منى القاسم سيدة فاضلة تسكن مدينة سيهات تأثرت كثيرًا بسلوك والدتها في حبها ورعايتها للحيوانات الأليفة، ودفعها تأثرها إلى المحاكاة بمبادرة أوسع تقوم على جمع ما يتبقى من وجبات من مطاعم بلدتها وتقديمها للقطط التي تنتظرها كل ليلة عند متنزه سيهات في ذات المكان والزمان.
ذكرتني هذه السيدة بسيدة من جنوب لبنان تسكن قرية ياطر الجنوبية، قرأت عنها في كتاب بعنوان “إلى طالب العلم” لمؤلفه الشيخ علي الكوراني – سلمه الله.
كان آية الله المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين -قدس الله روحه- صاحب المواقف والمؤلفات الشهيرة، من بينها كتاب المراجعات والنص والاجتهاد وغيرها، رأى في النوم بيته في الجنة وإلى جانبه بيتاً أجمل منه فأعجبه، فسأل لمن هذا البيت؟ فقيل له: لخاتون الورد!
فسأل يومها هل عندكم امرأة اسمها “خاتون الورد”؟ قالوا نعم سيدنا، إنها تعيش في بيت صغير، معروفة بأنها ترش الحبوب للعصافير في بيتها، وفي الصيف الحار تأخذ الماء إلى تجاويف الصخور في البراري لتشرب منه الطيور والحيوانات!
وكانوا يشاهدونها وهي تحمل كوز ماء تحت منديلها حتى لا يُسخر منها، وهي ذاهبة في الحر إلى البر، فيقولون لها: يا خالة إن هذا الماء الذي تتعبين وتضعينه في الأْجَرانِ، تشرب منه الحيات! فقالت إنها ذات رَوح يا ولدي!
في الشتاء كذلك وعندما ينزل الثلج تجمع ما تجده من طعام وخبز وتذهب به إلى تلة مشرفة على الوادي، فتجتمع إليها الواوية (الثعالب) فتضع الطعام أمامهم ويأكلون أمامها، وقد يطمع بعض الثعالب في سهم غيره، فتقول له: أنت أكلت سهمك ، رُح، فيذهب!
فقال السيد خذوني إلى بيتها، ذهب وزارها، وسألها عن أحوالها، وبشرها، وطلب منها الدعاء!
الرحمة والحنو غريزة أصيلة في وجود الإنسان كما البغض والعداء، يقول تعالى: {ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
الأسرة والثقافة التي يتشربها الفرد في محيطه الأسري التربوي والاجتماعي تعزز أحد الجانبين “الخير أو الشر” فتسمو به نحو معالي الأمور أو تأخذه إلى سفاسفها وتسقط بها إلى مهاوي الشقاء والعناء.
يقول أبو العلاء المعري:
وينشأ ناشئُ الفتيان منّا
على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن
يعلمه التدينَ أقربوه
السلوك العفوي الذي يمارسه الوالدان داخل المنزل والمعلم في المدرسة والإمام والخطيب في المسجد والحسينية، وأفراد المجتمع فيما بينهم يترك تأثيرًا كبيرًا في تقويم السلوك وتهذيب النزعات أبلغ من عشرات الخطب الرنانة والكلمات المنمقة، دون أن يقلل ذلك من دور الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ”.
طبعاً لا ينبغي أن يفهم من هذه الرؤيا الصادقة التي جاءت على شكل بشارة من هذه الشخصية الإيمانية والتقوائية، أن هذا العمل النبيل وإن علا شأنه وجلت منزلته يفضل دور العالم العامل الذي يفني عمره ويجهد نفسه في نشر الدين وحفظه والترويج لمبادئه والذب عنه فإن “مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء” ولا يعدل جهود الباحثين والأطباء المخلصين لله تعالى فيما يبذلونه من جهد ويقدمونه من عطاء لإنقاذ أرواح الناس من الأمراض الخطيرة الفتاكة “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”.
ولكنه تنويه لقيمة الحب والرحمة في الإسلام ورسالة واضحة تضعهما على رأس قائمة العبادات التي تقرب العبد من ربه وتدنيه إلى مرضاته وتؤهله للفوز برحمته، لما ورد عن رسول الله “صلى الله عليه وآله”: إنما يرحمُ اللهُ من عبادهِ الرحماءَ.
في سيهات.. منى القاسم تنقش الحناء وتصنع البهارات.. وعند المتنزه تحمدُ القطط سراها (هنا).