منذ قديم الزمن والبحث عن السعادة والمشاعر الإيجابية هي من الأمور الفطرية التي شغلت هاجس كل البشر، وتتجلى السعادة في عدة مفاهيم يختلف منظورها من فرد لآخر فهي سر من أسرار ترياق الحياة الذي لا يزال الفلاسفة والعلماء في دأب مستمر للكشف عن الأرقام السرية لمفاتيحها وخباياها، وما إذا كان لأقفال السعادة أكثر من مفتاح أم هو نسخة واحدة فقط لكل البشر؟!
السعادة والراحة والفرح ما هي إلا نتاج تشكل عدة عوامل مع بعضها البعض وكل عامل له وزن لنجاح هذه الوصفة السحرية التي تختلف عدد جراماتها مجازًا من شخص لآخر.
وتنقسم هذه العوامل لقسمين: عوامل ذاتية كـ العوامل (البيولوجية، الشخصية، الإدراكية والأخلاقية) وعوامل خارجية تتعلق بالبيئة المحيطة كـ العوامل (الاجتماعية، العلمية، الجغرافية، والاقتصادية). فالوصول للسعادة تقوده جميع تلك العوامل وبذلك فإن للعوامل خارجية المنشأ دورًا مهمًا في تحفيز المشاعر الإيجابية ولكن يمكننا القول بأن العوامل الذاتية هي الحجر الأساس للسعادة.
وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن هناك عدة عوامل بيولوجية تتحكم في مؤشر السعادة لدينا وهي: الدماغ، الناقلات العصبية، الغدد الصماء وهرموناتها، الصحة البدنية، الجاذبية الجسدية، والعوامل الوراثية. حيثُ إن الجينات تلعب دورًا مهمًا في السيطرة على مشاعر السعادة من خلال التحكم بالعاطفة والمزاج بما يقارب 35 – 50%. ونتيجة لذلك فإن دراسات علم الأعصاب أشارت إلى أن العوامل البيولوجية الذاتية المنشأ لها دور أساسي لا يمكن إنكاره في تحفيز السعادة وأن مفاتيح السعادة ليست فقط في العوامل الخارجية كما يظن البعض.
حيثُ وُجد أن وظيفة هذه الجينات الوراثية المعروفة بـ(MAO-A , 5-HTTLPR) هي ترميز هرمون السعادة وتنظيم توزيعه في خلايا الدماغ الذي بدوره يساعد على تنظيم الحالة المزاجية والنفسية للفرد وبحسب اختلاف جزيئات هذه الجينات لدى كل فرد يختلف قوة العامل الوراثي لديه. وبذلك فإن الحالة المزاجية الجيدة أو السيئة للفرد تتأثر بشكل كبير بالمواد الكيميائية الهرمونية التي يفرزها الدماغ عن طريق الناقلات العصبية، ويعزى تفسير دور السعادة الموروثة بشكل علمي إلى أن كل هرمون وناقل عصبي مشفر عن طريق جين خاص يتعلق بالموروثات.
واستنادًا لما ذُكر فإن السعادة الذاتية ترتبط بمجموعة من الناقلات العصبية والهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء عن طريق الدماغ التي بدورها تخلق المشاعر الإيجابية وتحفز الشعور بالراحة وهي كالآتي:
1- السيرتونين (هرمون الثقة بالنفس)؛ يُفرز من الغدة النخامية ليخفف الألم والالتهاب، ومضاد للاكتئاب، ويعزز الشعور بالرضا والتفاؤل والثقة بالنفس.
2- الإندروفين (هرمون مضاد الألم): يُفرز من الغدة النخامية عند الشعور بالألم أو الإرهاق أو المجهود العالي.
3- الدوبامين (هرمون النجاح والمكافأة): يُفرز من الغدة النخامية ليساعد على إمداد الشخص بالحماس لأداء المهام وإنجازها بنجاح، ليحسن المزاج والذاكرة والشعور بالانتعاش بعد المجهود البدني.
4- النورايبينفرين: هو ناقل عصبي مسؤول عن الملامح العاطفية لتعبيرات الوجه عند الشعور بأحاسيس مختلفة.
5- الإكستوسين (هرمون الحب): يُفرز من الغدة النخامية لتحفيز الرضاعة الطبيعية ويتحكم في تقلصات الرحم ويساعد في تحفيز المشاعر الإيجابية الاجتماعية.
6- الميلاتونيين (هرمون منظم الوقت): يُفرز من الغدة الصنوبرية ليساعد على تنظيم كفاءة النوم حيثُ يفرز أثناء الليل والظلام ليجعل الأجسام في حالة استعداد للنوم وينخفض مستواه أثناء النهار أو الإضاءة الساطعة.
بينما في المقابل هنالك هرمونات التعب والإجهاد والتي تعتبر هرمونات خصيمة للسعادة والراحة فدورها الأساسي يكمن في تنظيم العمليات الآيضية، وضربات القلب، والتنفس، والأوعية الدموية وضغط الدم ولكن عند اضطرابها أو إفرازها بمستويات عالية في الجسم تؤدي للقلق والتوتر والاكتئاب ومنها:
1- الكورتيزول (هرمون إدارة الإجهاد): يُفرز من الغدة الكظرية لتنظيم العمليات الآيضية وكاستجابة للالتهابات والقلق وإن الإفراط في تناول السكريات يؤدي لزيادة إفرازه.
2- الأدرينالين (هرمون الكر والفر): يُفرز من الغدة الكظرية للاستعداد للمواجهة في حالة الشعور بالخوف أو القلق أو التوتر فيزيد بدوره من معدل ضربات القلب والتنفس وتوسيع الأوعية الدموية حتى يكون الجسم في حالة تأهب للدفاع أو الهروب.
3- النورادرينالين (هرمون المكافحة والهروب): يُفرز من الغدة الكظرية ويعمل بشكل مشابه لهرمون الأدرينالين.
وقد أثبتت الدراسات أن الأفراد الذين لديهم هدف في الحياة واستقرار نفسي وعاطفي تكون مستويات هرمونات الإجهاد لديهم جيدة وبالتالي تحافظ على الشعور بالراحة والسعادة.
فالسعادة تعددت مفاتيحها ما بين الداخلية والخارجية وتلعب الموروثات والجينات فيها دورًا مهمًا لتخلق فينا مشاعر السعادة أو التعاسة وإن صحة هرموناتك هي المفتاح السحري لسعادتك.
وكما قال الأديب فاروق جويدة “إنني أؤمن عن يقين أن سعادتنا تبدأ داخلنا وأن السعادة في العطاء ربما تفوق السعادة فيما يعطيه لنا الآخرون”.