فرحة شباب تاروت

فتوة شباب رسموا ملامح زمن مضى، جسدوا فيه الحماسة والفخر كلهيب النار.

توهجات بحضور الأنا الجمعي والحمية المناطقية، زمن كانت العقول فيه منقسمة على نفسها، والقلوب تنبض بأوتار الفرقة والانقسام، سهام العيون تصوب نظرات دونية للآخر، مطوقة بأنفة واستعلاء وخيلاء، نبذ أسماء وأقوال كيدية بين حين وآخر، احتدام جدل وسخرية تتزايد بحس فكاهي متطرف.

ثمة معارك جانبية هامشية تذكي النفوس اشتعالاً، اشتباك أحاديث وطول لسان بين الطرفين (نحن الأفضل، نحن الأحسن، نحن الأرقى، نحن الأقوى منكم و.. و..)، اشتباك السنة عند أطراف حمام تاروت وفي حضن الماء، الذي لم يغسل عنهما أدران التعصب، محاججات ومماحكات امتد أثرها في المدارس والشوارع والدروب، تتفاقم عدة مرات بشدة وغلظة، ومساحة القطيعة حادة، والخصام حبل مشدود بالتوتر، تنافر ساد حقبة من الزمن.

ذلك كان حال الناديين المتصارعين في قلب تاروت (النسر والنصر) وما بينهما المنار الذي أفل نجمه للأبد، هما ظلا في وجه الريح العاتية التي هبت سنة 69 – 70م، ولم تستطع اقتلاعهما، فقط بضعة شهور أخليت المقرات مؤقتاً إلى أن هدأت العاصفة، شهور وعادت الطمأنينة تسكن  النفوس المرتاعة، وبقوة بأس صمدا في وجه الخوف المختلق، وتمكنا من تجاوز رهبة الزمن وسطوة المنحنى.

ناديان عادا بثقل أكبر من السابق، يتمركزان بشموخ عبر مقراتهما، يزينان سوق تاروت، ولوحاتهما المطلة على المارة تحي كل عابر، والموسومة تعريفاً وتمجيداً،  نادي النسر الرياضي بتاروت رياضي ثقافي اجتماعي، وذات الهوية بالنسة  لنادي النصر.

فرقتان استقطبتا معظم شبيبة تاروت وكذلك أيتام المنار، الذين تفرقوا، والتائهون منهم  توزعوا في كلا الناديين الغريمين، هما جيران تفصلهما بضعة خطوات لكنهما غرباء المزاج والانتماء الكروي، التنافس الرياضي أخذ منهما مأخذه، كل يناكف الآخر في كل شيء،  يتباريان بتفاخر في جميع الأنشطة والألعاب ويقيسان قوتهما بتغلبهما على الفرق الأخرى أو بالعكس.

عند مطلع سنة 1972، تلقى النسر هزيمة كارثية من فريق شعلة الاتفاق قوامها 8 صفر، وعلى التوالي خلال ظرف أسبوع، مواجهة واحدة في الدمام والثانية على ملعب النسر.

بينما نادي النصر لعب مع ذات الفريق ضمن نفس الفترة وخسر المباراتين بنتيجة معقولة، الأولى واحد صفر والثانية 2 دون رد، عندها اشتعلت نار السخرية بين الاثنين، لكن فريق النسر رج أنحاء تاروت بنيله كأس البطولة لأندية القطيف الريفية بالقطيف متغلباً على الفرق التالية (فرق البحاري والجش وأم الحمام)، وكانت مباراة الفصل لنادي النسر الذي حسمها في المباراة النهائية بعد تغلبه على فريق الربيع بالربيعية الذي كان اسمه النور سابقاً.

وبعد انتهاء المباراة حدث اشتباك، إذ خطف المشجع “غ. خ” الكأس الموضوع على طاولة مسؤولي الشؤون الاجتماعية بالقطيف، وركض به سريعاً ورماه أرضاً، كسرت إحدى يدي الكأس، وانتشل من بين الأرجل  وحمل عالياً من بين الحشود (جماهير تاروت والربيعية)، وكان حكم المباراة مبارك الميلاد من بلدة البحاري الذي أدار اللقاء محتسباً هدفاً للنسر أثار لغطاً لدى فرقة الربيع، مدعين أن الكرة مرة زاحفة أرضاً بجوار القائم من خارج المرمى، هدف إشكالي سجله سيد أحمد فتح الله التاروتي.

تلك مباراة فصل شهدها ملعب الخليج الكائن عند مبنى بلدية تاروت الحالي، أو الأرض المعروفة بمطار دارين بالقرب من ساحل الرفيعة (الرملة البيضاء)، ومن وسط الملعب وبين العصر والمغرب صعدت جماهير النسر سيارة الحاج عبد الرحيم القطري وهي تولول وتزغرد فرحة بالنصر والسائق أبو فتحي يدق على مقود سيارته “هرنات” متتالية ابتهاجاً بالنتيجة، جماهير النسر أشعلت الباص لهيباً وهي تصيح وتنادي بصوت جماعي “أخذنا الكأس غصباً عن بعض من الناس”، وحمل اللاعب عبد الرسول زمزم على الأكتاف من عند بناية بيت آل مطر إلى وسط السوق كأصغر لاعب في الدورة، واللاعبون ارتموا تباعاً في حمام تاروت بهلاهل الفرح يغسلون أبدانهم وبدلتهم الزرقاء الغامقة.

وبالمقابل فريق النصر سجل تفوقاً في مباراة مثيرة ظلت جماهيره تفاخر بنتيجتها طويلاً، بعد أن تغلب على نادي الهلال بسنابس قبل اعتماده في كشوف رعاية الشباب بشهور قلائل بنتيجة 2- مقابل واحد، والذي تغير اسمه لاحقاً إلى نادي النور بسنابس، وكان لأثر تسجيله رسمياً سنة 1971م بأن أشعل حمية شباب تاروت للتقارب بينهما.

نظر الخيرون من العقلاء في تاروت لنبذ الفرقة والخلاف، لكن عين الريبة كانت تتربص ببعضهما انشقاقاً رياضياً غير حميد، بلغة الاعتداد بالنفس الزائدة بلغت بين الناديين النسر والنصر مبلغاً لحد الكبرياء المقيتة.

“هوشات” أشكال وألوان امتد زمنها منذ نهاية الستينات إلى بداية السبعينات الميلادية من القرن المنصرم.

من ينبذ عنهما مساحة التعصب ويردم الهوة، من يؤلف بين الإخوة الأعداء، هما أولاد العم والخال والخالة، هما الأقارب والأنساب والعوائل المشتركة، الكرة فرقتهما وقذفتهما في بحر الكراهية والتنافس اللامحمود.

لكن العقلاء لم ييأسوا بل سعوا مراراً وتكراراً إلى تقريب وجهات النظر يوماً بعد يوم، حاولوا بكل ما ملكوا من إيمان وقوة وشهامة وثبات، منطلقين بأن الاتحاد قوة ورفعة شأن، أم الانقسام تشرذم وضعف وهزال وزوال لكلا الناديين.

نادت القلوب برقة عاطفة وترجيح عقلانية، تردد صداها عند المدبرين لشؤون كلا الناديين الذين استجابوا في نهاية الأمر عن قناعة تامة، بأن الديمومة لحياتهما القيام بالوحدة بينمها، الاندماج في نادٍ واحد وتحت سقف واحد وملعب واحد، ويجمعهما شعار واحد.

أمل كان يراود أصحاب النظر الصائب الذين تمنوا أن يأتي يوم  ينتفي فيه اسما النصر والنسر من اللوحات والأختام وكل المخاطبات، هؤلاء بعيدو النظر كانوا يتوقون لاختفاء اسمهما نهائياً، بإحلال اسم جديد يجمعهما ضمن كيان واحد.

تلك أماني فعلت على أرض الواقع بعد جهد جهيد بذلته كلا الإدارتين في تقريب وجهات النظر وصولاً لعملية الاندماج الكلي، وهناك وقفت خلفهم أسماء عدة ذكرها كاتب السطور في مقالة سابقة بعنوان “الهدى اسم وحكاية”.

أبلغ موقف قام به رجل مؤثر عند  الجانبين ومقرب بين الاثنين وبكلمة شعبية (يمون على الاثنين)، إنه الرسام والخطاط عباس على حسين الذي رسم لوحات لكلا الناديين وزين جدران ناديهما، وأصبح محبوباً بين الاثنين، اشتغالاته الفنية لهما ليس لاعتبار شخصي بل بهدف أكبر وأبعد من مساحة لوحة محددة، كان يرمي من وراء ذلك إلى جمع الكلمة، بالتفاف القلوب وتقريب  مساحات حارات ومناطق تاروت في نادٍ واحد، عباس ابن المنار المنهار، لم يبك ناديه ندباً كما فعل البعض، بل كان قلبه متعلقاً بالأمل الذي جسده الناديان لاحقاً بفعل تضامني.

كاتب السطور رأى بأم عينه الحاج عباس علي حسين ذات مساء في مقر نادي النسر يحاول جاهداً إقناع إدارة نادي النسر وعلى رأسها عبد الحسين زمزم، بأن يستجيبوا للاتحاد، وألقى على مسامعهم كلاماً مؤثراً للغاية، ملخصه بأن ترجاهم دون إبطاء أو تأخير، خاطبهم بود وقلب وعاطفة جياشة، وكأنه متسول يستل منهم الموافقة، وذات الموقف فعله أبو فاضل لدى إدارة نادي النصر ومن ضمنهم حبيب حمود وحسين إسماعيل.

وبالفعل انتصرت الإرادة الحرة لكلا الإدارتين الموقرتين، ففي مثل هذه الأيام من شهر ذي الحجة عام 1392 هجرية، تم اتحاد فرقتي النسر والنصر وأقيمت مباراة في كرة القدم بهذه المناسبة الغالية عصرية يوم عيد الأضحى المبارك، وأسفرت النتيجة عن فوز النسر واحد دون مقابل، لم تكن النتيجة ذات بال، حيث ساد اللعب روح الود والحب والأخوة الصافية، وخلال شوطي المباراة تبادل الاثنان بعض اللاعبين من فرقتيهما.

مباراة جرت وقائعها على ملعب النسر الكائن جنوب مدرسة تاروت المتوسطة – ثانوية تاروت حالياً – حضور جماهيري شهدته المباراة، كعربون فرح عامر،  ساد القلوب بنبض أنشودة جماعية بهجية رددتها السنة شبيبة تاروت في ذلك العيد السعيد.

فريقان كانا بالأمس أعداء واليوم أصبحا يعزفان الود والحب، ألقى بعد هذه المباراة النسر بدلته الزرقاء الغامقة المكللة بالأصفر عند الأكتاف، وكذا فعل النصر ببدلته السماوية المتوجة بثلاثة خطوط بيضاء على الصدر.

واتخذا فيما بعد من اللون الأصفر شعاراً موحداً لكليهما.

أي عناق شهده اللاعبون في ذاك المساء المعطر بالفرح والمسرة والبهجة، أعضاء الناديين في  يوم العيد يصعدان مقراً واحداً يجمعهما في حب ووئام، كان يوم 10 ذو الحجة في ذلك المساء فرحتان، فرحة عيد الأضحى المبارك وفرحة عيد اتحاد الناديين في كيان واحد ترجم الأمل لواقع  ملموس: النسر + النصر =  الهدى، ولد هذا النادي في مثل هذه الأيام المباركة، إنها ذكرى عزيزة وغالية لكل شبيبة تاروت ولكل محب ومشجع للكيان الوردي.

ذلك العيد لم يكن عابراً كسائر الأعياد السابقة، عيد بهيج لكل شباب تاروت، فيه اجتمعت كلمتهم على حد سواء وارتقت النفوس بجمال أخاذ، ولأول مرة أعضاء الفرقتين يداً بيد وساعداً بساعد، هتاف جماهير توحدت رايتهم في راية واحدة في مثل هذه الأيام الجميلة.

وبالحساب الهجري، تمر على تأسيس نادي الهدى 50 عاماً.

مناسبة سارة وسعيدة، انبثقت بفرحة عارمة سادت شباب تاروت في ذلك الزمن، دليله قلب نابض يردد “أحبك يا هدى فأنتِ معشوقي للأبد”، قلوب مؤتلفة تنادي بأعلى الصوت: نادي الهدى يهنئكم بمناسبة عيد الفطر المبارك أعاده الله علينا وعليكم باليمن والبركات.

ألف تحية لكل القلوب التي اجتمعت قبل 50 سنة وترجمت حلم الشباب بنفس واحد نحو التسجيل رسمياً بعد 4 سنوات من العزم والكفاح.



error: المحتوي محمي