محمد رضا نصر الله: أستاذنا الكبير محمد مهدي الجواهري.. أهلاً وسهلاً بك.
محمد مهدي الجواهري: أهلاً.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، لو أردنا أن تبدأ معنا منذ البداية حيث ولدت في النجف وترعرعت هناك وتشربت جوها الشعري، وقد كان يتبارى في منتدياتها الأدبية، ويتسابق في حلباتها الشعراء النجفيُّون: الحلي والحبوبي وآخرون من عائلتك العريقة، ماذا يقول أستاذنا الجواهري؟
محمد مهدي الجواهري: إن ما أقوله هنا هو العالق بالذاكرة، حيث وُلدت في بيت كان عامراً باللقطات الأدبية والعلمية والدينية معاً، فوالدي -رحمه الله- إلى جانب منزلته الدينية الشاخصة وشخصيته القوية كان شاعراً رقيقاً، ولكن لا يقدر الشعر أن يزاحم ما خُلق له والدي، وهو الناحية العلمية والدينية، فظلَّ ديوانه الصغير الجميل مخطوطاً في مكتبة آل كاشف الغطاء، وآل كاشف الغطاء هم ذواتهم لهم حصَّة كبيرة في بيتنا، فجدتي أم والدي (صيته) منهم، وهذا ما ساعدني لحسن الحظ وقد خُلقت شاعراً، ما ساعدني أن اخترق الحصار الديني المضروب على مدينة النجف بأجمعها، وخاصة على البيوت الدينية الشهيرة مثل بيت الجواهري، أقوى بيت ديني بالنسبة إلى البيوت الدينية في النجف هو بيت الشيخ صاحب الجواهر، جدي الأكبر مؤسّس العائلة الشيخ محمد الحسن المنسوب لكتابه في الفقه الإسلامي (الجواهر)، أو كما سمّي: (جواهر الكلام)، فكان هناك أكثر من عائلة دينية شهيرة، ولكن مع هذا كان الشيخ صاحب الجواهر يعدُّ الأول فيهم، كما يقول الدكتور عبدالرزاق السنهوري الجليل وقد جاء يُنظّم الأحوال الشخصية في العراق.
محمد رضا نصر الله: القانوني المصري الشهير.
محمد مهدي الجواهري: نعم، القانون المصري وقد نظَّمه فعلاً، ووحَّد الفقه الإسلامي في العراق، بقانونه هذا، يقول: “لم يساعدني في مهمّتي كتاب كما ساعدني كتاب الشيخ صاحب الجواهر”. هذه الشهادة عصرية بعد مائتي عام من حضور الشيخ صاحب الجواهر.
فأنا بحكم ما خُلقت له كنت جزءًا لا يتجزَّأ من بيئة النجف الأدبية بصورة عامة، وبصورة خاصة من البيوت الأدبية، ومع أن والدي -رحمه الله- أرادني أن أكون وريثاً له دينيّاً، كعالم ديني، ونظراً لطبيعة العناد لديَّ التي تتفاعل في دمي لكي أكون شاعراً تغلبت على نزعته وشخصيته القوية، وعلى وصيته عليّ كوصي قوي، وكنت في أوقات قليلة لا بد لي من أن أدرس فيها الفقه أو مبادئه، فكنت استغل هذه الساعات لإرضاء والدي أكثر من إرضاء نفسي.
محمد رضا نصر الله: إذن كان هناك عنادان: عناد والدك الذي أصرّ على أن تكون عالم دين، فواجهته بعناد مضاد.
محمد مهدي الجواهري: عناد مضاد بمعنى الكلمة.
محمد رضا نصر الله: فذهبتَ تبحث عن حقيقة الموهبة التي تنطوي عليها نفسك وهي الشعر، نريد هنا أن نقف كيف كانت هذه الانتقالة من الشيخ محمد مهدي الجواهري الذي كان يتزيَّا بالزِّيِّ الديني ويلبس العمامة والصاية أو القباء، وإذا به يخلع هذا الزِّي، ويذهب إلى بغداد منبهراً بأضوائها، أضواء المدينة.
محمد مهدي الجواهري: أبدلتها أول مرة بالكوفية والعقال في النجف، وبعد ذلك مرة ثانية أو ثالثة في بغداد بين العمة والزي الغربي الذي نحن فيه.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، هل كان انتماؤك أو عملك الجديد في البلاط الملكي لدى الملك فيصل الأول سبباً في تغيير هذا المظهر الديني؟ وهل فرض عليك العمل في البلاط الملكي العراقي أن تستبدل زيك الديني بهذا الزي؟
محمد مهدي الجواهري: لا أبداً، وفي الواقع كان الملك فيصل الأول رجلاً جليلاً وأكبر من حجم العراق في شخصيته ومواهبه ومكانته، فكان هذا الرجل عجيباً، وقد اختارني هو لأكون في حاشيته بعمتي وجبتي، وأنا تطورت كما تطور الآخرون، ووجدتني يوماً بعد يوم غير منسجم مع ما أتزيَّا به وما تجيش به نفسي من نزعات ونزغات شعرية وحياتية، فكنت حريصاً على أن آخذ مشواري المعيّن مع أقراني من أدباء بغداد وشعرائها، وأنا في الصميم منهم، فكنت أجد فجوة بين هذا وبين ذاك، فأبدلت الزِّي. وفوجئ الملك فيصل وأنا ادخل عليه لأنني واحد من ثلاثة واجبهم أو تقريباً شغلهم الوحيد أن يكونوا على اتصال بالملك فيصل ذاته.
محمد رضا نصر الله: كموظفين في التشريفات الملكية؟
محمد مهدي الجواهري: نعم. والتشريفات الملكية تعني أنا الذي أدخل عليه وأخرج من عنده، وكان بالذات يحبني كثيراً، ويسميني ابني محمد إلى أن خرجت، وكان عند خروجي من هذه الوظيفة شبه مرغم مع الأسف؛ لأنه لا يريدني أن أخرج. وكان ذلك واحدة من إساءات تصرفي في الحياة ومن كبريات غلطاتي وهفواتي، التي كانت واحدة منها إصراري على أن أكون صحفيّاً، وأن أخرج من هذا العالم المتفتّح أمامي الذي يريدني له الملك فيصل، كان يريدني لأعيش، وقال لي يوم عُيّنت عنده بالحرف الواحد: يا بني محمد، هذا جسر تعبر عليه. وهذا مفهوم عندما يقوله الملك فيصل لا غيره.
محمد رضا نصر الله: هل كان الجسر ما اقترحه عليك الملك فيصل الأول.
محمد مهدي الجواهري: والذي هدمته أنا بالذات.
محمد رضا نصر الله: قبل أن تهدم هذا الجسر، هل كان هذا محاولة إنقاذ للمعركة السياسية والفكرية التي عمَّت أوساط بغداد على أثر المناوشات التي تمَّت بين ساطع الحصري وبينك، بعد رفضه لك معلمًا في وزارة المعارف؟
محمد مهدي الجواهري: لا بالعكس قضية ساطع الحصري وموقفه مني، وبعبارة أصح في الواقع: موقفه من الآخرين.
محمد رضا نصر الله: ممَّن؟
محمد مهدي الجواهري: من وزير المعارف السيد عبد المهدي المنتفكي، وكنت أنا ضحية النزاع بينه وبين هذا الوزير، ولسوء حظي وسوء حظ الكثيرين مع الأسف أن يكون النزاع طائفيّاً.
محمد رضا نصر الله: هل كان النزاع بين تجنيسك أو تابعيتك العراقية، لقد طلب منك ساطع الحصري أن توثّق في أوراقك أثناء طلبك لوزارة المعارف جنسيتك العراقية؟
محمد مهدي الجواهري: النقطة في هذا الموقف هي التي في الواقع أطاحت به، أكثر ممّا كان يحاول أن تخدمه أو يتقوَّى بها، لأن موقفه كان مكشوفاً وعدائيّاً وشخصيّاً، بحيث انتصر لي من كان ينتظر أن يكون إلى جانبه، لوضوح المشكلة ووضوح الناحية العدائية أو تقريباً انكشافها، فهذه هي التي نقلتني من أن أكون معلم ابتدائية إلى حاشية الملك المقرّب المدلّل. فتحولت القضية من مجرد خصومة إلى قضية طائفية شملت العراق كله، وزعزعت وزارة جعفر باشا العسكري برمَّتها؛ لأن القضية تجاوزت حدودها، وتناولت الصحافة حصة كبيرة من القضية، مثل: (هذا أبيض هذا أسود)، ثم لحقه مقال رنان في جريدة العالم العربي كان تقريباً شبه حاسم بعنوان: (منهم الأجانب يا بقايا السيوف؟!).
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، لو أردنا أن نتوقَّف عند نمو الوعي السياسي عند الأستاذ الجواهري، فنحن نلاحظ -مثلاً- القصائد التي قلتها في بداية حياتك كالتي قلتها تقليدية في النجف، والقصائد التي قلتها في بغداد؛ بدت فيها بوادر وعي اجتماعي كنت إذ ذاك تتمرّد على بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة، ولكن كيف قاد هذا الوعي الاجتماعي إلى موقف سياسي محدّد، أصبحت ملتزماً به سياسيّاً مع هذا الفريق أو ذاك؟
محمد مهدي الجواهري: يا أخي، هذا سؤال في محلّه. في الواقع تطور السنين والأيام وتقلبات الحياة، والتجاريب العديدة والمرة التي مرت عليّ في حياتي، وبمسؤولية شخصية قبل أن يكون الآخرون مسؤولين عنها، بهفوات نفسي وغلطاتي وبزلاتي التي وقعت فيها، وخرجت منها وامتُحنت بها، هذه كلها في الواقع شيئاً فشيئاً جعلتني أكثر فهماً ووعياً وإدراكاً لمعنى الموقف.
ما هو الموقف قبل كل شيء؟ ما مدى صحته ومشروعيته؟ ما مدى انطباقه على الوطن وعلى مراحل الحياة فيه؟ وما مدى قدرة المرء على الصمود؟
هذا لم يجئني عفواً ولا بمحض المزاج أو الإرادة، وإنما جاءني شيئاً فشيئاً، وتقويت بها مرحلة بعد مرحلة، عقداً من الزمن بعد عقد، حتى أصبحت ذا قناعة بما هو صائب وبما هو غير صائب، وبالموقف الذي أتَّخذه في هذه المسألة أو تلك. وأنا فخور أنني ما زلت وما بقي من حياتي ولم يبقَ الكثير وما بقي منها فخاتمة خيّرة قيّمة لا بأس بها، هذا الواقع، وهكذا كان.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، هل كان للكاتب العراقي ذي النون أيوب دور ما في عملية انتمائك السياسي؟
محمد مهدي الجواهري: رحم الله ذا النون أيوب. نعم، كان له دور في مرحلة الثلاثينات، حيث كنا -في العشرينات أو أواخرها وأوائل الثلاثينات وحتى الأربعينات- جماعة شبه مرموقة، وكان المرحوم ذو النون في الصميم منا، وواحداً منا، خدم الرجل -بكل معنى الكلمة- ما استطاع، وأبقى من آثاره شيئاً غير قليل ممّا يُحتفظ به، ويُقرأ.
محمد رضا نصر الله: هل كان لهذا الوعي السياسي الذي حُسب على الفريق التقدمي في العراق دور ما لتأييدك ثورة عبد الكريم قاسم؟
محمد مهدي الجواهري: بصورة عامة له دوره في موقفي من عبد الكريم، لكن قبل كل شيء كان لنَفَسي ودمي ومزاجي وصراعاتي مع الحياة والحكم والناس الدور الأول قبل كل دور آخر، بحكم دمي ومزاجي أنا شبه ثائر، وكنت أرحّب حتى بالانقلاب الذي يجب أَلَّا يُرحب به بالانقلاب العسكري المؤقّت.
محمد رضا نصر الله: لكنك اتخذت موقفاً حازماً من انقلاب (بكر صدقي).
محمد مهدي الجواهري: نعم صحيح، لكنه في الأسبوع الأول أو في الشهر الأول كنت معه؛ لأنه في حسابي شبه ثورة، وحكم وانقلاب جديد عسى أن يكون خيراً. وبعد انكشافه ووضوحه أمامي اتّخذت الموقف الصائب كما في افتتاحية الرأي العام التي أغلقت على أثرها (ماذا بعد الستة الشهور؟) هذا مقال فظيع، ثم كانت القصيدة الرائية:
كِلوا إلى الغيب ما يأتي به القدر واستقبلوا يومكم بالعزم واعتذرُوا
وصدّقوا مخبراً عن حسن منقلب وآزروه عسى أن يسبق الخبر
إلى أن أقول:
إن السماء التي أبديت رونقها يوم الخميس بدا في وجهها كدر
تساءل نفر ماضون عهدهم أن سوف يرجعوا ماضيهم فيزدهر
للآن لم يلغَ شبر من مزارعهم ولا تزحزح مما شيّدوا حجر
بعد التجربة التي عشتها مع هذا العهد بوعي ونزاهة ونظافة، حتى كنت مرشحاً أن أكون في المجلس النيابي أنا والأخ مصطفى علي الذي صار وزير العدلية بعد ذلك.
محمد رضا نصر الله: إذن لماذا كنت تؤيد الحركات الانقلابية داخل العراق وقد حظيت باحترام الوسط السياسي في العهد الملكي؟
محمد مهدي الجواهري: خسرت النيابة في المجلس النيابي لموقفي وقناعتي بسوء الانقلاب العسكري.
محمد رضا نصر الله: هل كنت تنطلق في تقييمك لهذه المواقف من خلال رد فعل شخصي على بعض هذا التصرف أو ذاك، أو من منطلق تقييمك للواقع السياسي والاجتماعي؟
محمد مهدي الجواهري: من الاثنين في الواقع. فتقييمي بصراحة أنه كانت تغلب عليَّ النزعة الثورية. وفي أكثر الأوقات كنت وما زلت إلى الآن أخطئ من منطلق صفاء نيتي ونفسي، وبعبارة أخرى: من منطلق البراءة، ومن حيث التقييم تغلب الانطلاقة والنزعة وبعض الثورة على تقييم الموقف وتقديره، وهي مواقف ألوم نفسي عليها. وهناك إلى جانب هذه المواقف مواقف على العكس من ذلك، أفتخر بها الآن وأرى أنني مصيب فيها.
محمد رضا نصر الله: ألم يكن للجمهور وممالأة الجماهير -التي كانت تتفاعل مع قصائد الجواهري النارية التي كانت تتميّز بأنها ذات طاقة انفجار لغوي هائلة الدويِّ- دور -أيضاً- في توجيه هذه الموقف لصالح هذا الطرف أو ذاك؟
محمد مهدي الجواهري: نعم، لها دور كبير في الواقع، وأنا بصراحة كنت كلما أجد صدى قصيدة من قصائدي لدى الجماهير ومدى تأثُّرهم بها، ومقدار حماستهم لها، كنت أستمد من ذلك قوة القصيدة التالية بعدها، وكانت تمدُّني بزاد للمرحلة التي أنا ماضٍ إليها، والتي أحاول قطعها، كانت تمدني بقوة أكبر للمقاومة والصمود أكثر، علماً -وأنا أقولها بصراحة- بأن الجمهور نفسه كثيراً ما يكون عاجزاً عن أن يصنع شيئاً لي بالذات، ولكن مجرد حبّه للخير يُعطي المرء قوة أن يكون خيِّراً.
محمد رضا نصر الله: كثير من القصائد التي قالها الجواهري غالباً ما تتردد فيها كلمة (الدم)، هل لمقتل أخيك جعفر دورٌ في ذلك؟ ولماذا لم تستبدل مصطلح الدم بمصطلح آخر يحاول أن يؤسّس مفاهيم جديدة في العقل والوجدان العربي؟
محمد مهدي الجواهري: والله مثل ما تفضَّلت، كأنه الآن شخص يُنبِّهني وكأنني غير منتبه إلى مسألة جعفر، وأنت في الحقيقة الآن ذكَّرتني، وقبلها لم أفكّر بهذا الموضوع، الآن جعلتني أفكر أن لها دخلاً؛ لأنه في هذه اللحظة شَخَصَتْ القصائد أمامي، قصائدي قبل مقتل جعفر وبعدها، فوجدت أنك تجد أنت بالذات بنظرة سريعة على المرحلتين قبل وبعد، فتجد الفرق كبيراً. الدم ابتدأ يتكرّر عندي كثيراً وأنا اعترف بذلك. في الواقع أنا لا أحب الدم، إلَّا دم الشهيد؛ لأن دم الشهادة ليس قليل الشأن ولا سهلاً، فأن يستشهد المرء أمر صعب، والدم غالٍ بالواقع، أنا أقول ذكرتني بالدم:
خل الدم الغالي يسيل
إن المُسيل هو القتيل
هذا أنا أسميه الدم الغالي، وفي الحقيقة هناك دم رخيص مع الأسف. وفي العراق جرى كثير من هذا الدم المرتجل، غير المستهدِف، أو المستهدِف المنحرِف، أي غير المصوِّب، وغير الرامي إلى هدف محدّد، فهذا مع الأسف يسموه الدم الهدر. هذا شيء والدم الغالي شيء آخر، الدم الغالي المصمِّم الثائر، والمثمر أيضاً؛ لأن هناك رخيصة سالت كثيراً دون أن تُثمر شيئاً.
محمد رضا نصر الله: وهل أثمر الدم في العراق يا أستاذ؟
محمد مهدي الجواهري: مع الأسف وبصراحة لم يُثمر كثيراً، الدم درس، الدم عبرة وعظة. وما نحن فيه اليوم بعد هذا كله وبعد الدماء التي سالت في الواقع، مع الأسف ليست تكافئ النتائج أو المواقف الراهنة أو قبل الراهنة أو في كل المراحل التي مرَّ بها التاريخ العراقي. كان الدم في العهد الملكي كثيراً ما يُهدر.
فمعاهدة بورتسموث ألغيت ببيان رسمي بموقف شريف لا أشرف منه، حتى من قبل الملكية، أذيع البيان في الليلة الشهيرة وأسقطت المعاهدة نزولاً عند آراء قادة الأحزاب وزعماء البلد، ورغبة الشعب اعتبرت لاغية ببيان رسمي، ونفاجأ في الصباح بمعركة الجسر وذهب فيها جعفر شهيداً رخيص الدم في الواقع. فهو دم غالٍ من جهة والمهدور من جهة مهدور. فأنا لم أفهم -مثلاً- لماذا أُلغيت المعاهدة، فكان الدم يسيل لشيء آخر، ويُدخر لمرحلة قادمة ولمطلب جديد، لا لمعاهدة أُسقطت بحد ذاتها وانتهى كل شيء.
فالدم عندي في الواقع مصدره ومنطلقه الحرص على الدم وليس الاستهانة به.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا الكبير، من خلال علاقتك بالسياسي العراقي المعروف نوري السعيد، ما رأيك فيما قاله الشيخ محمد رضا الشبيبي بأن الوضع السياسي في العراق كان كبيارة المجاري التي كانت تفوح بكثير من الروائح الكريهة، وكان نوري السعيد يغطي هذه البيارة؟
محمد مهدي الجواهري: أين قالها؟
محمد رضا نصر الله: قالها في موقف من المواقف ونُقلت عنه.
محمد مهدي الجواهري: أنا لا أذكر هذه المقولة.
محمد رضا نصر الله: قالها -فيما يبدو- لبعض الساسة الذين أتوا ببعض الحركات الانقلابية في العراق؟
محمد مهدي الجواهري: محمد رضا الشبيبي هو من رجال الحكم في العراق، وله مكانته الأدبية ولا أنكرها ولا أنتقصه، لكن تعجبني المقاييس في الواقع التي تكون جريئة وصريحة، فالشبيبي واحد من الحاكمين منذ العشرينات أو بداية الثلاثينات، أي منذ بداية الحكم الوطني حتى نهايته، ولم يجلس يوماً واحداً دون وزارة أو عينية أو نيابية.
محمد رضا نصر الله: هل كنت تغار منه؟
محمد مهدي الجواهري: لا. وفي الواقع هذا سؤال جميل؛ لأنه ابن شارعي وليس ابن بلدتي، يفصل بين بيتنا وبيته شارع مثل من مكاننا هذا إلى باب الشارع، وكنت بصراحة أرجو أن أكون فيما كان فيه، ولكن لأكون شيئاً آخر غيره.
محمد رضا نصر الله: كيف تنظرون إلى مستقبل العراق السياسي؟
محمد مهدي الجواهري: بصراحة أراه مستقبلاً لا يسرّ، ولن يكون للعراق مستقبل بعد هذا الذي كان كله، وحتى هذا اليوم القائم لن يكون الشيء الذي يريده الشعب العراقي أبداً، وهذا شيء مقطوع ومجزوم به، أما كيف ولماذا؟ فالحديث طويل، لكن هناك أشياء رئيسة، وليست هناك علامة واحدة الآن تدل على مستقبل العراق.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا الكبير، أراك -وأنت الشاعر الذي بشَّر بالعصر الثوري في العراق والعالم العربي- تتباكي اليوم على الفترة الملكية في العراق، لماذا هذا الحنين والانشداد إلى تلك الفترة؟ هل لأنها قدَّمت إلى العراق والعراقيين هامشاً جنينيّاً للديمقراطية إلى حدٍّ ما؟
محمد مهدي الجواهري: يا أخي، لا أستطيع أن أتوسع بالمقاييس، فعلى حجم المقاييس الحضارية المطلوبة: هذا لم يكن، وما هو كائن اليوم. وأعتقد أنه سيطول لأن يصبح كائناً، ولكن مع هذا كله، وبالنسبة إلى مقاييس الحكم أو المقاييس الحضارية ما وُجد منها وإن كان قليلاً، بالنسبة إلى كل البلاد العربية كان العراق محسوداً، بل هو المحسود الأول؛ لأنه حصل على استقلاله في سنة ثلاثين، وسوريا في عام 45، خمسة عشر عاماً بعد العراق، ولتعلم أن سوريا حضاريّاً تسبق العراق بمستوياتها، وما تزال حتى يومنا هذا، ومع هذا فهكذا كانت سياسة الغرب، فأريد للعراق أن يكون نموذجاً، وكان هناك صراع شديد كابده الملك فيصل، وكابدته الحكومات المؤلَّفة بإشراف منه، بين قوة الاحتلال والانتداب وبين الاستقلال، ودخل العراق عصبة الأمم سنة 193م. وتدرج العراق شيئاً فشيئاً إلى أن جاء النفط ولو في أولى مراحله، فكانت هذه المرحلة مرحلة انتقال شبه مفاجئ لمستويات حياة الناس، للعمال، ولذوي الدخل القليل، هذا من ناحية واحدة هي الناحية المادية، أما النواحي المعنوية فقد كانت قوية، حيث كان هناك حرية أكثر مما وُجد في أي بلد عربي، حتى البلاط الملكي كان يُعرِّض به صباحاً في أكثر من جريدة واحدة.
محمد رضا نصر الله: قصائدك وقصائد الرصافي مثلاً؟
محمد مهدي الجواهري: قصائدي وقصائد الرصافي ومقالات الأحزاب الوطنية مثل جريدة الأهالي، وجريدتي (الرأي العام)، وهاتان الجريدتان كانتا أبرز الصحف المعارضة.
وعلى هذا يكون كلامك عن الحنين إلى العهد الملكي الآن في محله من الأعراب؛ لأنه كانت الحرية والنموذج الديمقراطي، والمجلس النيابي نفسه كان من أقوى المجالس، والناس تريد هذا العهد.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا الجواهري، هناك من بعض النقاد والأدباء من يتّهم الجواهري بالشعوبية. ما حقيقة هذه التهمة؟ ولماذا تُتَّهم بها أو تُسقط عليك؟
محمد مهدي الجواهري: أولاً حقيقة كلمة الشعوبية إلى الآن ما حُلّت، فمفهومها اللغوي والأدبي هو المحب للشعوب، فيقال: إنه شعوبي نسبة إلى الشعب والشعوب جمع، فكلمة الشعوب هذه ما أُحسن اختيارها، وظلوا يلهجون بها، وهي مدح للإنسان، لي ولك وإلى أيِّ أحدٍ أن يكون محبًّا للشعوب، فهو شعوبي، لذا فإنني أحب كل شعب، وأعتقد ببراءة كل شعب، حتى المحطَّم، والشعب الذي ليس له عنوان خاص، وليس له محل من الأعراب في مصير البلد، حتى هؤلاء هم أبرياء بحكم الطبيعة وحكم الموقع.
أما إذا كانوا يقصدون غير ذلك المعنى فكل شيء عندي واضح، ودواويني شاهدي عليه، وحياتي تدل على ذلك أيضاً، وتكشف أنني أنتمي لنفسي، ولمشاعري وأحاسيسي، ولا يقدر إلا خالق السماوات والأرضين أن يُزحزني عن مشاعري الخاصة.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، علاقة الجواهري بالنقد، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وقد قدَّم مجموعة كثيرة من القصائد، ولكن هذا الشعر الذي جلجل في سماء الوطن العربي لم يحظَ بعناية نقدية، وقلَّما نجد كتاباً عن الأستاذ الجواهري غير الذي كتبه حسن العلوي، وسليم التكريتي، وعبد الله الجبوري، وبعض هؤلاء من اتَّخذ موقفاً ما ضد شاعرية الجواهري، هل بالإمكان أن نقف على هذه العلاقة، علاقة النقد بالشعر؟
محمد مهدي الجواهري: نقف وزيادة، هذا شأن كل واحد منا، فهذه كلها أعمال تجاه الشاعر الصادق والشاخص فتكون تزكية، ولا يمكن أن يكون الشاعر يبلغ المبلغ الذي بلغته من دون حاسد أو حاقد أو متربّص، وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية، بل في العالم كله، في بريطانيا العظمى، وألمانيا الجبّارة، وفي فرنسا، لكن الفارق في العالم الحضاري أن يكون الشاخص ضدك بمنزلتك وبمستواك، وهذا شيء جميل وعظيم بالمنطق المؤدّب. الفرق بين هذا وبين ما لدينا هو أن يكون سليط اللسان، سيِّئ الأدب، كاذباً مثلاً، حاقداً بدمه وقلمه. فكل شاخص وموهوب سيكون له حاقدون وحاسدون.
محمد رضا نصر الله: ما هي ملابسات قصيدتك عن الأمير فيصل بن عبد العزيز حين كان نائبًا للملك في الحجاز التي نشرتها في جريدة أم القرى السعودية وقتها؟
محمد مهدي الجواهري: لا أذكر ملابساتها، ولكن أذكر أنها كانت عن رغبة وإرادة.
محمد رضا نصر الله: يتَّهمك البعض بأنك أحياناً تجامل بعض الحكّام العرب فتمتدح هذا الزعيم أو ذاك.
محمد مهدي الجواهري: دائماً بعض الذين يسألونني عن هذا الموضوع أقول لهم: وجهوا سؤالكم لهم: لماذا يمدحونني. لأنني لم أمدح واحداً لم يمدحني قبل هذا، هو الذي ابتدأني بالمدح والتكريم، ويرشحني للجسور المهدمة، للنيابات، للأوسمة العالية، وبالتأكيد الإنسان يأخذ طبعاً عاطفيًّا، لذا أقدّر من يقدّرني، ولم أخرج عن هذه الدائرة شبراً واحداً، ولا لشخص واحد، لم أمدح إلَّا من ابتدأ بمدحي. وهذا يذكرني بحال المتنبي، فلو نظرنا إلى ديوان المتنبي العظيم لوجدناه كله أماديح، فكيف بقي صوت المتنبي مدويًّا؟ السر في ذلك أن ممدوحيه كانوا يتمدحونه ويلتمسون منه أن يجيء إليهم وأن يقول شعراً فيهم، فيقول الرجل الشعر فيهم، فما كان مدَّاحاً بل هو ممدوح في الواقع. وإلى يومي هذا أنا راضٍ عن نفسي، فكل موقف وقفته كانت له سابقة تكريم.
محمد رضا نصر الله: عرفتَ الهجرة السياسية في حياتك، فأنت قد هاجرت من العراق إلى إيران، ثم هاجرت من العراق إلى الشام، وكذلك إلى مصر، وبعد ذلك استقرَّ بك المقام في براغ البلد المحبَّب لديك الذي قلتَ فيه الكثير من الشعر، وتغزَّلت بجميل فتياته، هل لنا أن نقف عند ظاهرة الهجرة السياسية أو المغترَب السياسي والثقافي عند الجواهري؟
محمد مهدي الجواهري: هذا صحيح، وسؤال في محله؛ لأنه من المقارنات التاريخية وليس مفارقاته. إنك عندما تكون صاحب موقف وفكرة وقلم أو لسان أو جماعة معيّنة ذات هدف معيّن فإنك تُخاصِم وتخاصَم، وتُطارِد وتُطارَد، ويُكتب عليك ما يُكتب على الآخرين في التاريخ كله. فكل أصحاب المواقف -منذ عهد الإسلام الأول إلى الأموي ثم العباسي وبعده المماليك- يضطرون إلى الهجرة والتباعد والغربة. وهذا شيء طبيعي، إنما في الحقيقة كنت أتعجّب من أن الرجل كيف يضطر إلى أن يترك بلده، وأنا لم أترك العراق بشكل مباشر ومغاضِب، إلَّا مرتين، أما رحلتي إلى إيران فكانت للاصطياف والتمتع بالربوع الجميلة صيف أو صيفين، وزرتُ مصر مرة في الخمسينات، وتوجهت إلى براغ المرة الثانية والأخيرة في الواقع.
أما ما أنا فيه اليوم -هو الرحلة الثالثة- مع فارق أنني هذه المرة تركت العراق مختاراً لا مضطراً، من غير أن أُطارد أو أن أشرَّد، بل تركته لمجرد قناعة بأن أترك العراق، وأن أحتجَّ على ما يجري في العراق. وليس لي غير هذه الرحلات أو الهجرات.
وقصة براغ قصة عجيبة، لأنه -مثل ما قلت لك- كنت أتعجب كيف يترك الإنسان بلده ولا يقاوم؟! فذهبت إلى مصر لأنه لم يبقَ لي حيلة ولا وسيلة، صبرت على إغلاق الجريدة عشر مرات، إلى أن يئست، إلى أن شعرت أن مجرد وجودي في القاهرة هو احتجاج وشبه انتقام منهم، وهذا ما كان فعلاً.
وكانت الرحلة إلى براغ بعد الخلاف مع كريم قاسم حول: (ماذا في الميمونة؟)، حيث وصلت الجلسة إلى المجابهة إذ شتمني وشتمته، وأصبحت القضية كبيرة وواسعة وخطرة، وأنا أعزل وهذا الرجل هو الحاكم المطلق، فحشد عليَّ ما لا يحشد على أحد من الصحف القذرة، وأجهزة الأمن، وغيرها، ولم يكن بالمستوى العالي المترفّع، والمتسامح.
محمد رضا نصر الله: كيف كانت علاقة حكومة عبد السلام عارف بك؟ وكونك عدوّاً لحكومة عبد الكريم قاسم؟
محمد مهدي الجواهري: الآن أخبرك عنها طبعاً حيث كانت هناك علاقة.
مع هذا قاومت ما لا يُقاوم، ولم أترك البلد، وكان باستطاعتي أن أغادر، من خلال اتحاد الأدباء لأنه له علاقة باتحادات العالم، لكنني لم أخرج، وتحملت الكثير حيث كانت تصدر جريدة الرأي العام، وأربع صحف أخرى مملوءة بالشتائم كل صباح، ولا أقرؤها.
وذات يوم وأنا في هذه المعركة تلقيت مكالمة هاتفية من سفارة دولة ألمانيا الشرقية في بغداد ذات الاستخبارات الأولى في العالم كله، يقول لي سكرتيرها: هل لنا أن نقابلكم؟ قلت: طبعاً، لماذا لا، فقال: الساعة الفلانية في اتحاد الأدباء. ولعلمي بأن هذه دولة أجنبية وأنا كل حركة من حركاتي مرصودة، والمأخذ سيكون كبيراً، استدعيت الدكتور المخزومي، وعلي جواد الطاهر، والسيد محمود الحبوبي، ليكونوا معي.
وباختصار جاء الوفد المكوَّن من السكرتير الأول ومرافق له، وقال: الأستاذ الجواهري، لديك دعوى من ألمانيا من اتّحاد الكتَّاب، وهذا أمر طبيعي، وكان جوابي الوحيد بكلمة مختصرة ذات دلالة، أن قلت له: والله، أنا في شبه دوَّامة ومعركة وظروف لا تسمح لي بالخروج، فأنا أعتذر، وأرشح شخصاً آخر غيري، مثل العلامة الدكتور مهدي المخزومي، قال: لا، إنها باسمك الخاص، قلت: شكراً أعتذر.
تصوَّر الفرج يأتي إليك، وتقول: لا، وأنت أمام ذئب أمعط حيث أصبح كريم قاسم معي بلا رحمة.
وفي اليوم الثاني أعيدت الكرة من الجماعة نفسها والتكتيك والمكان نفسه، وكان من يُقدِّم القهوة يعمل في الأمن. قالوا: أستاذ الجواهري، البارحة قلنا لك كذا، ونحن عند كلمتنا، وهي الحقيقة الكاملة، ولكن هناك شيئاً إضافيًّا، ونستطيع أن نختلي بك، قلت لهم: اسمحوا لي أن أقول لكم: إن هؤلاء نفسي وهم مؤتمنون معي ومعكم على كل كلمة.
فنزل الرجل عند إرادتي، وكان ذلك مجازفة منهم ومغامرة من السفارة، فأتوا إلى غرفتي الخاصة، حيث كنا في حديقة الاتحاد في شهر شباط عام 61م، وقال: الأستاذ الجواهري، البارحة قلنا لك كذا وكذا، وهو الصحيح، لكن هناك شيئاً آخر، عندنا علم اليقين بأنك ستُصفى جسديًّا، فالآن لك ما تقول. كأنه يقول: لقد اضطررتنا اضطراراً أن نقول لك السبب.
وأنا في الحقيقة فوجئت من المسألة، وكان يجب أن أحسب حساباً، ولكن ما لم يدر بخلدي ذلك، فقلت لهم: هذا يعني أن المسألة أصبحت بلا عنتريات، وتتطلّب موقفاً حاسماً.
فقلت: أشكركم كثير الشكر، أمهلوني إلى غدٍ لأرتب أمر الحصول جواز السفر، خصوصاً وأنه عبدالكريم قاسم لا يريدني أن أخرج من العراق، وإذا خرجت لا يدعني أستقر ولا عائلتي ولا أولادي، فبطريقة وأخرى استخرجت جواز السفر، وخرجت متجهاً إلى ألمانيا، ولا أعرف كيف بدلت وجهتي إلى براغ، حيث كانت الطائرة تحطُّ في براغ ومنها إلى ألمانيا، بجايش نسميها بالعراق، يعني حصل تبديل اضطراري. وفي براغ جاء اتحاد الأدباء ليستقبلني.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، من (بريد الغربة) إلى قصيدة (أرح ركابك)، هل بالإمكان أن نتحدَّث عن عودتك إلى العراق بعد المحاولات التي حاولها -مثلاً- الفريق صالح مهدي عماش حينما كان نائباً لرئيس الوزراء العراقي ووزير الداخلية هناك؟ وماذا تم بعد عودتك بالعراق الذي حيّيتها بقصائدك الجميلة؟
محمد مهدي الجواهري: يمكن تلخيصها بسهولة، فقد حدثتك عن سفري إلى براغ واستقبال اتحاد الأدباء لي، الذين يستحقون الشكر لأنهم أكرموني بما لا مزيد عليه، ومن ذلك أن العلم العراقي في الغداء والعشاء يوضع أمام المائدة، فبقيت هناك وامتدّت حركة الدفاع عن الشعب العراقي التي كنت رئيسها، وكان لها ذات أثر في العراق بشكل كبير، وكان يصل كل شيء من عدنا للعراق في زمن عبد السلام عارف بعد كريم قاسم، الذي قُتل وأنا في براغ، فبقينا هذه المدة في راحة بكل معنى الكلمة، وكان الوضع في العراق لا يعجبني حاكماً ومحكوماً، ولكن بعض الإخوان مثل ذي النون أيوب، والدكتور فيصل السامرائي، وكريم الجليل، وصلاح خالص وأمثالهم، رجعوا إلى العراق بعد تبدُّل الوضع، وأحضروا طلباً كانوا قد قدّموه للحكومة بعد أن استجيب لطلبهم، وأرادوا مني أن أوقع عليه، فرفضت التوقيع، وقلت لهم: لا أوقع، فأنا لا أريد العودة للعراق بطلب مقدّم بشفاعة، مع هذا نُشر الطلب في مجلة الآداب اللبنانية واسمي الأول كستار وغطاء، باعتبار أنه طالت مدة إقامتنا، وهناك سماح لنا بالعودة، هذا هو بيانهم، فكتبت تكذيباً له، في أكثر من جريدة لبنانية، وقلت فيه: هذا كذب، أنا لم أوقع، ولن أعود إلَّا عندما يطلبني شعب العراق، ولست أطلب هذه العودة. وفعلاً بقيت مدة حتى حدث انقلاب تموز، فجئت إلى السفارة العراقية، وكنت لم أذهب إليها ولا مرة واحدة من قبل، فقيل لي: هناك برقية لك.
محمد رضا نصر الله: هذا بعد انقلاب أحمد حسن البكر وصدام حسين؟
محمد مهدي الجواهري: هناك برقية من الفريق عماش نائب الرئيس، أتلوها عليكم، تقول: إن الوطن بحاجة إلى شاعر الوطن، فنرجو حمله على العودة وكذا.
لذا تبدل الوضع في نظري، وأصبحت القضية إذا لم أرجع فسأكون عند الناس غير لائق، وتنقلب الآيات، ويُصبح الأمر وكأني أُفضِّل الغربة، فعدت إلى العراق.
والقصيدة التي تفضَّلت بذكرها لها علاقة بردّ الزيارة للفريق عماش في اليوم الثاني أو الثالث من العودة، فسألني سؤالك هذا: ماذا أعددت؟ وبالمناسبة كانت الصحف قد نشرت أن حفلاً تكريميًّا شعبيًّا ورسميًّا سيقام لفلان.. إذن وفي زيارة ردّ الجميل إلى الفريق عماش سألني هذا السؤال، فقلت له صادقاً: عندي -أبا هدى- أربع أو خمس أبيات من قصيدة لكنها أصبحت في جيبي لأني واثق منها، قال: ما هي؟ قلت له:
أرح ركابك من أينٍ ومن عثري كفاك جيلان محمولاً على خطر
كفاك موحش درب رحت تقطعه كأن مغبرَّه ليلٌ بلا سحر
ويا أخ الطير في ورد وفي صدر في كل يوم له عش مع الشجر
قصيدة جميلة، وهي واحدة من عشر قصائد من مجموع حياتي أفتخر بها، فـ(أرح ركابك) شيء عظيم، بالمناسبة أحياناً أصفن مع نفسي: من يقول هذا وأمثاله كيف يضيق به البلد؟ وكيف يعيش متغرباً؟ إنه سؤال محير.
محمد رضا نصر الله: فماذا حدث بعد الحفلة التكريمية؟
محمد مهدي الجواهري: لم أنتبه إلا فريق عماش يفتح الدرج ويخرج قلماً وورقة ويكتب الأبيات، فظهر أنه يوم الحفل استمع للقصيدة لكي يقول قصيدة أخرى على وزنها، وهي في ديوانه موجودة، وإذا به يرحب بي شعراً -أيضاً- غير النثر، كان حفل تكريم كبيراً، ضمَّ وزراء وممثلي الأحزاب الشعبية.
ــــــــــــــــــــ
* عنوان الحلقة على يوتيوب:
مقابلة محمد مهدي الجواهري مع محمد رضا نصرالله في برنامج (هذا هو) عام 1994م _ الجزء الأول.
* مــدة الحلقة:
43:45
* رابط الحلقة على يوتيوب: (هنا)
مقابلة محمد مهدي الجواهري مع محمد رضا نصرالله في برنامج (هذا هو) عام 1994م _ الجزء الثاني.
* مــدة الحلقة:
31:37
* رابط الحلقة على يوتيوب: (هنا)