60 عامًا وهي رفيقة الخدمة الحسينية، خدمة امتزجت فيها بركات الحب الحسيني برائحة لا يخطئها أي قطيفي، رائحة ما إن تقترب منك إلا وأخذتك إلى أيام عاشوراء، وتحديدًا سفرة عاشوراء وهي تحتضن صواني المحموص، ذلك الطبق الذي امتازت بإعداده الحاجة الحاجة زهرة الرويعي في تاروت، فكان لها نَفَسها الخاص على مدى 6 عقود، ولم تمنعها كثرة انتقالاتها، بدءًا بالديرة وانتهاءً بالربيعية من المداومة على هذا العمل طوال تلك السنوات.
نشأتها
ولدت الحاجة “زهرة عيسى علي الرويعي” المعروفة باسم “رويعية أم عبد الرسول” بجزيرة تاروت، ونشأت في ربوعها بين المزارع والبيوت الطينية في حي “الديرة”، ومن خلال تلك السنوات التي حفرها التاريخ في ذاكرتها قبل أن ينحتها على وجهها البشوش، ظلت على مدى أعوامها ترافقها خدمة الحسين (ع)، وعاصرت خلال عمرها إقامة المآتم وأنواع المواكب والعزاء في حي الديرة، وكانت شاهدةً على التطورات والتغييرات التي طالت هذه الشعائر كما طالت حياة الناس.
ها هي تتذكر السنوات التي عاشتها هناك؛ إنها لوحة من تذكار الزمن الماضي الجميل، حيث الصورة والرائحة التي امتزجت بالطفولة واللعب على تلك التلة الرفيعة، تأتي الحاجة زهرة بحكاياتها تنثرها من جديد على مسامع من يجالسها من أبنائها أو أحفادها، مستذكرةً أيام صِباها وشبابها، وحياة المزارعين التي تحكمها لقمة العيش فيكثر التنقل من مكانٍ إلى آخر سعيًا لتحصيلها.
في بيت أسرتها
نشأت الحاجة زهرة في بيتٍ يعرف الأدب والأخلاق والتعاون وحب محمدٍ وآله، كما روت لـ «القطيف اليوم»، وهي تسترجع خيوط الذكريات، فوالداها رحمهما الله كانا محبوبين بين الناس، وكانت أمها “رضية هبوب” ذات خُلق ومكانة معروفة في مجتمع تاروت، حيث كانت حافظةً للقرآن الكريم وتعالج المرضى بالاستشفاء به، خصوصًا الأطفال، كما كانت تمتهن الخياطة فتأتي إليها نساء الجيران بقطع القماش لتخيطه لهنّ، وبلهجتها المرحة تستدرك: “لكنني لم أرث من موهبة أمي أي شيء”.
أقدم المآتم
وتأخذنا إلى لقطة من لقطات حياتها؛ من المآتم القديمة والكبيرة والتي لا تزال إلى الآن؛ حسينية الشيخ منصور آل سيف بتاروت، وهي تُعتبر من أقدم وأشهر المضائف والمآتم، متذكرة عندما كانت فتاةً صغيرة تبلغ من العمر آنذاك 10 سنوات أو أكثر بقليل، كان الطبخ يتعاون عليه الرجال والنساء، وكانوا يعتمدون على تحطيب الخشب والكرب والتلة من النخل قبل وجود الغاز، فكان الرجال والصبيان يجلبون الحطب من المزارع القريبة لموقد النار.
مآتم حي الديرة
وتعود بها الذكريات إلى الصغر مستنطقةً خيالها للسنوات الأولى للخدمة الحسينية، حيث اشتهرت بعض المآتم في حي الديرة بتاروت بإقامة العزاء وطبخ المحموص العاشوري، من ضمن هذه المآتم بيت الجشي والسني والصفار لسنوات طويلة، وما بقي في ذاكرتها مرسومًا للآن هو التمثيل بالزي العاشوري واللطم والعزاء التاروتي وحشود المعزين في زقاق حي الديرة كبارًا وصِغارًا.
الانتقال من الديرة إلى الربيعية
ولأنّ للحياة صعوبات معيشية، يتحتم على الإنسان مغادرة مكان مسقط رأسه أحيانًا، هكذا كان الحال مع رويعية وعائلتها التي قالت: “من أجل قوت اليوم كانت لنا عِدة انتقالات مكانية في تاروت بين: سودة، وأم جدار، والعمارة، آخرها كان إلى الربيعية، حيث بدأنا حياة جديدة وصداقات وجيرة طيبة الحمد لله أتاحت لنا التعرّف على عوائل وحسينيات مختلفة، وهذا ما جعلني في مقدمة النساء اللاتي يتولَيْن الإشراف على الطبخ في المآتم”.
عميدة الطباخات
وعندما نزلت “رويعية” في الربيعية، أصبحت عميدة الطباخات والمشرفة الأولى في أغلب مآتم الربيعية لما يقارب 60 عامًا، ومن الحسينيات التي شاركت فيها: آل كويل، والفردان، والقديحي، وآل معيلو، وآل شوكان، والدليلي، كذلك مأتم الحاج حسن (أبو سلمان) والحاج معتوق الجمعان، وطوال شهري محرم وصفر يكون الطبخ في تلك المآتم يوميًا بمشاركة الفتيات وبعض النساء اللاتي يقُمنَ بتوزيع المحموص على البيوت في الحي.
استعداد وجاهزية
لمصيبة عاشوراء وامتداد الحداد على مدى شهرَي محرم وصفر في قلوب أهل تاروت والقطيف مكانة خاصة، ولقد كانت الخدمة الحسينية بالنسبة لهم الخدمة المباركة والممتعة التي يتهيأون لها وينتظرونها بفارغ الصبر كلما شارفت السنة الهجرية على الانتهاء.
تحكي تفاصيلها الحاجة زهرة (رويعية)، مشيرة إلى أن المآتم سابقًا كانت لديها جهوزيتها واستعداداتها لشهر محرم بدءًا من شهر شوال، أي قبل ثلاثة أشهر من ذكرى عاشوراء، تجتمع فيه نساء أهل الحي لتنقية الأرز والذي يقدر بـ30 كيسًا كبيرًا أو أكثر (40 كيلو جرامًا لكل كيس) تخصص للحسينيات الكبيرة التي يتم الطبخ فيها يوميًا، كل يوم كيس واحد من الأرز واثنان من البصل، ومنها يكون التحضير للطبخ طوال شهري محرم وصفر.
ساعة التحضير
وتنوعت الطبخات التي كن يقمن بها كمجموعة، من محموص، وبرياني، وكبسة، ويتميز طبخ المحموص بأنه يأخذ وقتًا طويلًا لتحضيره وذلك حسب كميته، حيث يبدأن بتجهيز الحمصة (تحمير البصل) من الساعة السابعة أو الثامنة صباحًا، ويستمر ذلك لما يقارب ثلاث إلى أربع ساعات حتى ينضج الدجاج أو اللحم، بعدها يُضاف الأرز حتى يكون جاهزًا للنچاب في الصحون والتوزيع للأهالي والجيران، وفي بعض الأحيان تُقدّم الوجبة داخل المآتم للمعزين.
صعوبات الخدمة
لحياة القدماء صعوباتها التي تميزها طبقًا لبساطة الحال وضعف الموارد، وقد كان للخدمة الحسينية من ذلك نصيب ترويه رويعية حيث تقول: “لا شيء يأتي بسهولة، وفي سابق العهد بالخدمة الحسينية كنا نعاني من صعوبة الحصول على الماء، وفي شهر عاشوراء كنا نأتي به من العيون التابعة للمزارع القريبة، وأبرزها مزرعتا عين الكويتي والمصلي المعروفتان في الربيعية لأجل الطبخ، فالبيوت لم يكن فيها الماء متوفرًا مثل الآن، هكذا كان الفرق في صعوبات الخدمة بين الماضي والحاضر، الآن ما عدنا نحتاج قطع المسافات للتروية، وما عدنا نحتاج لتنقية الأرز قبل محرم بـ٣ أشهر، فالماء في البيوت يصل عبر الأنابيب، والأرز يأتي نقيًا جاهزًا عبر الشركات المختصة”.
همة وخدمة
وتوضح أن الخدمة مرتكزة على الهمة، كلما أعطيت نفسك رغبة التشارك مع الآخرين كلما توسعت وتنوعت لديك المهام، وأصبحت في المقدمة في خدمة الناس، والعمل الطيب يثمر أعمالًا أخرى.
إلى جانب خدمة الحسين (ع)، كان للحاجة زهرة خدمات في الأفراح، تؤنس بالحديث عنها، حين تقول: “لقد قمت بطبخ ولائم بعض الأعراس (عيش المحّمر) لأبنائي وأبناء جيراني”، وبعين خبيرة تفصح: “طيلة هذه السنوات ومع تقدمي بالعمر ما زلت أرى من يحتاج إلى التعلم والتدرب على قانون الكمية الكبيرة (القدور الحسينية)، البعض يراها صعبة والبعض يراها سهلة بحيث يكون الميزان هو العين التي تزن كمية الملح والبهار والماء، ولهذا أرى أنّ من حملت صفتَي الهمة والخدمة حفيدتي (وجيهة)، فأنا أرى فيها نفسي ومهاراتي، حيث تميزت بمهارات الطبخ المتنوع، وكذلك زوجات أبنائي وهنّ من سيقمن مقامي في السنوات القادمة”.
جهد طواه الزمن
لم يقتصر حديث الحاجة “رويعية” على تذكر تلك المآتم التي كانت تشارك فيها بطبخ المحموص، بل كانت لها مهام أخرى داخل المأتم، حيث كانت تقوم بتوزيع الماء وكذلك القهوة والشاي لسنوات طويلة وكأنما قد أعطيت المهام لها خصيصًا، مؤكدة أنّ خدمة الحسين “عليه السلام” مسؤولية كبيرة إضافة إلى شرفيتها ورفعتها وكرامتها، وخادم الحسين (ع) الحقيقي (بمواصفات حسينية خاصة) لا بد أن يكون متوسمًا أخلاق المعصومين (ع) وسيرتهم.
جائحة كورونا
تتنفس الحاجة “رويعية” بألمٍ وحسرة لما تسببت به الجائحة من إبعادها عن المآتم، واصفةً العامين الماضيين بالحرمان والبعد، حيث تغيّرت الأوضاع تمامًا، كل شيء أصبح مختلفًا عما كان عليه سابقًا؛ إذ كانوا في شهر عاشوراء يخرجون من الصباح متوجهين للمآتم ولا يعودوا إلا مع صلاة الظهر ومعهم بركة الإمام الحسين (ع)، والآن أصبح المأتم داخل المنازل، حيث يسمعون الخطيب عبر الشاشات.
تجديد العهد
تختم الحاجة “رويعية” حديثها بأمنية تسكن قلوب الكثيرين: “في مواسم عاشوراء يتجدد العهد مع الحسين عليه السلام بالبكاء عليه والتأثر لمصابه، وكل ما أتمناه أن يمدني ربي بالصحة والعافية لأرى مواكب العزاء وأسمع صوت الناعي من خلال شاشة التلفاز، فلا الجائحة تسمح ولا الصحة تؤهل لأن أكون من السباقين للمشاركة خارج البيت”.