في سنوات الغربة والدراسة بعيداً عن بلدك تشعر بقيمة الطعام الطيب الحلال، أولئك الذين كتب عليهم السفر إلى بلاد ما وراء الأطلسي شعروا يوماً ما بفقدان لقيمات طالما ألفوها، وصحون فطموا على نكهتها وشبُّوا على رائحتها.. والمبتعثون هؤلاء لهم قصص وحكايات مع تلك الوجبات الطيبة، وتذكرهم بأوطانهم وأهليهم، فمنهم المتعلق بجل ما كانت تقدمه له أمه أو زوجته قبل الرحيل، ومنهم الممارس للأمركة بأفقع صورها وأكثرها حموضة.
حفلت نصوص المشرِّع الإسلامي بكثير من أسس اختيار الغذاء المباح، بما يحقق مقصود الشارع من حفظ الصحة والنفس والمال، كان لا بد من بيان أهم هذه الأسس وهي: أن يكون في تناول الغذاء فائدة تعود على بدن متناوله، وأن لا يشتمل على ضرر بالعقل أو النفس أو أجهزة الجسم أو وظائفها أو عضو من أعضائها، وأن لا يكون مستقذراً أو محرماً أو نجساً، باعتبار أن للغذاء وظيفة في الإسلام: هي حفظ النفس، وعدم تعريضها للهلاك، وقد صنف الغذاء في الإسلام صنفان: الأول: الغذاء الطيب الذي أبيح لنفعه لبدن متناوله، وكان فيه فائدة مقصودة شرعاً، والصنف الثاني: الغذاء الخبيث الذي حرم لإضراره ببدن متناوله وعقله، وخلا من المنافع، أو لأنه ذبح على اسم غير الله تعالى.
الطعام الطيب هو الأفضل والأرقى من جميع النواحي الجسمية والعقلية والروحية، إذ لا يرضى لنا الرب جل جلاله إلا الأكمل.
الطعام الحلال في صناعة الغذاء المعاصر يعني أن الغذاء هو أن يكون ذا جودة وسلامة عالية، ويتفق مع الدين بأحكامه الشرعية حول ما يحل وما يحرم، أو ما إذا كان مباحاً أم حراماً، أو ما ارتبط بتذكيته وطريقة ذبحه.
لا شك أن ضمان المنتجات الحلال مسألة صعبة للغاية، وتحدٍ في عصرنا الحالي في ظل الانفتاح والتواصل والتغير السريع وثقافة السوق القائمة على “أكبر ربح في أسرع وقت”، وإغراق الأسواق بآلاف الأصناف الغذائية ومستحضراتها ذات الأصل الحيواني وما تحمله من مخاطر على صحة الإنسان وسلامة المجتمع، من هنا تأتي أهمية الرقابة والإشراف على الغذاء، والتثبت والتدقيق والحكم على مأمونيته، ووضع قيمة الإنسان وصحته هدفاً أساساً فوق الاعتبارات المادية.
الأصل في الأغذية الحل والحرمة في ما ورد الدليل بتحريمه لحكمة رحمة بالإنسان وحماية له من الضرر المترتب على الغذاء المحرم.
قال الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ.. } (سورة المائدة، الآية ٣)، وديننا الإسلامي الحنيف ما من خير إلا ودل عليه ولا شر إلا ونهى عنه، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة في دنيانا وفي آخرتنا إلا وتحدث عنها.
تعتبر اللحوم غذاءً رئيسياً للإنسان وتصاب بأمراض كثيرة وعلل مختلفة تسبب ضرراً للإنسان، والسبب يعود إلى سرعة تلوثها وفسادها إذا ما قورنت بالعديد من المواد الغذائية الأخرى، فهي بيئة مناسبة تفي بمعظم متطلبات النمو للكثير من الميكروبات الممرضة، إضافة إلى أن درجة الحموضة للحوم ونسبة الرطوبة بها تعتبر مناسبة لنموها، وأن سلامة اللحوم وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي تؤثر فيها عوامل كثيرة منها تربية الحيوان وتغذيته وتجهيزه وفحصه قبل الذبح وبعده، ثم طريقة الذبح والسلخ والإعداد وحفظ اللحوم بكل وسائل الحفظ المتاحة، وأن تكون تحت الرقابة والفحص حتى تصل اللحوم إلى المستهلك صالحة لغذائه أطول فترة ممكنة.
اللحوم متهمة بأنها ضد الصحة وإطلاق مثل هذا الاتهام باطل! فإن الله سبحانه وتعالى أوجدها لفوائد.. ولكن المشكلة تكمن في سوء الاستهلاك وكذلك متشابكات العلوم والتقنيات الحديثة التي أفرزت فيها شيئاً من سمومها، وما تركته نقياً كما كان في زمن مضى.
والسبب الذي دفعنا لتلمس وتحديد معالم ما أحدثته التقنيات سلباً في جودة اللحوم، والتي تستحق منا نظرة ناقدة من منطلق تأثيرها الصحي وتحقيق المواءمة بين الجانب الشرعي والعلمي.
تعد مشكلة غش اللحوم مشكلة واسعة الانتشار في أسواقنا، أكان ذلك في نوعية تغذية الحيوان أو استخدام الأدوية البيطرية دون حدود وضوابط والسماح بذبحها في فترة التحريم أو السلوك غير شرعي في مجال التعامل مع الحيوان قبل وبعد ذبحه، وارتباط كل ذلك بالآثار السلبية على جودة وسلامة اللحوم.
تلعب مزرعة اللاحم وإدارتها دوراً رئيسياً في إنتاج ذبيحة تحقق متطلبات المشرِّع الإسلامي، وبيان منافعها من منظور علمي، لضبط جودة وحلية اللحوم وذلك في عدة نقاط مهمة تشمل التربية والذبح والتجهيز والإنتاج وما إلى ذلك، وسينصب التركيز على المستحدثات الكثيرة التي ظهرت في مزارع أبقار وأغنام اللاحم بشكل مكثف وصناعة الأعلاف وما يترتب عليه من حلية اللحوم وجودتها.
يجب علينا أن نعطي اهتماماً كافياً بما يأكل الحيوان الذي يؤخذ منه تلك اللحوم، فإنه من المعروف أن غذاء الحيوانات يحتوي على مكونات من مصادر مختلفة، ومن منظور الحلال والحرام لهذا الغذاء فإن كل غذاء من أصل نباتي يعتبر حلالاً، وتعتبر مكونات الأعلاف غير التقليدية والمستخدمة في الإنتاج المكثف لقطعان الحيوانات كالدهون ومسحوق اللحم والعظم ومسحوق الدم المجفف والجيلاتين والمستحلبات والإنزيمات والتي تؤخذ جميعها من مخلفات المجازر، فلا يسمح بها بموجب الشريعة الإسلامية، فعند تغذية الحيوان بتلك المكونات والتي تحتوي على بروتين من أصل حيواني، هذه النوعية من البروتينات محظورة شرعاً وممنوعة قانوناً.
وعلاوة على ما سبق فإن غذاء الحيوانات يعتبر مصدر شديد الأهمية للمتبقيات الخطرة مثل المضادات الحيوية ومضادات الكوكسيديا والهرمونات ومساعدات تحبيب الأعلاف، وقد ثبت أن هذه المتبقيات لها علاقة بحدوث السرطانات وأمراض خطيرة في الإنسان، وفي حالة شراء الحيوان ونحن نجهل مصدر تغذيته، وحجم المعالجات التي تعرضت لها المادة العلفية، وفترة علاج الحيوان، فيجب أن تتم التوصية بوضع الحيوان قبل ذبحه في الحجر البيطري بحيث يغذى غذاءً عشبياً لمدة معينة حتى يتعافى ويتخلص جسمه من أثر الملوثات الكيميائية والمكونات الحرام لضمان حليته وتحقيق الفوائد الغذائية والصحية للإنسان.
يجب التأكد من جودة العلف المستعمل والتأكد من خلوه من الملوثات والسموم الفطرية، ويجب استعمال العلف المنتج من الشركات ذات السمعة الطيبة.
عني الإسلام بوضع الأحكام الشرعية التي تنظم عملية الذبح للحيوانات التي يحل أكل لحومها، لما لعملية الذبح من تأثير كبير على سلامة اللحوم.
هذه باقة من سلبيات ذبح الأنعام التي تنعكس آثارها على جودة لحومها وحليتها، وقد يغيب على كثير من الناس نتائجها الصحية ومن تلك السلبيات:
– عدم إراحة الذبيحة قبل الذبح مما يقلل من فترة صلاحية اللحوم للاستهلاك الآدمي نتيجة عدم اكتمال حالة الحموضة بالعضلات، وظهور قتامة في العضلات نتيجة ضعف عمليات أكسدة الدم، حيث إن إراحة الذبيحة قبل ذبحها تؤدي إلى تمام النزف نتيجة للانقباضات العضلية التي تحدث كرد فعل لعملية الذبح وبالتالي إلى جودة اللحوم نتيجة استنزاف الدماء الكاملة منها، وإن نسبة النشا الحيواني “الجليكوجين” في لحوم الذبائح التي يتوفر لها قسط من الراحة قبل ذبحها تكون أعلى منها في الذبائح للإنسان.
والجليكوجين له دور مهم في الحفاظ على اللحوم وجودتها وحسن مذاقها.
• إذا كانت الحيوانات قد قطعت مسافات طويلة فيسمح لها بالراحة قبل الذكية. المصدر: (GSO 993/ 2015).
– عدم تصويم الحيوان قبل الذبح، حيث يؤدي تصويم الذبيحة قبل الذبح إلى تحقيق كفاءة إدماء عالية واكتساب الذبيحة مظهراً حيوياً براقاً، فلا تحل الذبيحة إذا لم يخرج منها الدم.
– عدم سقي الحيوان، حيث إن سقي الحيوان قبل الذبح يخفف العدد البكتيري في الأمعاء، كما يساعد على نزع الجلد بالطريقة السليمة.
يدعو المشرّع الإسلامي ذابح الحيوان أن يعرض الماء على حيوانه قبل ذبحه، وأن لا يُري شفرة الذباحة، والإسراع بذبحه، وأن لا يسلخ جلده قبل خروج روحه، معززاً القول بحديث مروي عن نبينا الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام جاء فيه {أن الله تعالى شأنه كتب عليكم الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبيحة، وليحدَّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته}.
– يجب تبريد اللحوم بعد الذبح مباشرة، وأسرع اللحوم قابلية للتلف والتعفن هي اللحم البقري الصغير، ويمكن حفظه بالتبريد لبضعة أيام، يليه لحم الضأن ويمكن حفظه بالتبريد لمدة أسبوعين، ثم اللحم البقري الكبير ويمكن حفظه بالتبريد لمدة ستة أسابيع، أما الكبد والكلاوي والمخ فلا تحفظ بالتبريد وإنما بالتجميد.
وأنسب درجة حرارة لتبريد اللحوم هي الصفر المئوي (32 ْف) على ألا يتعدى – 5 ْم أْو +5 ْم، حيث إن زيادة درجة الحرارة عن ذلك بدرجة مئوية واحدة يؤدي إلى نمو الفطريات على سطح اللحوم، ويمكن زيادة فترة حفظ اللحوم وذلك بتقليل درجة الحرارة إلى -1 ْم.
– تستخدم الأدوية البيطرية ضمن حدود وضوابط علمية، وغالباً ما يلجأ الأطباء البيطريون إلى استخدام الأدوية البيطرية لــعــلاج الأمراض الــتــي قــد تصيب الحيوان أو عند الحاجة إلى وقاية الحيوان من الإصابة بالأمراض المحتملة.
يتم فحص الحيوان من قبل الطبيب البيطري قبل السماح بذبحه.
• يتم عزل الحيوان المصاب في مكان مناسب بعيداً عن الحيوانات السليمة.
• لا يسمح باستخدام منتجات الحيوان كاللحم والحليب والبيض في فترة التحريم.
• أن يكون قد تم وقف تغذية الحيوان بمواد تؤثر على الخواص الطبيعية للحوم، يجب وقف التغذية عليها قبل الذبح بخمسة عشر يوماً على الأقل.
• ألا يكون قد تمت معاملة الحيوانات بهرمونات النمو المختلفة مطلقاً.
• لا يجوز ذبح الحيوان المعالج بالأدوية البيطرية إلا طبقاً لمدة الرفع الموصي بها بالدواء المستخدم. المصدر: ( GSO 996/2016).
من هنا يتضح أهمية ذبح الأنعام في المسالخ البلدية لضمان الحلية والسلامة الصحية وتطبيق الإجراءات الوقائية.
نحن في زماننا الحاضر نجد اللحوم التي نأكلها ليست كما كانت في السابق التي لها خصائص الطراوة والعصيرية والنكهة الطيبة، وطعمها الرائع، والذي لا يعادله طعم أي وجبة دسمة في زمن الرخاء والترهل!!
وأخيراً، استوقفني مشهد اطلعت عليه عبر مقطع فيديو متداول لشاحنة “تريلا” محملة بالأغنام من إحدى الدول المجاورة متجهة إلى السعودية، وانقلابها على جانب الطريق، الأمر الذي أدى إلى اشتعال رأس الشاحنة، ونتج عن الحادث نفوق عدد كبير من الأغنام، وقيام العمال بذبحها وهي ميتة أو قد شارفت على الموت، تحت ضغط وصراخ أحد المعنيين بالإسراع بذبحها، في مشهد مؤلم، وبصراحة متناهية ليس من المستغرب على هؤلاء أصحاب الضمائر الميتة، بل من المتوقع منهم جميع الأساليب الضارة والقاتلة المستخدمة ضد الإنسانية، هذه الضمائر مختومة بالشمع كل هم أصحابها جمع الأموال، وإن كانت على حساب أرواح الأبرياء، وهو ما نشهده دائماً وأبداً، فلا يكفي أن هذه اللحوم فقدت ثقة الناس بها!!
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.