عندَما تحَدّقِ المنايا بأنفُسنا

لا أدري ما الذي جعلني أختار موضوعاً للكتابة حول إحداق المنايا بالنفوس، مع أننا مقبلون على الحياة ما وسعتنا الحياة، لا نفر من معتركها، ولا نهرب من أحداثها؟

الواقع أن الذي جعلني أتجه هذا المتجه الآن هو ما حدث ويحدث لنا هذه الأيام من مصائب ومنغصات نتيجة ارتفاع حالات الوفيات التي أصبحت شبحاً مخيفاً يثير شجون النفس، عكرت علينا صفو الحياة، شعرنا بأن الحياة ضيقة، مقلقة، متعبة، مليئة بالعبثية، والتعاسة، وفقدنا الطمأنينة والسكينة والهناء، فهذه الدنيا قصيرة الأمد، محدودة الأمل، معدودة الأيام، ستنقضي مهما طال بنا العمر أو قصر.

لكن ما يجب علينا فعله هو أن تكون لدينا الرغبة في الحياة، بينما تلك المعوقات تحول بيننا وبين ما نبتغيه، فنستسلم لها، نعم الغاية التي من أجلها سطرت هذه السطور التي تئن وتوجع، آلمني ما يحدث من وفيات كورونا الذي تجاوز الـ 60 نفساً في هذا الشهر فقط، ونحن في يوم 26 من شهر ذي الحجة الحرام لسنة 1442 هـ، دفعني ذلك إلى التوقف والمراجعة والنظر إلى سلوكياتنا المخيفة، فإن بقينا على هذا الحال، سنخسر حياتنا.

هل فكرت في ماهية الموت ولماذا تغادرنا الأشياء الجميلة هكذا؟

إنكم لتعلمون أن الموت – وهو الحق الخالد – مضروب على الأحياء، وقدر مكتوب لا يستطيع أحد الفرار منه، وأن لكل مخلوق إلى خالقه مآباً، وأن لكل أجل وإن تطاول كتاباً، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة الحديد، الآية: 22].

وإنني لأومن أن الفراق فيه لوعة عارمة، ومشقة قاصمة، فاستعينوا عليه بما تطيقونه من تماسك وتحمل وصبر، ولكننا أُمرنا أن لا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة.

ما أقسى الحياة حينما تسرق منك الأحبة والصدور الحانية، لحظات مؤلمة ومفجعة تمر علينا هذه الأيام، مفجعة القلوب والنفوس بفراق الأهل والأحباب، مسرعة بذهاب الأصحاب والأخلاء، نختزن في مهجنا الفواجع والمواجع، استقبلناها بالصبر الجميل.

آلمنا رحيل كوكبة من الأخيار المؤمنين المخلصين الصالحين المتقين، ما أشدُّ حسرتنا عندما نتذكر تلك الوجوه المشرقة المضيئة، ليس لدينا سوى مشاطرت ذويهم الأحزان، والآلام، والهموم، فرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: “من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”.

رحلوا عنا وهم ما زالوا في مقتبل العمر أو في قمة العطاء أو دورهم الكبير في خدمة مجتمعهم والنهوض به، خطفهم الموت دون مقدمات أو مرض، هذا يعني أن نهيئ أنفسنا لمواجهة المصائب المفجعة التي تتقاذفنا من كل حدب وصوب.

لقد خانتنا الأقدار بعد أن اطمأن قلبنا إليها، وظننا أن خيوط السعادة تتدلى من ظلمة الليل البهيم، وإذ بهذا الأمل يتحول إلى سراب، فقد ضاقت علينا المسالك، وانقلبت حياتنا رأساً على عقب، سلبت منا الأفراح والسرور، وتجرّعنا الحسرات والأسى، ثقيل الواقع على القلب، أصبحت أرواحنا رخيصة، بتنا نتصفح عبر قنوات التواصل المحلية وفيات من جميع الفئات العمرية تضم الطفل والشيخ والمرأة والشاب والمريض، وبأعداد ما كانت تصل إليه من قبل، نعرفهم أو نعرف عائلتهم دون أن تحدث لنا تلك المصائب والمنغصات صدمة تغير فينا كل نقاط ضعفنا أو أخطائنا؛ لِمَ كل هذا البرود في مواجهة الفشل!

فهل لا ننتبه إلا عندما تحدث كارثة؟ وهل هانت أرواحنا إلى هذا الحد؟!

لسنا في مجال فتح الدفاتر والتحدث عن الحماقات التي ارتكبت، والوقت لا يسمح بالنقد، الكل منا عرف واجباته الدينية والإنسانية، سئمنا النصائح الكلامية والدروس الأخلاقية أو الفلسفية، لقد كُتب وقيل الكثير، ولسنا بحاجة لقبول المزيد، ضاق بنا الخناق، ومن الصعب عليّنا الآن أن نأتي بجديد، وكل الذي نطمع إليه هو أن نساهم على الأقل بآهة ألم نضمها إلى كل آهات الذين تألموا ويتألمون لفقد عزيز راح في لحظة غاب فيها العقل والمنطق والضمير، فموت الأم أو الأب هو موت البيت بأكمله، موت الحياة والحيوية والنماء، والنظام الثابت ذو النسق العائلي المتين.

قد تنفجر النفس بالبكاء، وتجود العينان بالدموع، وتظل لأيام وشهور وسنين، وحتى الضحكة والابتسامة المشرقة التي تنعم بها العائلة قد ماتت أو لن تعود كسابق عهدها، هذا هو واقع الحال، قد ثبت أن النصح والإرشاد والكلام لا ينفع – للأسف الشديد – مع بعض المتلصصين للحياة الطيبة، أخطاء كثيرة وقاتلة نتيجة الاستهتار دون خوف أو مبالاة!! فكيف السبيل إلى مجابهتها وتفاديها؟

نحن اليوم بحاجة إلى تغيير أنفسنا، فالثمن سيكون باهظاً جداً، المسألة حياة أو موت، الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن نرمي أنفسنا في التهلكة، وسيعاقبنا لأننا قصرنا في حماية أنفسنا وأرواح الآخرين.

الاستعانة بذوي الخبرة والعلم من أطباء ومختصين ورجال دين وكتاب ومفكرين وبعض ممن يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة من أجل الوصول إلى مخارج وحلول تخلصنا من التحديات والمخاطر المحدقة واللحظات القاتلة، فقد تحدثوا وحذروا مرارا وتكرارا بكل صدق وصراحة، بحسٍ ربّاني وإدراكاً بالمسؤولية، وجدنا فيهم نبرة صوت كسيرة ملؤها الحزن والأسى – هذا صعب – لعلّ في ذلك بارقة أمل للخروج من هذه المحنة، وتغيير السلوكيات المدمرة.

حقاً إنها مهمة صعبة، لكن ماذا حدث لنا؟ حدث لنا أمر مروع وغلبنا قهرٌ عظيم، إنه أقسى بلاء يصيبنا، فثلث الوفيات خلال شهرين حسب الإحصائيات المسجلة بسبب جائحة كورونا، هذا العدد لم يسجل مسبقاً، لذا استدعى منا التوقف والمراجعة، أصبحت حياتنا قاسية، جافة، لا طعم لها، علامات الحزن والانكسار بادية على قسمات وجوهنا، ما زلنا نسير في مسار خاطئ تماماً، فقد الأحبة حفر لنا أخدوداً من الأوجاع، طغت على حياتنا، ورياحاً من الحزن خيّمت على معظم بيوتنا، وسلبتنا الحيوية والحياة، فكم من بيت رحل عنه ساكنوه، وخلف لذويه الدموع والآهات واللوعات، وأبقاهم في حالٍ بائس يتجرعون المرارة والقسوة.

وما زالت رياح الحزن تواصل هبوبها، فكل شيء بدا موحشاً كئيباً، تلك الوجوه التي قضينا معها أسعد الأوقات وأجمل اللحظات، في أدوم السرور، عاشت بين ظهرانينا لن نراها ثانية ولن تعود، فقد يئسنا وفقدنا كل منافذ الراحة والابتهاج، لا بادرة أمل تلوح لنا من قريب أو بعيد ولا ومضة نور تسطع في سماء حياتنا المظلمة لتزيح عنها غمائم العتمة والسواد القاتم، لكن الله سبحانه أعظم من أن يصيب عباده بالآلام والأحزان عبثاً لا شك أن له حكمة، عين الله سبحانه الرحيمة ترى الخفايا “يا صاحب الألطاف الخفية الطف بنا في هذه الكربة العظيمة”، هذه إرادة الله عز وجل لا أحد يستطيع الاعتراض على قضاء الله وقدره، فالإمام زين العابدين (عليه السلام) يدعو “اللهم رضني بقضائك حتى لا أحب تأخير ما عجّلت ولا تعجيل ما أخّرت لعلمك بعاقبة الأمور كلها”، فكل الذي حدث ويحدث وسيحدث هو في عين الله تعالى، بعينه ورحمته، نسأل الله عز وجل أن يحفظنا ويجدد آمالنا ويفرج كربنا بعينه التي لا تنام.

لا نملك بعد ذلك إلا اللجوء إلى حصن الله تعالى بالدعاء والمناجاة، وهما أروع الهبات الإلهية وسلاح المؤمن في الأزمات والمحن، ويصدّان عنا عواصف الفراق العاتية، نسأل الله عز وجل أن يرفع عنا البلاء والوباء برحمته وقدرته، اللهم الطف بنا.

فماذا بقي أمامنا سوى الأحزان والدموع!! أدعو الله وتدعونه معي أعزائي القراء الكرام أن يتغمد من فارق الحياة من الأخيار السعداء، بوافر رحمته ويسكنهم فسيح جنانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي