم 100 سنة، متى نعتبر القرن موثوق بنقله؟ إذا توفرت فيه ثلاث أشياء:

الأول: هناك رواة موثوق بهم.

الثاني: هناك شهرات.

الثالث: هناك كتابة.

كل قرن قرب من زمن النبي   وتوفر على العناصر الثلاثة: كتاب، وشهرات، ورواة موثوق بهم، إذن هذا القرن موثوق بنقله، ما الفرق بين هذه النواحي قبل 100 سنة، وبعد 100 سنة، بين نصف القرن الثالث ونصف القرن الرابع، الجميع متوفر على الكتاب، والشهرات، والرواة الموثوق بنقلهم، إذن بالنتيجة لا يوجد مائز علمي بين نصف القرن الثالث ونصف القرن الرابع سوى أن هذه 100 سنة لا أكثر، وإلا العوامل هي العوامل، والعناصر هي العناصر.

مثلا: تاريخ ولادة الزهراء (ع) إذا أتينا للمشهور عند مؤرخي إخواننا من أهل السنة أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، يذكر هذا ابن الجوزي في «تذكرة الخواص»، والحنفي في «درر السمطين»، والطبري في «ذخائر العقبى»، وغيرهم من أهل السنة يذكرون بأنها ولدت قبل البعثة بخمس سنواتوقريش كانت تبني البيت الحرام، هذا خبر ولكن نحن لا نستطيع أن نعتمد عليه لأنه معارض بخبر أقوى منه، لأنه معارض بروايات أهل البيت (ع) ، وأهل البيت (ع) أدرى بما فيه، عندما ترجع إلى روايات أهل البيت   المعتبرة تجد أن روايات أهل البيت (ع) وهم أعرف بميلاد أمهم الزهراء (ع) تصرح بالعكس، بأنها ولدت بعد البعثة بخمس سنوات يعني بفرق عشر سنوات، يعني بناء على الرأي الأول عندما ماتت الزهراء  (ع) ماتت وعمرها 28 سنة، بينما بناء على الرأي الثاني عندما ماتت، ماتت وعمرها 18 سنة، فرق شاسع، عشر سنوات فارق بين العمرين.

بعض الأحداث تثبت بالشهرة بمعنى أن يتعدد رواتها، يتعدد نقلتها، بحيث لا ينقل اللاحق عن السابق، لا بل كل مؤرخ له مصادره الخاصة به، إذا تعدد الرواة، تعدد النقلة، كانت الشهرة طريقا من طرق الوثوق بالخبر والحدث.

مثلا: خطبة الزهراء (ع)  أمر مشهور عند أهل السنة والشيعة، روى هذه الخطبة من مصادر متعددة كثير من المؤرخين والمحدثين، عندما تأتي إلى خطبة الزهراء (ع)  رواها أحمد ابن أبي طاهر في كتابه «بلاغات النساء» من القرن الثاني، رواها أبو بكر الجوهري في كتابه «السقيفة وفدك»، رواها المسعودي في «مروج الذهب»، رواها الخوارزمي عن الحافظ ابن مردويهفي كتابه «مقتل الحسين»، رواها ابن الأثير في «النهاية» وفي كتابه «منال الطالب» عن زينب العقيلة، رواها ابن أبي الحديد في «شرح النهج»، كل هؤلاء من مؤرخي إخواننا أهل السنة.

ورواها من الشيعة الشيخ الصدوق في «علل الشرائع»، الطبري في «دلائل الإمامة»، الإربلي في «كشف الغمة»، عندما ترى هذا العدد الضخم الذي يروي خطبة الزهراء (ع)تتحقق عندك الشهرة لهذه الخطبة المؤدية للوثوق والاطمئنان بوقوع هذا الحدث وهو خطبة الزهراء (ع) في مسجد رسول الله (ص)    

ثم يستمر سماحة السيد منير الخباز في مناقشة الجزئيات التي ناقشها الكاتب عبد الأعلى الدكتور الجمل  مع اختلاف ان سماحة السيد منير أصل لبحثه كبرويا كأصل موضوعي في مناقشته مثل تاصيله :

أ  – التاريخ الثابت والتاريخ المشكوك .

ب الفترة التاريخية التي يمكن الاستشهاد بها.

ج ولادة السيدة الزهراء عليه السلام بعد البعثة .

وبأصول اخرى هدم كثيرا من آراء الدكتور الجمل 

4. نتيجة النقد (اختلاف نتيجة بحث الدكتور الجمل ونقد الكاتب عبد الاعلى تبعا لهدفية

البحث الكلامي او فلسفة الدين

يقول الكاتب عبد الأعلى في نتيجة نقده لكتاب الدكتور الجمل :

 رغم كل ما عرفناه من كون الباحث يدعي بأنه قد اعتمد في التعامل مع الأخبار التاريخية الخاصة بسيرة فاطمة   على ما أسماه ب «سنن الاجتماع التاريخي» و«القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي في شبه الجزيرة العربية آنذاك»، إلا أن هذا الأمر لا يحل الإشكاليات التي أشرنا إليها سابقاً، وذلك لأمرين أساسيين:

الأول: إن اختيار وترجيح ما ينسجم مع هذين المعيارين في سيرة فاطمة  قد ينفع فيما لو لم تُوجد أخبار واحتمالات أخرى لم يتم اختيارها من قبل الباحث رغم انسجامها معهما، أما لو وجدت أخبار أخرى مخالفة ومتعارضة للأخبار المختارة – كما هو حاصل فعلاً في الأخبار المتعلقة بسيرة فاطمة  – فهنا يبقى السؤال المطروح نفسه: على أي أساس سيتم اختيار وترجيح بعض الأخبار والاحتمالات الخاصة بسيرة فاطمة ، والإعراض عن غيرها رغم أن كلاً من: الأخبار المختارة والأخبار المعرض عنها هما مما ينسجم مع هذين المعياريين؟!

الثاني: لا يمكن القول بأن جميع الشخصيات يصح التعامل معها وفقاً لهذين المعيارين، وبالخصوص الأنبياء ) ومن يقترب من دائرتهم، فهل يصح القول بأن النبي (ص) وابنته فاطمة (ع) هما ممن يتفقون في تعاملاتهما في أمورهما الحياتية – كالعادات الخاصة بأمور الزواج وإدارة شؤون الحياة – مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي آنذاك؟ أعتقد أن هذا الأمر مجانب للصواب، وبالخصوص بالنسبة للرسول (ص)، فمما لا شك فيه أن دعوته اشتملت على ما لا ينسجم مع الكثير من القيم الاجتماعية الموجودة في عصره، وإذا كان كذلك؛ فكيف يريد الباحث أن يحكم هذه الأعراف القبلية ويجعلها هي المُرجح التي على أساسه سيعتمد بعض الأخبار وتفسيراتها؟!

لذلك لا أتردد في القول بأن الآليات التي اعتمد عليها الباحث في بحثه التاريخي ك «سنن الاجتماع التاريخي» و«القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي آنذاك» لا يمكن التعويل عليها كثيراً على أقل التقادير، لأنه يصعب ضبطها ضبطاً علمياً دقيقاً  

بل توصل الكاتب عبد الأعلى إلى أن الدكتور الجمل مارس الانتقائية واضحة

أكاد لا أبالغ لو قلت بأن الباحث يمارس انتقائية لا تخضع لأية أسس أو ضوابط علمية أو منطقية في طريقة اختياره وترجيحه لبعض الأخبار والاحتمالات في بحثه التاريخي عن سيرة فاطمة  ، وهذا ما جعله ينتقي من الأخبار وتفسيراتها ما ينسجم مع خلفياته الفكرية ومألوفاتهالشخصية، ويتجاهل كل ما لا ينسجم مع ذلك دون الاعتماد على منهجية علمية واضحة ومحددة.

ولعل ما يكشف عن هذه الانتقائية لدى الباحث أكثر مما سبق؛ هو ممارسته الانتقائية ليس بين الأخبار التاريخية المختلفة فحسب، بل انتقائيته لجزء من بعض الأخبار وتجاهله للجزء الآخر دون الإشارة لذلك، كما فعل في محاولته لتصوير عدم رضا فاطمة   عن المهر المقدم لها من قبل الإمام علي   بقوله: ”ويبدو أن فاطمة لم تكن راضية النفس عما قدم إليها من صداق أو مهر؛ لذلك نراها تحتج على الرسول قائلة:“ زوجتني بالمهر الخسيس” وهذه الرواية لم يوردها الباحث كاملة، بل اجتزئ هذا الجزء منها فقط، دون أن يوردها بأكملها أو يشير إلى أنه أخذ جزءاً منها على الأقل

وهكذا نلاحظ أن الباحث يمارس الانتقائية وعلى أعلى مستوياتها، فتارة نجده ينتقي رواية ويعرض عن الروايات الأخرى، وتارة يرجح احتمالاً دون وجود مرجحاً له، وتارة ثالثة ينتقي جزء من خبر تاريخي ويعرض عن الجزء الآخر دون أن يشير لذلك، كما فعل مع رواية المهر، وبالتأكيد أنه يرى أن ما جاء في الجزء الذي لم يورده يتناسب مع بحث المتخيل الإسلامي، لأنه أورد بعض الروايات التي تحكي نفس مضمونه عندما كان بصدد البحث عن المتخيل.

والعجيب أنه مع ممارسته لكل هذه الأمور يوجه سهام نقده لمن أسماهم ب مدوني الأخبار الخاصة بسيرة فاطمة ، وذلك لأنهم مارسوا عملية اختيار وانتقاء ليس علمياً، إذ يقول: ”ونحن لا نتردد في القول: إن تدوين الأخبار الخاصة بفاطمة اقتضى، من مدونيها، إخضاعها إلى عملية اختيار، وانتقاء، في ضوء اعتبارات عديدة أهمها الانتماء المذهبي للمؤلف، وتكوينه المعرفي، وانتظارات قرائه“ .  

مهما يكن الأمر؛ لعل ما جعل الباحث يركز في حديثه على كون سيرتها باهتة وهامشية هو حرصه الشديد على أن لا تكون قراءته لسيرتها قراءة تبجيلية كالقراءة التقليدية لعلماء المسلمين ، ولكنه للأسف الشديد فر من هذه القراءة ووقع فيما هو أعظم منها، حيث أنه قرأ سيرتها بما أستطيع أن أسميه بالقراءة التحقيرية أو التسفيهية، ومن يطلع على دراسته يلحظ أنه حاول أن يثبت جميع الأخبار السلبية التي تبين ضعفها وهوانها، كما مر بنا في استعراضنا لبعض النماذج التطبيقية، وفي المقابل نجده يحاول سلب جميع الأمور الإيجابية التي تثبت قوتها وصمودها وعلو شأنها .  

الخاتمة

أولا : كشفت نتيجة النقد   قصدية الدكتور الجمل في الانتقائية المقيتة لسيرة السيدة الزهراء عليها السلام حاول  من خلالها الحط من مكانتها وموقعها الإسلامي وهذا يعني ما يعني ان الدكتور الجمل ليس فقط يمارس الانتقائية بل الحقد والعداءوالنصب لسيرة السيدة الزهراء عليها السلام سواء تحفظ الكاتب عبد الاعلى أم لم يتحفظ على سماحة السيد منير الخباز من استخدام كلمة التلاعب الطائفية وتكريسها للمذهبية لكونه اي سماحة السيد منير الخباز خطيبا منبريا وهذا دورالخطيب المنبري حسب تعليقه الكاتب 
عبد الأعلى .  

   

ثانيا : أظهرت هذه المقارنة بين منهجتي السيد و الكاتب أن منهجية الكاتب عبد الأعلى كانت مسايرة  منهجية الدكتور الجمل وملاحقة لجزئياته مشيرة إلى الخلل  المنهجي في بلورة أدواته لكنها وقفت حائرة أمام إشكالية المقدس وإغراء تجريب المناهج الحديثة دون تفكيكها مما تعانيه من مشكلات منهجية وبالتالي تشكيلها من جديد .     

ثالثا : لم تكن منهجية سماحة السيد منير الخبار محاكمة للنتائج بقدر ما هي محاكمة  وتفكيك للمنهج نفسه وذلك لوجود ثغرات في المنهج أهمها عدم وجود الثابت التاريخي كأساس ومنطلق  في البحث التاريخي وهنا أستعير كلمة للمفكر العربي علي حرب : 

اذا كانت مواكبة كل تطور يحصل في مجال العلم والفكر امراً مطلوبا و محمودا فإنه لا ينبغي للجدة أن تطغى على الأصالة ولا للتعدد أن يطمس الوحدة وبكلام آخر لا ينبغي للانفتاح على الجديد والمتعدد و الطارئ و المتحول ان يتم على حساب الصرامة الفكرية فلابد لكل عمل فكري أن ينطوي على قدر من الوحدة و الترابط ولابد لكل مبحث أن يراعي شرائط الوثوق والإحكام )

ثم عالج سماحة السيد منير إشكالية المقدس من خلال مفهوم الثابت التاريخي وأن ذلك المقدس قد ثبت سندا عبر التواتر كالقرآن والأحداث التاريخية الثابتة وكم تمنيت لو أن سماحة السيد منير الخباز أشار الى إشكالية المتخيل من خلال المتن عبر معالجة احد معاني المتخيل كالمعجزات تساوي الخرافات)عبر فيزياء الكم فقد أطلقت  فيزياء الكم (سراح المعجزات/  الخرافات ) مع صك البراءة بعدما سجنتها الفيزياء الكلاسيكية وهذا يعني ان المتخيل بأحد معانيه المعجزات أصبح ممكنا علميا بعد ما كان ممتنعا وخرافيا  كل هذا من خلال التسلسل المنهجي الذي بدأ به محاضرته  في التعريف بمناهج البحث التاريخي ثم الانتقال إلى الأصول الموضوعة ثم النزول إلى  مناقشة جزئية جزئية .


المصادر

١- مقال ” فاطمة (ع) بين التاريخ والمتخيل” سلمان عبدالأعلى
  ٢- نفس المصدر .
  ٣- نفس المصدر.
  ٤-“فلسفة الدين رؤية موجزة لمفهومها واتجاهاتها ومباحثها ” الدكتور عبدالجبار الرفاعي
 ٥-الكلام الإسلامي المعاصر ، الدكتور عبدالحسين خسروبناه ص 33
٦-  نفس المصدرص19.
٧-  مقال ” فاطمة (ع) بين التاريخ والمتخيل” سلمان عبدالأعلى
٨-  نفس المصدر.
٩-  نفس المصدر.
١٠-  نفس المصدر .
١١-  تعليق الكاتب سلمان عبدالأعلى على محاضرة سماحة السيد منير الخباز بعنوان سيرة الزهراء(ع) بين التحقيق التاريخي والتلاعب الطائفي.
١٢-  محاضرة سماحة السيد منير الخباز بعنوان سيرة الزهراء (ع) بين التحقيق التاريخي والتلاعب الطائفي.
١٣-  مقال فاطمة بين التاريخ والمتخيل سلمان عبدالأعلى .
١٤-  نفس المصدر .
١٥-  نفس المصدر.
١٦-  نفس المصدر.
١٧-  نفس المصدر .
١٨-  نفس المصدر.
١٩-  نفس المصدر .
٢٠-  نفس المصدر .
٢١-  نفس المصدر.
٢٢-  محاضرة سماحة السيد منير الخباز بعنوان سيرة الزهراء (ع) بين التحقيق التاريخي والتلاعب الطائفي .
٢٣-  مقال فاطمة (ع) بين التاريخ والمتخيل سلمان عبدالأعلى .
٢٤-  نفس المصدر.
٢٥-  نفس المصدر.
٢٦-  نفس المصدر.
٢٧-  كتاب نقد النص علي حرب ص 85.


error: المحتوي محمي