هذه الشخصية العظيمة والتي لمس الجميع ما تحمله من معاني السمو والرفعة والمعرفة والاستقامة والعطاء بأعلى درجات الكمال فيها، إذ جسد الإمام الكاظم (ع) القيم القرآنية والإسلامية وعمل على بثها وترسيخها بين الناس، فكان قطب الرحى الذي يدور حوله مبدأ التأسي والاقتداء من كل من يطلب معالم القوة والفضيلة في شخصيته بالتحلي بالصفات الحميدة والركيزة المعرفية الناضجة والحصانة الأخلاقية تجاه ريح الأهواء والشهوات، فما كان لأحد من استطاعة لتجاهل مكانته وشأنه العالي حتى ممن يكن له الحقد والكراهية والعداء، إذ أن هذه القامة الشامخة ما وسع كل من سمع منه أو تعامل معه إلا مقابلته بالإعظام والتقدير البالغ، فقد كان حلقة من حلقات الإمامة واحتضان المعارف الإلهية والمناهل القرآنية وخزانة العلم الذي لا يجارى، وهذا ما ظهر من دروسه على منبر جده المصطفى (ص) وحلقات الدرس التي يعقدها ويتحلق الطلاب وعشاق العلم من حوله، وفي أجوبته على المسائل والحكم النورانية التي ينطق بها تشكل قبسًا من أنوار الهداية ونجاة الأمة من تيارات الضلال والانحراف، فكثرة الاتجاهات الفكرية والعقائدية المنحرفة انماثت وتلاشت أمام قوة الحجة والبرهان للإمام الكاظم (ع)، وشكلت مدرسته ومسلكه الأخلاقي موئلًا معرفيًا يغذي العقول ويهذب النفوس، فقد كان امتدادًا لمدرسة مكارم الأخلاق والفضائل النبوية المربية للنفوس والمهذبة لها من الغرائز المتفلتة والأهواء العاصفة نحو الخطايا.
ما كان يمتلكه الإمام الكاظم من مقومات وملكات علمية وروحية وأخلاقية واجتماعية في أعلى درجات الكمال؛ لذا يعده العلماء والمنصفون أعلم أهل زمانه وأفضلهم خلقًا ومنطقًا، كان (ع) وعاء الإمامة والهداية الذي دان له المؤمنون، فعلى مستوى علاقته بربه يكفي في بيانها المختصر تلقيبه بالعبد الصالح وراهب آل محمد (ص)، فقد كان محراب المناجاة والذكر يشرق بأنوار التقى والخشية من الله تعالى والتقرب منه ؛ ليشكل منارًا للمؤمنين يرسم معالم حياتهم وأوقاتهم ومنهاج تكوين شخصياتهم القويمة، ويعيش المؤمن الطمأنينة والسكينة والثقة بتدبير ربه لأموره، ففي أحلك الظروف وأصعبها وشدة التضييق عليه والذي كان يرجى منه كسر همة الإمام وإرادته وإنهاء حياته نفسيًا ومعنويًا، لم يكن ذلك بالذي يثنيه عن عبادته وتوجهه لربه مما أذهل أعداءه وخيّب ظنونهم وآمالهم البائسة، بل رسم نهجًا عباديًا للمؤمنين يملأ دنياهم راحة وطمأنينة من خلال الارتباط بالله عز وجل والانقطاع إليه، فتلك الاستقامة والثبات على الحق والحصانة تجاه الخطايا من مكتسبات السير على نهج هذا الإمام وتوجيهاته المباركة.
ومن تجليات مهام الإمامة ما قام به الإمام الكاظم (ع) من مواجهة معرفية وعقائدية أمام تلك التيارات المنحرفة والفرق الضالة كالزنادقة وفرقة الواقفية وغيرهم، فقد كانت له المكانة الكبيرة في مواجهة ومناقشة ومعالجة تلك الانحرافات بالحكمة والاستدلال المنطقي السديد، فعقد (ع) تلك المجالس العقائدية والفكرية التي تتناول أبرز المواضيع والشبهات المطروحة، فكان يؤم مجلسه العلمي المبارك عشاق المعرفة والعلم ويكتبون ما يدار فيها من أسئلة وأجوبتها.