الفنان منير الحجي استحضر لهيب المعركة في بعدها الملحمي  

استل ريشته بعزم وإقدام، مدفوعا بكل طاقة وإيمان، مرتحلاً إلى سوح التكوين، عابراً الزمان والمكان، حط رحله عند منتصف القرن الهجري الأول، قاصداً حرارة البيداء، يجوس الكرب والبلاء، متفرساً انفعالات بشر ومآلاتهم، وتشريحات مكر مفر، مأخوذاً بحراك الأجساد، مدوناً صرخات الحق والباطل وزفرات الموت، راصداً تعابير الوجوه، وجوه الصادقين والظلمة، صارخاً بالخط واللون “الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها”!!

منير الحجي المعتكف.. منذ نحو ثلاث سنوات نسج تفاصيل فظاعة حرب، وأي حرب، حرب تعاد ذكراها منذ 14 قرنا، لم تزل حية في العقول والضمائر نابضة في القلوب والوجدان، ريشته المحاربة بإتقان وصبر أنجزت لوحة بانورامية تقدر مساحتها بـ6 × 2 تحكي ملحمة كربلاء الخالدة.

عرف عن الفنان الحجي شغفه الواسع بتوثيق التراث المحلي بجميع أشكاله المادية والحية، فعلى مدى أربعة عقود لم يكف عن استرجاع أمكنة اصبحت أثراً بعد عين، أعادها بإحساسه المرهف، عبر مشاهد تراثية ومعمارية وبحرية، سطرتها ريشته بحس واقعي تأثيري ناطقة بالحياة، راحت أعماله تطوف عدة معارض شخصية وثنائية وجماعية ومشاركات رسمية، وتناسلت لوحاته بيعاً وهدايا على هيئة نسخ متعددة الأحجام والمقاسات، بوسترات، كتيبات، لوحات مطبوعة كما الأصل، توزعت داخل البلاد وخارج الديار، زينت عدة مجالس وصالات، اعتزازاً باشتغالاتها التراثية.

منير الحارس الأمين ينتمي إلى قائمة الموثقين لذاكرة القطيف الثرية، متعلق حد النخاع بأرض شهدت مولده وأبصر النور فيها قبل 60 عاماً، تربت ذائقته على مواطن الجمال لبيئة تجمع الماءين العذب والأجاج، زاخرة بالخيرات ومن كل الثمرات وما تشتهي الأنفس، فنان من نسل هذه الأرض المعطاء مؤمن بأن الفن من وحي بيئة الناس وإلى الناس، كانعكاس المرايا.

الحجي وفي لبيئته، فقد عبر عن إرث مجتمعه الزاخر بالعادات والتقاليد، والطقوس والمعتقدات، فأخضع ريشته للفرح ولأنين الدمع ومرثيات الحزن، فصاغ لوحات دينية تعبر عن واقعة الطف تراوحت بين الرمزية والتقليدية، عرض بعض منها داخل أروقة المعارض الحسينية الموزعة بين البلدات والقرى، وأخرى عرضت في ساحات العزاء بمساحة 5 أمتار، مع إجحاف بطمس توقيعه على عمله من قبل القيمين على تلك المواكب وكل من رآها يتساءل: من رسم هذه اللوحة التي تشدنا من بعد؟!

ما الضير أن يرتفع اسم الفنان أسوة بالخطيب، كل حسب عطاياه هذا بالصوت وذاك باللون وأناس بالشعر والتمثيل وآخرون بمداد القلم، القريحة مجالها واسع لترجمة الحب الولائي، فلا تفضيل عطاء على آخر بإجحاف اسم المتميز، مثلاً، نحفظ قصائد دعبل الخزاعي التي مرت عليها مئات السنين ونرددها في مناسبات عديدة ونترحم على من صاغها شعراً ونقول رحم الله دعبل، والنفوس المؤمنة تقصد عديد المآتم وتذكر اسم مؤسسيها، وتفخر بهم لأنهم رهنوا حياتهم خدمة للإمام الحسين.

يجب أن نقول للمحسن أحسنت، والمتألق بين الجموع إسباغ ثناء وتقدير على جميل ما صنع باستذكار شخصه الكريم.

موقف ذكره الحجي همساً لكاتب السطور وبشيء من الاستغراب وفي نفس الوقت اللامبالاة من هذا التصرف غير العادل في حقه، لأنه في قرارة نفسه يلتمس من وراء لوحته المثوبة والأجر.

توق كبير يأخذ منير نحو تجسيد واقعة الطف برؤية مختلفة، تتراءى له صور عديدة ومتجلية في نفسه منذ عهد الطفولة جراء مشاهد ندب وأنين النسوة من خلال “العزية” التي تحيبها والدته في رحاب منزلهم الكائن بالقلعة حي الزريب.

ويقول: “إحساسي الدائم بالتقصير تجاه الإمام الحسين، جعلني في بحث دائم، ووعد قطعته على نفسي ترحماً على والدي يرحمهما الله، والدتي كانت صاحبة مجلس حسيني أسبوعي، أذكر كل يوم أحد، منذ وعيت على الدنيا وصوت الحسين يدوي بين جدران بيتنا القديم في قلعة القطيف على مدار العام، حتى إذا جاء شهر محرم تتشح الجدران بالسواد، فأينما تولي بأحاسيسك تجد الحسين من حولك، من وصايا أمي أنها تأمرنا حماساً بتشكيل زفة القاسم، ففي اليوم الثامن تتحول الجدران السوداء إلى ألوان زاهية بالمشامر الملونة، فيكون لبيتنا رونق عجيب وجاراتنا من النسوة يساعدنها في إعداد الصواني المنتصبة بالشموع المثبتة بالتمر، زغاريد الأحزان تتداخل مع إيقاع المصيبة توتراً عند الاقتراب من المقتل، أصوات النحيب تهز قلبي هزاً، ماء الورد يبلل رؤوس النسوة المفجوعة، يتزلزل المكان بالبكاء والأنين، المشهد برمته يسافر بي إلى كربلاء وكأني أشاهد الواقعة بالصوت والصورة حية أمامي، وتمضي السنين وفي رقبتي دين لعمل لوحة تجسد كل ما تخيلته عن مأساة كربلاء”.

رسم الفنان منير عدة لوحات سابقة، وبنظرة تقييمية لأعماله المعبرة عن الوجع الكربلائي لم تكن مقنعة اشتغالاً نظراً لما يتمتع به من قدرات فنية، وأظن ثمة نقد وصل إليه وقناعة ذاتية بتحدي النفس وإظهار ما يجيش بها من خيالات جمة، طموح قاده نحو تقديم الأفضل بعمل حاشد وحيوي ومتقن، التصور المرئي والمسموع يختاله طوال الوقت.

راح يبحث وينقب في صمت وتؤدة، مستجمعاً عديد الصور الفوتوغرافية لتمثيليات حسينية عرضت في المنطقة وثقها عبر كاميرته، فأخذ يقلب صور التقاطاته المتنوعة التي تجاوزت أكثر من 500 صورة، بالإضافة إلى 1000 لوحة مطبوعة لفنانين عالميين ضمن صور متفرقة من 60 كتاباً فنياً تزخر بها مكتبته التشكيلية، ركام صور وصور صفها صفاً على طول مرسمه واختار المناسب، ومتأملاً أيضاً أفلاماً سينمائية تجسد لهيب المعارك القديمة، ومسترجعاً لوحات تصور واقعة الطف بأبعادها المختلفة من بلاد فارس والعراق.

استجمع كل تلك الذخيرة الهائلة لتركيب عنصر هنا وهناك، من طرز اللباس ونوعية العتاد وذخيرة السلاح وهيئة ملامح الرجال وتركيبات الخيول والخيام، ومزجها مزجاً عبر تكوين متوازن من جميع الأبعاد.

وبينما الفنان يضع اللمسات الأخيرة لعمله البانورامي قبل يومين وهو يطلعني على بعثرة الصور والمصادر التي اعتمد وارتكز عليها، قلت له: فعلك هذا يذكرني بالفنان الإيطالي المبدع “والتر مولينو” رسام الحرب العالمية الثانية الذي قيل في حقه “إننا نستطيع أن نؤرخ لهذه الحرب يوماً بيوم من خلال إبداعات والتر مولينو”.

ويقول عنه الفنان جمال قطب الذي حضر استديو الفنان في مدينة ميلانو: “كان مرسمه عالماً مثيراً يموج بالحركة والحيوية، عشرات من مساعديه وتلامذته منهمكون فيما كلفهم به من دراسات وتخطيطات، يتحرك ”مولينو” بينهم في نشاط ابن العشرين، يلقي إليهم بتعاليمه، وارشاداته وملاحظاته، يحيط به وبهم في أبهاء القاعة الفسيحة، عشرات من النماذج والمعدات والأسلحة والأزياء العسكرية، وفي الأركان رأيت أكداساً من الصور الفوتوغرافية والرسوم السريعة، كل ذلك يمثل فوضى فنية محببة إلى نفس الفنان وكأنها إلهام للقرائح الملتهبة المبدعة”، إن كان الفنان الإيطالي لديه مساعدوه وطلاب يعاونوه في تجهيز أعماله، منير لوحده في ميدان عمله البانورامي.

والذي أخبرني كيف تحضر لهذا العمل الضخم: “أنجزت لوحة كبيرة قبل ما يقارب العشرين عاماً بطول خمسة أمتار، وحين انتهيت منها شرعت في لوحة أصغر لكنها أكثر دقة، حقيقة لم يكن هذا طموحي، لدي ما هو أبعد”.

ويستكمل ما كان يختلج في ذائقته من رغبة متجددة وعزيمة دافعة: “من الأسباب التي جعلتني أشرع في تنفيذ لوحة كبيرة لموقعة الطف هو حضوري كل عام التمثيليات السنوية لشباب عزاء القديح، فقد ألهمتني بالكثير من الصور الحية وتأثرت بروعة التمثيل العملي وحركات الخيول، وحزن أصحاب الحسين، وقسوة جند عمر بن سعد، كما ألهمتني أشكال الملابس وألوانها لكلا الطرفين، وأنواع وأشكال الأسلحة والسيوف والرماح، وفي كل مرة أصطحب كاميرتي ذات زوووم قوي، فقد اشتريتها خصيصاً لهذه التمثيليات، فتجمعت عندي صور كثيرة، إلى أن قررت رسم لوحة مغايرة عن كل ما رسمت في هذا الموضوع تحديداً، مشاعري وعاطفتي قاداني لفرصة جليلة للظفر باصطحاب ألواني وفرشاتي لأكون بجوار الحسين وأصحابه، وما أجملها من صحبة، إحساس كبير انتابني وهو من أسعد الأوقات وأنا في ضيافة الإمام.

وبالفعل بدأت بتحضير القماش الخاص بطول ستة أمتار وأسسته بالأبيض وثبت القماشة على الحائط منذ شهر “محرم ١٤٤٠”، وجلست أخطط وأجمع الصور من كل المصادر؛ كتب فنية، تمثيليات القديح، مسلسلات تاريخية، صناعة الموديلات، وغيرها”.

لقد أعاد الفنان منير كل ما رأى عبر سلسة صياغات وتكوينات عديدة، من تصورات متتابعة وتخطيطات مترادفة إلى أن استقر عند التكوين النهائي، فانطلق بكل حماس وعزم في عملية اختيار الألوان المناسبة لكل جزئية من اللوحة، بالتة ألوانه في يد ولسانه يشرح مكابداته في إنجاز العمل: “بعد أن انتهيت من تخطيط الشكل العام بتوزيع الجنود من كلا الجيشين، شرعت بالألوان مباشرة و سرعان ما تغير رأيي بين نظرة ونظرة ضمن المساحة الكبيرة، فكنت أحذف وضيف عنصراً، وأبدل لوناً بلون، وأغير وأستكمل، واستهلكت كمية كبيرة جداً من ألوان الأكريلك، كانت عندي فرشاة “رقم ٢ ملم”، صغيرة الحجم، هي التي رسمت بها معظم الخيول والرجال، واجهت بعض المتاعب أثناء تنفيذ الرسم في الأماكن المقاربة للأرض، فاضطررت للجلوس شبه منحنٍ لفترات طويلة، لأنني أتحرك حسب وضعية اللوحة وليس اللوحة تتحرك لي كونها مثبتة في الجدار وكبيرة الحجم”.

هذا العمل الفني الفذ الذي حوى 140 رجلاً بارزاً دون مجاميع الشخوص البعيدة، وشمل 90 خيلاً وحصاناً و10 جمال، كائنات عديدة استطاع الفنان توظيفها باقتدار وتوليفها ضمن رؤية شاملة ومترابطة وكأن المشهد واحد، لا طغيان لعنصر على آخر، ولا تباين بين الأشكال، بعض الهنات البسيطة التي لا تكاد تذكر ضائعة وسط زحمة وتكثيف العناصر، إجمالاً التكوين كله منسجم والألوان متفاعلة ومتماهية مع بعضها البعض، فالنظرة الكلية موحدة ومترابطة بإتقان، اشتغال آسر يجبر العين على تتبع كل جزء من تفاصيل اللوحة المقسمة على النحو التالي: يتوزع العمل ضمن ثلاث مساحات، نصف دائرة ومثلثان تضمها أرضية شاسعة تمثل لون الصحراء اللاهبة وهي تغطي ثلاثة أرباع اللوحة وربع للسماء المكفهرة.

المثلث الأول يميناً يشير إلى مخيم الإمام الحسين وأنصاره وهو قليل العدد، والمثلث الآخر يساراً جيش عمر بن سعد وأعوانه بمجاميع ضخمة، وبين الجهتين المتقابلتين تدور رحى المعركة في قمة ذروتها في أوج دراميتها، داخل نطاق قوس مؤطرة بنصف دائرة، وهي الكتلة الجاذبة للنظر مباشرة وتمثل ثقل العمل ومركز حيويته، فيها يتكدس حراب الفرسان، وسط صدر اللوحة بمساحة كبيرة، يفصلها فراغان يميناً وشمالاً ملقى فيها مصابون وجثث قتلى من كلا المعسكرين، وثمة خيول بيضاء جهة اليمين تنظر بأسى وحرقة، مفجوعة لما يجري من أهوال ومصائب، وأخرى مطأطئة رقبتها والرأس تتأمل للمددين أرضاً من أنصار الإمام.

حيوان غير عاقل أرحم من جنون طغيان بعض البشر، الفراغان بين الثلاثة أشكال الرئيسية أعطيا فسحة للتأمل وراحة للنظر، لأن حشد العناصر دون فراغ مدروس يشتت الرؤية، ومن خلالهما، أي الفراغين، أشعرنا الفنان بوهج حرارة الأرض اللاهبة في عز النهار، بتنويعات لونية داكنة في المقدمة وسطوع في الأجزاء الأبعد فالأبعد إدراكاً للمنظور الهوائي، مساحة تتناثر عليها أعشاب ودماء وظلال.

اللوحة مستطيلة الشكل تفيض بمجاميع بشرية تفيض بالحركة والديناميكية، استطاع الفنان أن يوظف كل العناصر في تفاعل مستمر شكلاً ولوناً، بين قريب وبعيد وبارز ومائل ومتقدم ومضيء ومعتم، وتكمن قمة العمل في سير “أكشن” المعركة، كتل متراصة وخيول ملتحمة وشخوص متداخلة بنسب مدروسة، تشتبك وتتشابك بين معسكري الحق والباطل، نسمع صليل السيوف وصهيل الخيول، ونرى طعنات الرماح وانطلاق النبال وشماتة الأعداء، السهام ركائز في الأجساد، صرخات الوطيس تدوي وتدوي في جو بانورامي رهيب يفطر القلب، حيث حراك الأيدي فواجع والنزال بين حد السيف وتساقط الشهداء رفعة وعلو، أرواح تصعد للسماء تلاقي ربها ظافرة بنعيم الجنان.

اللوحة أشبه بشريط سينمائي تفاعلي بين الرؤية المباشرة والفاحصة والمتأملة، واستقراء يتوالى في حالة ديمومة لا تعرف السكون.

جموح معركة خالدة بانتصار الدم على السيف، وبانعكاس جموح لوحة بانورامية تستقر في الذاكرة إعجاباً وثناءً وتقديراً على أنامل كابدت طوال ثلاثة أعوام وتم إنجازها في بداية مطلع هذا العام 1443، صدق عمل وصبر واسع وإيمان راسخ بقضية ملهمة وعلى جميع الصعد الإنسانية، قيم استلهمها الفنان من سيد الشهداء.

ويفصح لنا عن خلجات نفسه أثناء انكبابه رسماً وتعبيراً: “كلما رسمت، كلما عرفت نفسي بأنها لا شيء أمام لوحة يتجسد فيها هذا الحدث الرهيب، عرفت الحسين أكثر واقتربت منه أكثر، كنت أتذوق طعم الحرية متجلية أمامي، كلما أعطيت الحسين كأنما أعطاك معرفة بنفسك، بذاتك، تعلمت من الحسين قيم التضحية نحو كل ما هو نبيل وسامٍ في الحياة”.

هكذا أنجز الفنان منير الحجي لوحة كربلائية متفردة تكويناً ولوناً وتعبيراً عن كل فنوننا المحلية التي استلهمت واقعة الطف، فألف تحية لأنامل وثقت الملحمة في أجل معانيها.

همسة فنية:
يقول الفنان التايواني المبدع “يم ماو كون” صاحب اللوحات السردية والمتأثر بالواقعية الاشتراكية: “يجب على الرسامين العظماء أن يصنعوا روائع، لكي يتذكرها المجتمع والتاريخ، لا يمكنهم فقط صنع لوحات عادية، وبالتأكيد يجب ألا يضيعوا حياتهم كلها في الرسم للمبيعات التجارية”.

الفنان منير الحجي ابن القطيف أبدع لوحات تاريخية بامتياز.

يا ريشة تجلت بعنفوان، ويا أنامل وهبت خبرتها في تجسيد ملحمة خالدة برؤية فنية معبرة وصادقة، ستظل علامة بارزة من علامات الفن القطيفي.



error: المحتوي محمي