ولكي لا يفهمني القارئ الكريم خطأ، فإنه من الجائز والمستحسن مناقشة أو حتى – محاسبة – الخطيب والكاتب والشَّيخ، ولا يؤخذ كل ما يقال على أنه من المسلَّمات، إن لم يكن. ثم النقد النَّافع هو مادة التطوير والبناء الفكري فلا غنى عنه، والالتفات إلى أنه ما كان لا يناقش في السَّابق، الآن يناقش من الدَّاخل، والأعين والآذان المتربصة تسمع وترى من الخارج. والأشكال فقط في ترشيد الإدمان في السّجال عديم الجدوى والفائدة.
في السَّنوات الأخيرة انتابَ اللَّغطُ – غير المفيد – المنبرَ الشيعيّ أينما يكون، فما أن يقول خطيب أو شيخ رأيًا هنا إلا ويأتي الصدى من هناك أقوى وأشدّ، من خطيبٍ آخر أو شيخ أو كاتب يفنده ويضادّه ويعاكسه. مع احترامي لكل رأي ولكل ردّ، كان بودي أننا جميعًا – وبدلًا من رجع الصّدى – أن نتعاونَ على محاربةِ الجهل الدينيّ المتراكم والمشاكل الاجتماعيَّة المتفاقمة والعناية بالجيلِ القادم بعدنا وحلّ مشاكله، فليس في كلِّ يومٍ تحصل هذه الفرصة بأن تزحفَ أعدادٌ من البشر بالآلاف، من مختلفِ الأعمارِ والمهن والثَّقافات، وتجلس تحت المنابر، تسمع وتنصت، مع احتمالٍ ولو بسيط للأذى، ولو جرى استصراحٌ لهذه الجموع الغفيرة لقالت: كفَا، كفوا عن هذا الجدلِ العقيم فلقد أبرَمتمونا بالعراك على كلمةٍ وفاصِلة ونقطة!
ليس كل كلام يحتاج ردًّا، إن أعجبك وإلا فدعه ولا تأخذ به، ما دامَ لا ينقض ثابتًا من الثوابتِ العقديَّة أو المعرفيَّة المهمَّة. هذه الحرارة والحَماوة الموسميَّة هي أقرب للحرارةِ الاحتكاكيَّة في الآلاتِ والمصانع التي تُنقص من كفاءةِ التفاعل وتذهب هدرًا من الطَّاقة الكليَّة! ألا ترون أنه من الأجدى لو تجادلنا حول كيف نوفر حياةً أرغد، وتعليمًا أعلى، وصحَّة أفضل، وعملًا لمن يحتاج؟ بدلًا من هدرِ الوقت – الثَّمين – في القيلِ والقال، الذي لا ينفع في شيء، لا يجلب قوتًا في الدنيا ولا يسألنا الربّ عنه في الآخرة، ولا ينشط فكرًا في معرفة؟!
“ما كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حانَ وقته، ولا كل ما حان وقته حضرَ أهله”، مقولة يجب أن ترشد الآراءَ والردود لصالح العوامّ – مثلي – والذين يرغبون أن يكونوا على سبيلِ نجاة، ولا يَأخذ من وقتهم القصير في الحياةِ نقاشٌ عقيمٌ يتكرر في كل موسم، بعضه محله المجالس الخاصَّة والكتاب، وأكثره يترك حتى لا يكتسب قوَّةَ وزخمَ الحجارةِ السَّاقطة من علوّ بفعل الجاذبيَّة الجماهيريَّة، وتهشم من تحتها!
خلاصة الفكرة: من المهمِّ جدًّا أن تنشطَ حياتنا الفكريَّة ونتوسع في الحوارِ والنّقاش والمعرفة، لكن فيما يستحق، ويترك النِّقاش لأهل الاختصاص، وليس كل من هبَّ ودبَّ يدلي بدلوه ويفتي برأيه، وهناك ألف قضيَّة وقضيَّة أهمّ من أيّ جدلٍ عقيم!