أن تشكر نعمته

الغذاء شيء لا بد منه لكل كائن حي إنساناً كان أم حيواناً أم نباتاً، وهناك من يعيش من أجل أن يأكل والنتيجة بدانة وشهيق وزفير وشخير، وآخرون يأكلون أو قل يتغذون من أجل أن يعيشوا، وهؤلاء لهم خفة ورشاقة وصحة.

وديننا الإسلامي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في الغذاء إلا وتحدث عنها، هذا الدين ومن خلال تعاليمه السمحة أشار إلى الغذاء ومصادره، وأنواعه، وطرائق الاستفادة منه، والتعامل معه، وفصل فيه الحلال والحرام منه، وهذه التوصيات جاءت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة والتي تعتبر أهم المصادر، فقد جاء في القرآن الكريم {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (سورة الأعراف، آية31)، يعني التوسط، لا جوع ولا شبع شديد، ولو تتبع كل إنسان ما ورد في المصادر الإسلامية حول الغذاء، لما احتجنا إلى المشافي والمستشفيات والوصفات الطبية والدوائية، وقد لا نحتاج حتى إلى بعض التمارين الرياضية الشاقة، فسنكون أكثر قوة وسنشعر بطعم الحياة ألذ وأطيب.

من غرائب ما نعيشه ومفارقاته في هذا العصر أننا نأكل تلبية لحاجة البطن، نأكل كثيراً لأننا تعودنا دائمو الشبع، إحدى مصائبنا الغذائية التي تجعلنا في أحضان “المعمعة” الدوائية، سبباً من أسباب التحول المترف، فهل حدث لدينا انقلاب غذائي كبير تتجاذب أطرافه معطيات الحياة الثرية بكل نعم الغذاء الظاهرة العامرة على موائدها؟

هذا السؤال يتبادر إلى الذهن كلما وقفنا أمام أصناف الطعام العديدة التي تقدم على مائدة الطعام، تمر عليها الأيدي مرور الكرام، وصار مألوفاً في مجتمعنا أن نرى أكلات الثراء في حاويات القمامة والمزابل، لم يكن غريباً أن نرى الجوعى والفقراء من يطلبون بعض ما يأكلونه أو يطعمونه من يعيلون في تلك الأماكن حيث تعاف النفوس الاقتراب وشم رائحتها، نعم ليس في هذه الهمجية القاسية التي تعيشها شعوب كثيرة بكل تفاصيلها المأساوية تجرب ما هو أقصى فيما أُكرهت عليه من حبسها على ما لا يبقي الحياة إلا بلقيمات تسألها أو تتلقطها من على قارعة الطريق مما يطرحه فقير الناس وغنيهم في مزبلته.

إنها لمفارقة غريبة، سبب من أسباب التحول في طرائق التهذيب في الأكل وفصلاً من فصول التحضر، وربما اختصرت المراحل التي تمتد بين الجوع والإشباع وبين القهر والظلم فصلاً هاماً من فصول التحول من قصة الجوع إلى واقع الثراء الغذائي.

قبلاً، كان الناس يطلقون على الطعام النعمة، هذه النعمة احتلت مساحة واسعة في ذاكرة أجيال عديدة، هم يتذكرون الطريقة التي تعاملوا فيها مع الطعام، ابتداءً بالتسمية قبل الشروع في تناول الطعام، كانوا لا يتجرأون حتى على إهمال حبة رز أو كسرة خبز يابسة ساقطة على الحصير أو السفرة، يتناولونها فهم يفعلون من باب أنها نعمة الله، انطباع يعكس فصلاً من فصول التحضر الإنساني، وعلامة من علامات آداب تعلم الناس كيف يأكلون ويشربون وبالتالي يحمدون ويشكرون الله على دوام النعمة وحفظها من الزوال ويقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لقد كان مذهب الناس في مأكلهم آنذاك ألا يزيدوا على ما يقيم الأوَد من غير أن يتكلفوا.

اليوم ومع زيادة القدرة الشرائية والإسراف في الاستهلاك أو البذخ، بدأت الأمور تفلت من عقالها، وعلت الأصوات المطالبة بالاستهلاك الرشيد وعدم التبذير، والتصرف بشكل لائق واحترام النعمة أثناء تناولها.

لقد تبدَّل حال الناس في مجتمعنا، حيث أصبحوا يُنفقون المال لإصلاح الخلل في أجسادهم من فرط تناول الغذاء، صحيح أن هناك عائلات بدأت تراجع نفسها وسلوكياتها وانماطها الحياتية وتقف عند تطورات دخلها المالي وكيفية الاقتصاد، وبالتالي تنويع قاعدة الثقافة الغذائية، هي فترة مراجعة وتدوين وتأمل وتحول نفسي وفكري، نأمل أن تعم تلك الثقافة جميع مجتمعنا التي بدأت ملامحها تظهر ولله الحمد.

نحكم عقلنا أكثر، اليوم بحمد الله النعمة لا تزال بين أيدينا، نحافظ عليها ونحترمها – نشكر الله عليها – ولا نسمح بالبذخ والإسراف يتسلل داخلنا، حتى لا نصل إلى مشكلات لا تحمد عقباها، نحرص على شراء ما نحتاجه من منطلق المحافظة على النعمة، فهذا سلوك حميد وباب يطرح الله عز وجل من خلاله البركة في الطعام، لا يزال بعضنا يقوم بشراء كميات كبيرة من الأغذية ويخزنها لمدة طويلة، وقد تفقد فوائدها الغذائية بسوء تخزينها، وفي نهاية الأمر يصبح مصيرها حاويات القمامة والمزابل، مشهد يصعب علينا رؤيته، عادات خاطئة وممارسات سيئة وهمجية قاسية.

عملية استغلالنا للتخفيضات المغرية والعروض الترويجية، قد تكون خاطئة، فمجرد أن نرى شعار التخفيضات نسارع إلى وضع المنتج الغذائي في عربة التسوق دون التأكد بصلاحيته أو قيمته السوقية أو حتى حاجتنا إليه، فنشتري كميات كبيرة، وقد لا نحسن حفظه في ظروف صحية لفترة طويلة أو حتى ننسى استعماله لأننا اشتريناه استغلالاً للسعر وليس للحاجة إليه.

يجب علينا أن نتوخى الحذر عند التسوق لتفادي الانسياق وراء إغراءات الخصم وعلاقتها بالثقافة السوقية!!

أمر ما زال يجذبنا للماضي العلاقة بين الولد وصحنه، فمائدة الطعام عززت كثيراً الترابط بين أفراد الأسرة، وسمح للوالدين بتلقين الأبناء آداب المائدة، وتعليمهم كيف يحافظون على العادات الصالحة وخصوصاً في طلب الطعام وحساب المقدار الذي يحتاج إليه، حتى لا تنمو في داخلهم نوازع الترف والإسراف.

“أكمل صحنك” هذه العبارة سمعناها عشرات المرات على مائدة الطعام، وإن كان في شكله يعبِّر عن حرص الأب والأم على أن يتناول الابن المزيد، إلا أنه في أساسه يمثل تدريباً يومياً على ألا يضع في صحنه ما يزيد على حاجته الفعلية، وبالتالي يصبح أكلاً يُلقى في سلة المهملات.

يقول علماء الاجتماع: نحن في حاجة إلى تربية الأجيال على المبادئ والأخلاق القويمة لمواجهة تحديات العصر والانفتاح، نعم لقد انفتح العالم وأصبح قرية واحدة تعج بما لذ وطاب مع غياب الوعي والتربية الغذائية غذونا نشفق على أنفسنا وأجيالنا القادمة من مشكلات الإسراف والإفراط في المآكل والمشارب، أما علماء الغذاء والتغذية فيقولون نحن في حاجة إلى تربية الأجيال على الصحيح في ما يأكلون ويشربون، أما المشرع الإسلامي فيقول الإسراف والبذخ أمر لا يحبه الله، وقد جعل سبحانه وتعالى عدم الإسراف وحفظ النعمة عبادة يثاب عليها المؤمن، نحن بحاجة إلى توعية غذائية صادقة، نعم نحن بأمس الحاجة إلى التركيز على السلوك الغذائي الصحيح، نساعد بالقدر المستطاع أن نصنع من عادات الغذاء، ما يغنينا عن الدواء، أسأل الله تعالى للجميع الاستغناء عنه.

وأخيراً، لنبدأ من حيث انتهى آباؤنا الأولون في غيرتهم على النعمة، واحتفائهم بها، واحترامهم لها، مع شيء من التطوير في آلية تعليمها جذْباً للناشئة وترغيباً لهم لا ترهيباً!

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي