هو أحد أبناء الجيل الذي حفر بعطائه وإبداعه وضعًا أدبيًّا مذهلًا، وجرأة فنية لا نستطيع في الواقع الآن أن نغامر فنقول: إننا نحقّقها، هو مؤرخ مكة العلمي والعمراني المعنوي في ذلك كله، والمثقف الأريب بكل معنى الكلمة، هو صاحب المجموعة القصصية (خالتي كدرجان)، و(قال وقلت)، و(تاريخ مكة)، و(دعونا نمشي)، و(فلسفة الجن)، و(يوميات مجنون)، وغيرها من المؤلفات، إنه الأستاذ الكبير والأديب المعروف (أحمد السباعي)، الذي يمكننا أن نقول عنه: إنه جيل بأكمله. وفي هذه الحلقة من برنامج (الكلمة تدق ساعة) مع الزميل، الكاتب والإعلامي محمد رضا نصرالله، قدّم السباعي بعضًا من سيرته ومسيرته، محاولًا في ثنايا حديثه أن يكشف لنا بعض جوانب شخصيته والكثير من أفكاره ومعالم رؤيته.
الخطوة الأولى
محمد رضا نصر الله: نودّ أن نبدأ الحديث معك من الخطوة الأولى وكيف قطعتها في ميدان الأدب والمواجهة الاجتماعية؟
أحمد السباعي: بدأت في عهدنا أول ما بدأت المدارس الابتدائية أو شبه المتوسطة، وليس أكثر من ذلك، ولم يكن بيننا من يُعنى بالأدب بوصفه فنًّا، صحيح أننا كنا نحفظ بعض المحفوظات العربية، لكنها كانت مجرد محفوظات بسيطة، وعندما استأنفت حكومتنا السعودية فتح المدارس من جديد، كان الأوان قد فاتنا، فاضطررنا أن نقنع بما تعلمناه في مدارسنا التي كانت أشبه بالكتاتيب، ولكني تعلَّقت بالقراءة بشكل مجنون، حيث قرأت كثيرًا جدًّا، ثم غزتنا كتب لبنان ومؤلفات مصر، فمضينا نتابع ما ينتجه إخواننا العرب حتى شغفنا وزاد الشغف وكانت النتيجة أننا بدأنا نكتب، وهكذا بدأت قصتنا مع الأدب والكتابة.
أولى محاولات النشر
محمد رضا نصر الله: لو بدأنا مع مشوار التأليف، فنحن نعرف أنك قد بذلت مجهودات كبيرة، وربما تكون هذه المجهودات بمثابة اللبنات التي انطلقت منها لتشييد البناء الأدبي المنتظر، فلو تحدثنا عن رحلتك مع التأليف.. فماذا تقول؟
أحمد السباعي: في حواشي موضوع التأليف ما يَضحك، فأنا أذكر عندما كنت في المدرسة الابتدائية كنت أقرأ (رأس الغول) وكتاب (سيف بن ذي يزن)، فكانت هذه هي الكتب التي لا يعرف جيلي غيرها، وكنت إذا قرأت أجد أشياء يبدو لي أنها ضرورية للفهم، ومن الضروري أن أنفع بها غيري، إذ كان يتراءى لي أن غيري لا يدري عنها شيئًا، فكنت أعمد إلى فرخ من الورق وأطويه لعدة طويات، وأنقل فيها من الكتاب ما أظن أنه مهم وسينفع غيري، ثم أذهب إلى الطوية الأولى وأكتب عليها اسمًا للكتاب المصغر ثم “تأليف الشيخ أحمد السباعي”، رغم أنه لم يكن هناك من تأليفي شيء سوى النقل بالحرف الواحد من الكتاب الذي قرأته.
لاحقًا؛ برزت على السطح جماعة من الأدباء، كان على رأسهم الشيخ محمد سرور، ثم الشيخ عبدالوهاب آشي، والأستاذ محمد حسن فقي، والأستاذ سعيد العامودي، وفي هذه الأثناء شعرت بأنني بحاجة لكي أكتب، فكتبت وكتبت ولكني لم أترك أحدًا يطلع على ما كتبته، كما لو أنني كنت خائفًا، وأخيرًا تيسَّر لي أن أجمع كل ذلك في كتاب، وأذهب به إلى الشيخ محمد سرور الصبان وأطلب منه أن يطبع هذا الكتاب، فأخذه مني وبقي عنده عدة أيام، وعندما راجعته سألني فيما إذا ما كنت مصممًا على طبعه، فأخبرته برغبتي في ذلك، فسألني عن اسم الكتاب، فطلبت منه أن يختار له اسمًا، فقال أختار أن تسميه (حبر على ورق)، وكأنه أراد مني أن أفهم شيئًا، ولكن بلادتي أبت عليَّ أن أفهم، وقبلت تسميته، وسألته عن رأيه في طبعه، فقال: إنه مستعد لذلك، وعرضت المساعدة في ذلك وكانت تكلفة الطباعة حينها تكلّف 20 جنيهًا مصريًّا، وقد ساهمت بـ 10 جنيهات ودفع الشيخ محمد باقي التكلفة، كي يخرج الكتاب ويرى النور.
مضت أشهر وأشهر؛ وكلما سألته عن كتابي، كان يطلب مني الانتظار، أخيرًا كانت لدي نية للسفر إلى مصر، فسألته عن اسم المطبعة وعنوانها هناك، وكان يديرها خير الدين الزِّرِكْلي، الذي وصلت إليه وسألته، وكانت المفاجأة.. حيث أخبرني أنه لم يصله أيّ شيء من الشيخ محمد سرور، فاستغربت الأمر وعندما عدت للشيخ محمد، فقال لي: إن الكتاب وصل عائدًا دون أن يُطبع، وحينها فهمت الأمر، فأخذت منه الكتاب والـ 10 جنيهات، وعدت إلى بيتي كسيفًا.
الانطلاقة في عالم الكتابة
محمد رضا نصر الله: وبعد المحاولة الأولى.. كيف كانت الانطلاقة؟
أحمد السباعي: كانت تصدر جريدة صوت الحجاز، ويرأس تحريرها الشيخ عبدالوهاب آشي، وكنت أقرأها كثيرًا، فأرسلت إليها في أحد الأيام مقالًا، لكن لم يُنشر ما أرسلته، ولكن بعد عدة أسابيع ترك الشيخ عبدالوهاب العمل لاختلافه مع صاحب الجريدة، وتولى بدلًا منه الأستاذ محمد حسن فقي، ويبدو لي أنه بعد تعيينه كان مضطرًا لإيجاد مواد ليملأ بها صفحات الجريدة، وأظن أنه قد وجد ما أرسلته في السابق، فنشره، وكدت أجنّ وأنا أقرأ أول مقالة لي يتم نشرها.
ثم تولى الأستاذ محمد سعيد العامودي رئاسة التحرير، وكنت قد كتبت شيئًا عن مدارسنا، حيث كنت أعمل معلمًا في بعض المدارس، وفي أحد الأيام قابلني الأستاذ العامودي في المسجد وسألني عن سبب التوقف عن الكتابة، وأخبرني أنه يتمنى لو أعاود إرسال كتاباتي للجريدة، فكانت تلك هي الانطلاقة القوية نحو مواصلة الكتابة.
فن القصة
محمد رضا نصر الله: كتبت المقالة الصحفية والمقالة الأدبية، وكذلك القصة، ورغم أن هذا الفن كان مستحدثًا في واقع تجربتنا الأدبية إلا أنك أنت والأستاذ الأنصاري كنتما أول من كتب القصة، رغم ضعف البناء الفني عند الأستاذ الأنصاري، إلا أنك بحكم اطلاعك على تجربة المهجريين وأساليبهم الجديدة، كنت أكثر تقدمًا منه، هل لك أن تحدثنا قليلًا عن تجربتك الأدبية بصورة أعمق؟
أحمد السباعي: بدايةً؛ يجب ألا ننسى أن الأستاذ الأنصاري كان أستاذنا، لكن ربما أخذ العلم منه نصيبًا أكثر من الفن، أما أنا.. فرأيي في القصة ربما لا يتفق مع رأي بعض الناس، فالقصة لا تنجح كثيرًا في بلادنا، وأن الشوك سيكون كثيرًا جدًّا في طريقها حتى نصل إلى الحد الذي يمكننا أن نطلق عليها قصة بالمعنى المطلوب، وذلك لأن بيئتنا بيئة محافظة، والقصة بحاجة إلى أشياء كثيرة مكشوفة أو شبه مكشوفة، وأقلامنا المحافظة لا تتفق مع هذا اللون.
فعلى سبيل المثال؛ عنصر المرأة بجميع نواحيه لا يمكن أن تعالجه في قصة صحيحة أو صادقة أو واقعية، فلا يمكنك أن تتحدث عن الواقع كما يقع، لأن هذه البيئة لا تقبل ذلك، وأنا أستغرب كتابًا مثل كتاب الأغاني للأصفهاني، حيث أجاز لنفسه من الألفاظ والمعاني والوقائع ما لا يجوز أن أكتبه اليوم، رغم أن الأصفهاني قد كتبه قبل عدة قرون، وأنا لا أدري كيف كانت البيئة تجيز له ذلك، واليوم بيئتي لا تجيز ذلك، هذا رأيي الخاص وربما لا يوافقني كثيرون فيه.
التأثر بأدب الخارج
محمد رضا نصر الله: من المعروف أن بعض أدباء منطقة الحجاز قد تأثروا بالتيار الأدبي في مصر وكذلك في المهجر، فهل كان الأستاذ السباعي من بين من تأثروا بالأدب المهجري؟
أحمد السباعي: نعم، وكنت أحيانًا أكتب فيظن من يقرأ ما كتبته أنها قطعة لجبران خليل جبران، فقد قلَّدته كثيرًا، ولكنني ما لبثت أن بعدت قليلًا قليلًا، وتأثرت في مصر بالمازني وفكري أباظة وطه حسين.
معارك الأدب
محمد رضا نصر الله: ماذا عن تجربتك وتجربة جيلك في طرح الأدب بوصفه فنًّا لمواجهة بعض القضايا الفكرية والمشكلات الاجتماعية؟
أحمد السباعي: في الواقع أنا لم أكن أتكلَّف، فأكثر المشكلات التي واجهتني كنت أكتب عنها دون تكلُّف، والشيء الذي لم أكن أستسيغه لم أكن أكتب عنه، وهذا أكثر ما استطعت أن أفعل بالأدب.
محمد رضا نصر الله: عن المعارك الأدبية في جيلك؛ نرى شبه انكفاء أو انسحاب منك، وكأنك تحاول أن تبتعد عن كل المعارك والخلافات، حتى في المعركة الأدبية الشهيرة التي بين الأستاذ العواد وحمزة شحاتة، فما تعليقك؟
أحمد السباعي: أستغرب لأمري، فأنا عشت بينهم وقرأت لهم كثيرًا، ولم أجد ميلًا للدخول معهم في أيّ شيء، حتى أن بعضهم قد انتقدني، لكني لم أجد لديَّ استعدادًا للرد عليهم أو أن أناقشهم، ووجدت أنه من الخير أن أترك هذا وأن أكتب في أيّ موضوعٍ آخر، ولا أعلم إذا كانت هذه مسالمة أم ماذا، لكن هذه هي طبيعتي، ولهذا لم أشارك قط في الجدال مع أحد.
فكرة المسرح الأول
محمد رضا نصر الله: نعرف أنك أول من أطلق الفكرة بضرورة إنشاء مسرح في المملكة العربية السعودية، وأتذكر أنك أعطيت بعض المواصفات بأن يكون هذا المسرح إسلاميًّا، وأن يقدم الشخصيات التاريخية، فهل لك أن تطلعنا على هذه التجربة التي حاولت أن تثري بها أدبنا؟
أحمد السباعي: جاءتني الفكرة عندما تساءلت: لماذا لا يكون لدينا مسرح؟! لكن البعض لا يفرّق بين المسرح و”الكباريه”، فقد كان غرضي أن يكون المسرح بمثابة مدرسة، وأن يُمثّل فيه التاريخ والمجد الإسلامي والعظمة الإسلامية والوقائع الصحيحة التي نفخر بها، وقد فكرت في هذا ثم رفعت الأمر إلى الجهات العليا، واشترطت على نفسي ألَّا يُمثّل في هذا المسرح امرأة، وألَّا يدخل فيه إلَّا التمثيل الإسلامي البحت، إلَّا إذا كانت هناك قصائد شعبية أو مونولوجات هادفة.
وبعد موافقة الجهات العليا، تسلَّمت الأمر بالموافقة من إدارة الإعلام (لم تكن وزارة حينها)، ثم بدأت ببناء المسرح، ويمكن أن تراه من النافذة الآن فهو موجود حتى اليوم، وإن كنت قد أجَّرته منذ العام الماضي ليكون مستودعًا لأحد التجّار. وبعد بناء المسرح؛ فتحت مدرسة مسائية لتعليم فن التمثيل المسرحي، وكانت كل دفعة تضم 20 طالبًا، واستقدمت من مصر مخرجًا ممتازًا كان ممن عملوا مع الفنان المصري يوسف وهبي، واتفقت مع بعض الأساتذة المصريين المسؤولين عن مسارح المدارس هناك على القدوم وتدريس فن التمثيل، وخصصت لهم رواتبَ، وبدأنا في البداية نتدرب على مسرحية بعنوان (فتح مكة)، وكانت من تأليف محمد مليباري، وبعد أن انتهينا منها بدأنا في مسرحية ثانية عن (مسيلمة الكذاب)، وكانت من تأليف عبدالله العباسي، الذي كان يعمل في جريدة المدينة.
وعندما كدنا أن نفتح المسرح، وصلنا أن هناك مراجعات للموضوع، فاتصلت بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرحت طبيعة الموضوع وتوجهاته الإسلامية، وأن لدينا -أيضًا- تصريحًا من جلالة الملك، لكنهم قالوا: إن لديهم مراجعة مع جلالة الملك، وطلبوا تأجيل الموضوع، وتكرر التأجيل لأكثر من مرة، وأظن أن المحافظين كانوا قد تكاثروا رافضين لوجود مسرح في مكة، وفي النهاية تركت الموضوع بعد أن طال التأجيل، وأعتقد أنني اليوم لو كان لدي من النشاط والصحة ما يمكنني من العمل، لاستأنفت هذا الأمر مجددًا.
محمد رضا نصر الله: عندما بدأت تفكّر في إنشاء المسرح؛ هل كنت مطلعًا على تجارب مسرحية من بعض البلدان العربية، مثل مصر؟ وهل قرأت نصوصًا مسرحية أو قابلت شخصيات مسرحية معروفة، حتى يصبح عندك مثل هذا الحماس المتَّقد؟
أحمد السباعي: أنا ذهبت إلى الكثير من البلدان العربية، وخاصةً مصر، وكان أكثر ما تتوق إليه نفسي هي المسارح والسينمات الراقية، التي تقدّم عروضًا ممتازة، وخلال تلك الفترة لم يفتني أيّ عرض للأوبرا في مصر، وخلال أحد العروض المسرحية في مصر مع أسرتي؛ سألت أبنائي أسامة وزهير: لماذا لا يكون لدينا في بلادنا مسرح، بشرط أن يتفق مع توجهات بلادنا وشريعتنا؟! وعندما خرجت من العرض كنت مصممًا عند عودتي على تقديم طلب للجهات المسؤولة في بلادنا من أجل بناء المسرح.
وبخصوص النصوص المسرحية؛ فقد قرأت الكثير منها، وأغلبها نصوص مسرحية مترجمة، وأبرز من جذبوا انتباهي في البدايات كانت المجموعة التي شاركت في تجارب العروض الأولى لمسرحنا.
تاريخ مكة
محمد رضا نصر الله: لو تحدثنا عن “تاريخ مكة”؛ كانت لك وجهة نظر معاصرة وجميلة، حيث استطعت أن تدخل إلى دهاليز التاريخ ولكن بلغة مشرقة، وأظن أن بعض فصول كتابك كانت تُنشر في بعض الصحف حيث كنا نقرأها ونستمتع بها، ورغم أنك كنت تعالج موضوعات مهمة وصعبة، إلَّا أن أسلوبك كان يجذبنا، هل لك أن تحدثنا قليلًا عن قيامك بكتابة التاريخ بلغة أدبية وجذابة؟
أحمد السباعي: أنا عشقت قراءة التاريخ من بين ما عشقت من القراءات، وكنت أستغرب من أن مكة ليس لها تاريخ إلَّا القديم، هناك تاريخ الأزرقي، أو تاريخ الفاسي، أو من عاصروهم مثل العصامي أو ابن زهير، وهذا التاريخ لا يتصل بالعهود الأخيرة، ومع احترامي لجهودهم في ذلك إلَّا أن التاريخ قد كُتِبَ من خلالهم بشكل مختلف، وكنت أودّ أن يُكتب بشكل أفضل من هذا، لذا وجدتني في حاجة إلى قراءة كتبهم ثم قراءة التاريخ الإسلامي والبحث في أمور كثيرة لعدة سنوات، ثم توكلت على الله وبدأت في الكتابة.
وأذكر أنني قد ذهبت إلى مصر للاطلاع على بعض الكتب في مكتباتها، وذهبت كذلك إلى الأستانة، وبالرغم من التعب والإرهاق الذي أصابني من أجل “تاريخ مكة”، إلا أنني لا زلت أقول: إنني لم أكتبه حتى الآن، لأن تاريخ مكة -في نظري- بحاجة إلى لجنة، وليس شخصًا واحدًا، وأن يكون ضمن اللجنة من يعرفون اللغات الأجنبية، وذلك لأن مدن وبلاد أوروبا، وخاصةً إسطنبول، بها الكثير من الكتب عن تاريخ بلادنا، كما أن الكثير من الناس والرحالة ممن جاؤوا إلى مكة قد كتبوا عنها بلغات بلادهم.
في يوم من الأيام قيل لي: إن في اليمن كتابًا في مكتبة الإمام بصنعاء، وقد ألّفه رجل من أهل مكة، وكان هذا قبل الثورة الأولى (ثورة السلال)، ولكن السلطات لم تسمح لي بالدخول إلى صنعاء، فمكثت أنتظر إذن الدخول في الحديدة لنحو 10 أيام، وفي النهاية لم أستطع الدخول واضطررت للرجوع، وبعد عدة سنوات قابلت وزير خارجية اليمن في الرياض، وفاتحته في الأمر وعرضت عليه الفكرة، ووعدني بأنه سيمهد السبيل أمامي للسفر إلى صنعاء، وبالفعل نفذ وعده، وسافرت إلى صنعاء، وعندما سألت عن الكتاب، قالوا: إن هناك أوامر بنقل مكتبة الإمام إلى مكتبة الجامع الكبير في صنعاء، وعندما ذهبت إلى مكتبة الجامع الكبير أخبرني المسؤول عنها بأن كتب مكتبة الإمام لم تصل بعد، وأنها لا تزال في قصر الإمام، وكان القصر مغلقًا ولا يُسمح بدخوله، فوجدت في النهاية أني فشلت مرة أخرى، فعدت إلى المملكة.
محمد رضا نصر الله: لماذا كتبت التاريخ بهذه الطريقة الأدبية الجذابة؟
أحمد السباعي: كتبته بلغتي، وبما أعرف وأجيد، لم أستعر شيئًا من غيري كي أكتب به، فهذه لغتي وهذا أسلوبي في الكتابة.
محمد رضا نصر الله: لكن ألا تعتقد أن الكتابة الأدبية للتاريخ ربما تؤثر على بعض الحقائق فيه؟
أحمد السباعي: لا، فأنا لم أتصنَّع فيما كتبته، بل كتبت كما تعوَّدت أن أكتب وبأسلوبي نفسه، ويبدو لي أن الكتابة بهذا الأسلوب أسهل على القارئ، وهكذا قيل لي ممن قرأوا الكتاب.
الشعر الجديد
محمد رضا نصر الله: من المعروف عنك -أيضًا- أنك أحد رواد حركة التجديد في أدبنا، وذلك من خلال اسهامك بهذا الجهد الكبير في بناء أول مسرح سعودي وأول قصة سعودية، ولا شك أنه قد تبع ذلك موقف متجدد -أيضًا- بالنسبة للشعر، فما رأيك في الشعر الحديث والقصيدة الجديدة ومساهمات الشعراء الجدد في وضع خارطة جديدة للذوق العربي؟
أحمد السباعي: أرى أن مثل هذا يجب أن يُترك لتيار الحياة المستمر، وفي نظري فإن هذا اللون الجديد -وإن كان أكثره لا يصلح- هي دماء جديدة للشعر، ونحن قد اعتدنا أن نحارب كل جديد، فهذا الجديد إذا استطاع أن يصمد فإنه سيثبت لنفسه مكانته، وإذا لم يصمد فسينتهي، ويمكننا هنا أن نتحدث عن الشعر العمودي الذي نحن معتادون عليه الآن، أما الشعر الحديث قد واجه الكثير من الاستنكار، وربما قد حورب وجرى اعتباره بدعة.
بين جيلين
محمد رضا نصر الله: حينما كنت شابًّا، أنت وجيلك؛ لا شك أنكم تعرضتم لبعض الصفعات الاجتماعية، وجرت محاربتكم بسبب بعض الأشياء السائدة التي كانت ترى أفعالكم غير منطقية، فهل لك أن تحدثنا قليلًا عن هذا الجانب من حياتكم؟
أحمد السباعي: يوم نشأنا كنا أول شبيبة في البلد، ولم يُطلق لفظ الشبيبة من قبل سوى علينا، وجرى استنكار الكثير مما نفعل أو نكتب، كما أننا كنا ننتقد ذواتنا وبلادنا وأعمالنا، وكان شيوخنا يستنكرون هذا منا، وكان الشيخ منهم يقف ويقول في وجهنا: “حرام عليكم. فضحتونا لماذا تفعلون هذا بنا؟!”، وغيرها الكثير من هذا القبيل، وبالتالي فقد قاسينا الكثير في سبيل هذا، ونحن كنا بضعة نفر في مكة وبضعة نفر في جدة، ومن الملحقين بنا من الناشئة: الأستاذ حسين عرب، والأستاذ إبراهيم فودة، والأستاذ هاشم زواوي، والأستاذ طاهر زمخشري.
محمد رضا نصر الله: بعد هذا العمر المديد المخضَّب بماء التجربة، كيف ترى الواقع الأدبي والحضاري الذي كان جيلكم أصلًا لما هو موجود الآن؟ هل أنتم راضون عنه أم لكم ملاحظات عليه؟
أحمد السباعي: في ظل ما أعطاهم إياه هذا الزمان وساعدهم به التعليم، أنا أرى أنهم يجب أن يكونوا على حالٍ أفضل من ذلك، أما نحن والحمد لله.. فقد جئنا في أرضٍ جدباء وظروف صعبة، وكان حظنا من التعليم والصحافة والاتصالات ضئيلًا، لكن اليوم.. الفهم والتعليم والتواصل كثير، لكن الروح ليست هي الروح نفسها التي كنا عليها.
محمد رضا نصر الله: لا شك أنكم تتابعون ما يصدر من صحف وكتب وإصدارات في مختلف المجالات؛ فما هي رؤيتكم حيال تلك الحركة؟
أحمد السباعي: كما قلت؛ فإن الإمكانات المتوافرة الآن أفضل مما توفر لجيلنا بلا شك، كما أن أكثر الكتابات تدل على وجود الكفاءة، لكن الروح مفقودة، نحن كانت كفاءتنا أقل، لكن روحنا في السماء، بالرغم من عدم امتلاكنا للإمكانات، سواء العقلية أو المادية، وكانت الروح الموجودة بيننا تدفعنا لاستقبال الوفود القادمة إلى بلادنا باسم الشباب، كما كنا نحتفل سنويًّا بكبار الحجاج في منى، وعندما عادت أول مجموعة من الطيارين السعوديين تدربت في إيطاليا، نزلنا كشباب إلى جدة وحملناهم على أكتافنا وطوَّفنا بهم في شوارع جدة ومكة، وكنا نهتف ونخطب ونطالب بالتقدم والرقي والتطور.
في ميدان الصحافة
محمد رضا نصر الله: لك صولات وجولات في عالم الصحافة، ونحن نعلم حماسكم المثمر في هذا الميدان، فقد كنت رئيسًا لتحرير لجريدة صوت الحجاز، فهل لك أن تطلعنا على مسيرتك الطويلة مع الصحافة؟ وما مدى اهتمام تلك الصحف بالطابع الأدبي والمعالجات الاجتماعية؟
أحمد السباعي: في الواقع فإننا في الصحافة لم نكن نبحث بحوثكم اليوم نفسها، ولم تكن لدينا الكفاءة نفسها التي تستقبلون بها الموضوعات اليوم، فكل ما في المسألة هو أننا كنا كثيري الاجتهاد، ونريد أن نفعل كل شيء، رغم أن الكفاءة والإمكانات كانت متواضعة للغاية.
بالنسبة لجريدة صوت الحجاز، فقد أصدرها الشيخ محمد بن صالح نصيف، وقد أصدرها أول ما أصدرها يوم أن كان الشريف علي محاصرًا في جدة، وعندما فُتِحَت جدة جاء الشيخ محمد بن صالح بالجريدة إلى مكة، وكانت تسمى في بدايتها بجريدة الحجاز، ثم سُميت بعد مجيئها إلى مكة بـ(صوت الحجاز)، وكان أول رئيس لتحريرها بعد صدورها في مكة هو الشيخ عبدالوهاب آشي، ثم أعقبه الأستاذ محمد حسن فقي، ثم الأستاذ العامودي، وأنا كنت آخرهم في رئاسة تحريرها، وكما قلت سابقًا؛ فإن المسألة كانت تتعلق بالروح الموجودة أكثر من كونها مسألة حروف أو كفاءات، وكان المقال الأدبي هو الغالب على الجريدة.
وبعد أن ترك الشيخ محمد بن صالح جريدة صوت الحجاز، تأسست شركة العربية للطبع والنشر، وكان يرأسها الشيخ محمد سرور، فانتقلت إليه (صوت الحجاز)، وظلت تصدر إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، فتوقفت لقلة الورق، ثم عادت للصدور في مكة باسم (جريدة البلاد السعودية)، وظلت تصدر بهذا الاسم لعدة سنوات، ثم انضمت إلى صحيفة (عرفات) التي كان يصدرها الأخ حسن قزاز، وسُميت باسم (جريدة البلاد)، وظلت على هذا إلى اليوم، أما (جريدة المدينة) فقد أصدرها علي وعثمان حافظ بعد أن طلبا من الملك عبدالعزيز الموافقة بصدورها، وكان معهم أمين مدني ومحمد حسين زيدان، وفي تلك الأثناء أصدر الأخ صالح جمال جريدة (حراء)، وأصدرت أنا (جريدة الندوة)، ثم جاء الأمر بضم كل صحيفتين مع بعضهما.
أما (قريش) فقد جاءت بعد (الندوة)، وكانت في مرحلة وسطى بين الجريدة والمجلة، وكانت حالة وسطى -أيضًا- بين الفقر القديم والثراء الجديد، وهي -أيضًا- بمثابة خطوة زائدة عما كنا نعرفه، حيث تواجد بيننا بعض الشباب ممن درسوا دراسة عالية ومن ثمَّ بدأوا يكتبون معنا، منهم محمد مليباري وعبدالله العباسي وعبدالله الجفري ومحمد سعيد طيب، وقد بدأت التحقيقات الصحفية تظهر في (قريش) وكذلك في الصحف التي تزامن صدورها مع (قريش) أيضًا.
محمد رضا نصر الله: كيف كنتم تعملون في (جريدة الندوة) إبان فترة توليكم لرئاسة تحريرها؟
أحمد السباعي: لم تكن الكفاءات ناضجة بالشكل التي هي عليه اليوم، لم يكن لدينا مراسلون، ولم نكن نستطيع أن نعتمد على الوكالات كما هو الآن، فقط.. كنا نقرأ الصحف اليومية ونسمع الراديو، وكانت معظم صحفنا التي نصدرها أسبوعية، أما الأخبار الحكومية وأخبار الملك.. فكنا نتصل ببعض أصدقائنا في الدوائر الحكومية ونحصل منهم على ما نستطيع أن نحصل عليه فقط.
محمد رضا نصر الله: فيما يتعلق بالكتابات التي كانت تكتب في الصحف آنذاك؛ هل كان هناك تعليقات سياسية؟ وهل كانت هناك تحليلات اقتصادية؟
أحمد السباعي: لا، لم يكن هناك شيء من ذلك إلَّا في أضيق الحدود، وبعضنا كان يأخذ تعليقات جريدة الأهرام لأنها كانت الأقوى، فكنا نأخذ منها وننسب ما ننقله من تعليقات وآراء لأصحابها، ولم تكن هناك أيّ تعليقات أو تحليلات اقتصادية كما هو الحال الآن، أما معظم المساهمات فكانت تأخذ الطابع الأدبي أو معالجات لبعض المشكلات الاجتماعية.
اللهجة الشعبية
محمد رضا نصر الله: يلاحظ في كتابات الأستاذ السباعي أنها تمتاز بروح ساخرة، ومغلفة بلهجة شعبية عريقة جدًّا في مكة هنا، فهل توافق على استعمال اللهجة الشعبية في العمل الفني، مثل القصة؟
أحمد السباعي: أنا ممن يرون أن القصة إذا جئنا إلى موقف أبطالها، خاصةً إذا كان بطلًا شعبيًّا أو امرأة عجوز لا تعرف شيئًا، فلنتركهم يتكلمون بلغتهم، فاللغة الشعبية تستخدم لضرورة فنية يقتضيها الأدب، أما سير القصة فمن الضروري أن يكون باللغة الفصحى.
وأنا أذكر أنه قد تم تكليفي لعامين متتاليين في الإذاعة، خلال شهر رمضان، بأن أُلقي كلمة مختصرة باللهجة الشعبية البحتة، وأنا أعتبرها تحتوي على نوع من الفكاهة، لكن أنا لا أوافق على جعلها لغتنا الرسمية، فاللغة الفصحى ألطف وأجمل.
محمد رضا نصر الله: هل يمكننا القول بأن الأستاذ السباعي قد تأثر ببعض الصور الموجودة في القصة المصرية، أو تأثر ببعض القصاصين المصريين؟
أحمد السباعي: لا أذكر شخصًا بعينه، ولكن أنا أعرف أن فكري أباظة كان يكتب في المجلات، وإذا ما صادفته جملة شعبية، لم يكن لديه مانع من أن يدسَّها فيما يكتب، وكانت هذه الإضافة لها روعة خاصة أشعر بها، وأنا أذكر أستاذًا كان اسمه الشيخ سليمان أباظة، وهو ابن عم فكري أباظة، فسألته عنه، فقال لي إن فكري أباظة “مصيبة على اللغة العربية”، وفي رأيي أن الرجل كان يكتب بلغة ممتازة، والمعاني لديه عالية جدًّا، لكنه فقط كان لا يمانع من إضافة جملة شعبية إذا صادفته.
محمد رضا نصر الله: في الختام؛ نشكر أستاذنا الكبير وأديبنا الرائد، الشيخ أحمد السباعي.
أحمد السباعي: أشكركم وأقدر لكم ذلك.
ــــــــــــــــــــ
* عنوان الحلقة على يوتيوب:
مقابلة أحمد السباعي مع محمد رضا نصرالله في برنامج (الكلمة تدق ساعة)١٩٧٩م – قصة إنشاء أول مسرح في السعودية
* مــدة الحلقة:
1:01:35
* رابط الحلقة على يوتيوب:
https://www.youtube.com/watch?app=desktop&v=NFajN-QHlhY