انتظرت والدها وهي بين الباب الرئيسي الحديدي الذي زيّن بزخرفات الحديد المشغول بالزهور والطواويس البارزة وبين الباب الخشبي بالداخل، كانت الساعة الواحدة ظهرًا، “مي” طفلة بريئة حالمة وجميلة تبلغ من العمر خمس سنوات تسكن مع عائلتها في إحدى قرى القطيف “القديح”، كانت هي وأمها وأبوها وأخوها الكبير واختها الكبرى وأخوها الرضيع..
تارة تقف وتارة تفتح أحد مصراعي الباب الحديدي وتنظر بنصف وجهها. متمتمة: هل جاء أبي؟! كل أفراد العائلة مستعدون لرحلة ينتظرون في الصالون إلا هي تترقب عودة أبيها من المسجد حيث يؤدي صلاة الجمعة. سمعت صوت سيارة مقتربة نحو البيت وسرعان ما هرولت نحو الباب تسترق النظر لترى من القادم! إنه أبوها. الذي ترجل وأتى يفتح حقيبة السيارة الخلفية ليضع فيها احتياجات الرحلة، أسرعت “مي” تخبر الأسرة أن والدها قد وصل فأخذت حاجاتها وكيسها الممتلئ بالحلويات وفي يدها اليسرى دب مخملي. وعندئذ دخل الأب في الوقت نفسه الذي تخرج فيه “مي” احتضنها ورفعها ودار بها دورتين ونصف الدورة، تمايل شعرها ذو اللون الكستنائي، شم رائحته، أبعدها بذراعيه ينظر لها عن بعد وهي ما بين السماء والأرض تقابل وجهه والابتسامة تملأ محياها، ضمها ثانية وأجلسها في السيارة.
هرع باقي الأسرة كل يحمل غرضًا ليضعه في السيارة، تحركت السيارة وكان صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد صادحًا من مسجل يبعث في نفوسهم طمأنينة.
كانت المثلجات في صندوق مصنوع من الفلين، صهرتها أشعة الشمس نسبيًا لأن “مي” البريئة الشقية كانت بين فترة وأخرى تفتح الغطاء لتطمئن على المثلجات. بعد ساعة وصلوا فرحين مستأنسين، “مي” هي أول من دخل الغرفة التي تبعد عن مواقف السيارات سبعة أمتار، الغرفة كانت مستطيلة الشكل بها شباكان متقابلان تمنع ستائر القماش المقوى أشعة الشمس من الدخول، أنارت الأضواء جلست على إحدى الأرائك التركوازية اللون وهي تلاعب دبها الناعم الصغير.
افتقدتها أمها فنادتها بصوت قوي: مي. مي، أين أنت؟! تفقدت دورات المياه دخلت الغرف كلها دون أن تعثر عليها توجهت نحو مكان الألعاب تفقدت الأرجوحة والزانة وتحت لعبة الزحلقة والتسلق، ولم تجدها! خفق قلبها توجهت مسرعة نحو بركة السباحة، الأم لا تعرف العوم صرخت بأعلى صوتها: أحمد. أحمد، كانت تنادي زوجها الذي استرخى على الكنب الطويل الذي بطن إسفنجه بالمخمل البارد الكحلي والمكيف بهوائه البارد، والبقية مشغولون بأنفسهم.
وصلت الأم شاهدت ابنتها الصغيرة “مي” غطى الماء كل جسدها وهي تحاول السباحة لا يبان إلا يداها على سطح الماء، صرخت: ابنتي. بصوت أقوى “مي” ابنتي!، وصل الأب سبح إليها وانتشلها من وسط بركة السباحة فاقدة وعيها!
ظلت “مي” تقاوم وتسبح عشوائيًا على تلك الحالة البائسة أكثر من خمس دقائق، أغمي عليها وصارت تتنفس ببطء شديد وأصبح لون جسدها أزرق من ناحية الشفتين والأظافر وبدأ يخرج من فمها الزبد والرغوة!
نقلوها سريعًا إلى المشفى المركزي ينظرون إليها وقد تغيرت ملامح وجهها بات منتفخًا كالوارم وعيناها أصبحت حمراء بالكامل، وكل من حولها يجهشون بالبكاء ويذرفون الدموع الساخنة ويدعون لها، لم يكن باستطاعتهم فعل أي شيء سوى انتظار تشخيص الطبيب.
خرج الطبيب فأحاطوه كالدائرة وسأله الأب: ها ماذا جرى لابنتي؟! صمت الطبيب وعاود الأب السؤال: تكلم لما صمتك؟! قل أي شيء!
الطبيب يربت على كتفه ويصبره: لقد ماتت إنّا لله وإنّا إليه لراجعون، أدار وجهه وصرخة داخلية تلتهم انفاسه ودموع تتورق في عينيه: آه .آه يا بنتي وهو يبكي ناحبًا. الأم هنا من وراء غطاء وجهها “البوشية” يسمع جهشها بالبكاء المر الطويل وذهبوا إليها وهي مسجاة على السرير الأبيض كالفراشة المبللة أو حورية بحر، أدركت الأم أن إنقاذ ابنتها قد يكون أمرًا سهلًا لو لم تكن جبانة فصرخت بصوت هستيري: أنا التي قتلتها! لو كنت أسرعت وأنقذتها لما كان هذا! لو لم أسهُ عنها وأهملها لما كان ما كان، الله يرحمك يا نظر عيني وخلف أهلي وناسي، وارتمت عليها تقبلها وتشمها وتضمها وتودعها الوداع الأخير. الأب كان ينظر لزوجته وابنته نظرة المذهول يقول في قرارة نفسه صابرًا: لله ما أعطى ولله ما أخذ الله يصبرنا على فراقك أيتها الجميلة. ودمعتان ساخنتان تنزلان على خديه.
ومضت أعوام على حادثة غرق “مي” وما زالت الذكرى التي شهدها المكان وسريرها ولعبها وصورها وهي تبتسم كالملائكة حاضرة، فهم يتذكرونها بملابسها التي أبت الأم أن تلقيها بالنفاية، حتى فستانها الذي شهد موتها محتفظة به في صندوق خشبي مرصع ببعض المسامير النحاسية وألواح النحاس التي شكلت بزخارف إسلامية، ما زالت تتذكرها بكل التفاصيل ودائمًا تأتي بأحلامها ويقظتها حتى في كورنيش منطقة الخامسة (القطيف) الذي طالما لعبت بأرجوحته ورماله ومائه، وحتى بيت الجيران عندما تصحبها معها للقراءة الحسينية “عزاية”، دائمًا ما تسأل صورها ودماها ودبها الصغير وتبكي، وعندما يمر العيد تتخيل ضحكاتها حين يهديها والدها الحلوى والألعاب وتتذكرها حين تذهب مع أخيها الذي كان رضيعًا عندما غرقت الروضة، لا تزال مخيلتها تعصف بها قائلة: كان بالإمكان أن تعيش لو توفرت بعض وسائل الإنقاذ، لو كان أحد منا توفرت لديه الإسعافات الأولية، كان خنقًا رهيبًا لا ينتهي إلا بندائها الأخير الذي سمعت وهي تقاوم الغرق في تيار الماء حين تخرج بوجهها على سطح الماء؛ أمي. أبي. أهلي. حتى أغمضت عينها وغابت عن الوعي!
تنويه: هذه القصة من وحي الخيال ولا تمت للواقع بأي صلة وأي تشابه بين الشخصيات هو من وحي خيال القارئ.