استقرأ النَّاقد الأدبي مُحمد الحُميدي، المناهج النّقدية في قراءة الشعر، مُتطرقًا إلى تطور النَّقد الأدبي من العصر الجاهلي، متدرجًا صعودًا للعصر الإسلامي الأول، ثُّم العهد الأموي، فالعهد العباسي، حتى العصر الحديث، مُسلطًا الضوء على أهم المدارس الحديثة النَّقدية.
جاء ذلك في الأمسية الثَّقافية، التي أقامها مُنتدى سيهات الأدبي “عرش البيان”، لأعضائه بمدينة سيهات، مساء الأمس الأحد المُوافق 18- 7- 2021م، بعنوان: المناهج النَّقدية في قراءة الشّعر.
المُنتج النَّقدي
وتحدَّث الحُميدي بداية عن النَّقد، بكُونه مُنتجًا ثقافيًا، مؤكّدًا أن الشّعر والنَّقد، يتجاوران في البيئة الثقافية، مُبينًا أنَّ الشّعر، يأتي مُتعلقًا بالذَّات، هادفًا للتعبير عنها، والنَّقد، يأتي للحيلولة دون الإغراق في الذَّات، والاكتفاء بها عن سواها.
وقال: في النَّظرة السابقة فإن الشّعر والنَّقد بدآ معًا، وسيواصلان المسيرة معُا، وإنَّ كان لكُلّ واحد منهُما طريق مُختلف، مُشيرًا أنَّ العصر الحديث، يشهد أنَّ الذَّات الفردية اتصلت بالشّعر اتصالًا وثيقًا.
وأضاف: يُمكن القول بأنَّ لكُلّ عصر نوع مُختلف من النَّقد، مثلما أنَّ له نوع مُختلف من الشّعر.
وذكر أنَّ العصر الجاهلي شهد نقدًا قائما على اللغة، هي الأم، التي احتضنت العرب، وأرضعتهم، فجاؤوا جميعهم شُعراء، أو على دراية بالشّعر، وفهم لكلماته ومعانيه، وإدراك لطريقة بنائه، ومعرفة المشاكل، التي تُصيبه وتعتريه.
وبيَّن أن النَّقد بدأ من اللغة، فانطلق إلى الحياة الثقافية مُقترنًا بها، حيث وجدت عبر تاريخ العرب مدرسة تسمّت بالمدرسة اللغوية؛ التي أسست القواعد الشّعرية الأولى، واهتمت بجانب الوزن والقافية، الألفاظ والمعاني، وعبر هذين الجانبين نشأت الآراء الأولى، ثُمَّ تحولت إلى دراسات جادة، خلال القُرون اللاحقة.
اللغة أم الفلسفة
وذكر الحُميدي في انسيابية حديثه، أنَّ لظهور عُلماء اللغة؛ دور كبير في دفع الشّعر إلى صدارة المشهد الثَّقافي، حيث برز الأصمعي، والمفضل الضبي، وأبو عمر بن العلاء، وخلف الأحمر، وهؤلاء جميعهم اهتموا بالشّعر وتدوينه، ثُمَّ ترسيخه في الأذهان، مُعتمدين في على السَّماع والمُقارنة، إذ أخذوا يسألون القبائل وأهل البادية عن الكلمات الواردة في الأشعار؛ للتَّحقق من مدى مُطابقتها للواقع.
وأوضح أنَّ هذه الكوكبة من علماء اللغة، هُم أول نقاد الشّعر؛ لقُدرتهم على تمييز الصحيح والجيّد، من المُزيف والرديء، مُنوهًا إلى ظهور جماعة أخرى، اختلَّفت نظرتها لهذه الأصول، بفعل ترجمة كتابي أرسطو: “المنطق – نقد الشّعر”، اللذين تسببا في تغيير النَّظرة العربية إلى الشّعر.
وتابع: فإنَّه من ناحية عمل نقد الشًعر على إدخال الاستعارة والكناية والمجاز إلى مباحثهم النقدية، ومن ناحية ثانية ساهم كُتاب المنطق في إثارة الجدل حول القضايا الأساسية في الحياة؛ كالخلق والمعاد والحياة والممات، مما أثرى السَّاحة الثقافية وجعلها مهيأة لتقسيم العلوم وتبويبها، وهو ما تلامس بشكل مباشر مع النَّقد.
وأردف: لقد توجب على النَّاقد أن يكون على دراية بالوزن والقافية، الألفاظ والمعاني، والبلاغة، وهُنا بدأت مرحلة جديدة، من مراحل نمو النَّقد العربي، حيث ظهور كمّ كبير من الأشعار، أدَّى إلى الحاجة المُلحة لنُّقاد مُتمكنين؛ يُميزون بين الجيّد والرديء.
وأضاف: مع زيادة الاهتمام والتركيز على البلاغة، ظهر نقاد مختلفون عن السابق، لا يهتمون باللغة والوزن والقافية فحسب، بل يهتمون كذلك بالخيال، إذ يرونه الميزان الفعلي؛ للتفريق بين الشُعراء.
وقال: هؤلاء النُّقاد؛ الذين أخذوا بالحديث عن الخيال وجمالياته، وإن انطلقوا من اللغة؛ إلا أننا لا يمكن أن نعُدهم علماء لغة، لسبب بسيط؛ وهو تتلمذهم على كتابات أرسطو، الفيلسوف اليُوناني، واعتمادهم الغوص في التَّفاصيل، وتفاصيل التَّفاصيل، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه “تفتيق المعنى”.
وأضاف: فبسبب اعتمادهم المنطق الأرسطي؛ تم إطلاق “فلاسفة اللغة” على هؤلاء النُّقاد، الذين برز منهم عبد القاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، وابن رشيق، كما ظهر منهم ابن سينا، والفارابي، والكندي؛ الذين أدلوا بآراء في الشّعر، مُعتمدين مُقاربة الخيال، لا الوزن واللغة والبلاغة.
جُمود الشّعر
وتطرق إلى مقُولة: “جُمود الشّعر العربي”، مُفيدًا أنَّ هذه المقُولة شاعت، بعدما استمَّر التركيز على نقد الخيال، إلى حُدود القرن الثَّامن الهجري، ثُمَّ أخذ الشّعر في التَّحجر والجمود بسبب وقُوف الثَّقافة العربية وعدم تطورها، فأصبح الاهتمام يعُود للمباحث البلاغية، التي استعادت مكانتها السَّابقة.
وأوعز تحول الشّعر من الانفتاح على الحياة والوجود، إلى الانفتاح على الأساليب البلاغية والمجازية، لتأتي المُفاضلة بين الشُّعراء، بحسب ما يبرعون فيه من أساليب البلاغة وكثرة استخدامها لتُؤدي إلى شيُوع هذه المقُولة؛ التي تعني توقف الشّعر عن التَّطور والرقي.
وقال: إنَّها نظرة صحيحة تمامًا، فالانغلاق على البلاغة؛ جعل الشعر بعيدًا عن أهدافه السَّامية، وتحول لمجرد تزويق ولعب لفظي.
الفُحولة النَّقدية
يذكر الحُميدي أن غفلة العرب استمرت عن لغتهم ومشروعهم النَّقدي مُنذ القرن الثامن الهجري، وحتى العصر الحديث؛ حيث لم يُلحظ تقدم ملموس في المنهج والتَّطبيق، وإنَّما تّمّ الاكتفاء بما فات من بلاغة وتزويق ولعب لفظي، الذي أُفسحت أمامه المسارات، وأُشرعت الأبواب والنَّوافذ، إلى أن أصبح طاغيًا على الثقافة.
وتابع، على العكس من الغرب، الذي اهتمَّ بالمناهج العربية في النَّقد الأدبي والجمالي، فبداية من القرن الثاني عشر الميلادي وما تلاه، برزت المناهج النقدية المُستلهمة من العرب، وعلى رأسها المنهج الفيلولوجي؛ الذي اعتنى بتقسيم الأصوات، ودراستها، والتفريق بينها؛ من أجل إعطاء الدلالة بدقة، ثُمَّ تطور الدرس إلى المنهج “الفقه لغوي”؛ الذي يبحث في الألفاظ، والتراكيب، والنُّصوص التُّراثية، ويعمل على إعادتها إلى جذورها الأولى، وفي هذه المرحلة تّمَّ اكتشاف “التَّناص” -الاقتباس والأخذ من السابقين-.
وأشار أنَّ الموضوعات، التي تناولها النَّقد الغربي، هي نفسها، التي تناولها النَّقد العربي؛ إذ اهتم باللغة وسلامتها وصحة الكلمات وكيفية نُطقها ودقة دلالتها.
بُنية النَّص والتَّأويل
وتطرَّق الحُميدي إلى المناهج التطبيقية، التي تُمارس قراءة النَّصوص الشّعرية، مُسلطًا الضُّوء على أبرزها.
وذكر انَّه ليس غريبًا أن يحتل المنهج البُنيوي الفضاء الثَّقافي النَّقدي، مُوضحًا فالسَّاحة تهيأت تمامًا لظهوره، حيث عكف العُلماء سابقًا، وخلال فترة طويلة من الزَّمن، على استظهار النَّصوص التراثية، وحفظها وإرجاعها إلى أصولها الأولى، بما فيها النُّصوص الدينية المُقدسة، وفي الأثناء تّمَّ القيام بفرز مُفرداتها ومُصطلحاتها، وتحديد دلالاتها؛ لتكُون، هي الدلالات الوحيدة والحصرية.
وقال: إنَّ المنهج البُنيوي؛ اتجه بالبحث إلى قائل النَّص وأهدافه وغاياته، وما يرمي إليه من قصد، ليهتم النَّقد الشعري بالقائل وأسباب قوله وأغراضه وغاياته، كأنَّه يتمثل العبارة التُّراثية “المعنى في بطن الشاعر”، خير تمثيل.
وبيَّن أن التَّركيز على صاحب النَّص واعتباره مركز البحث؛ أنتج نقدًا يُقارب النُّصوص على هذا الأساس، وقال: يُمكن اعتبار جميع الأعمال النَّقدية، التي انتشرت وشاعت بين عامي 1900 -1970م تنحو بهذا الاتجاه، فكتابات إحسان عباس، وعباس العقاد، وطه حسين..، مارست المُقاربة وفق المنهج البُنيوي، الذي على أساسه برزت قراءات نفسية واجتماعية وتاريخية، وهي جميعها تتصل بالكاتب أكثر من اتصالها بالنَّص.
ولفت أنَّ البُنيوية اعتمدت على تقنيات قرائية، لم تكُن مطروحة سابقُا؛ كتقنية “الكلمة المفتاح”، كما في قصيدة أمير الشعراء “أحمد شوقي” التي مطلعها: “اختلاف النهار والليل يُنسي/ اذكرا لي الصبا وأيام أنسي”، حيث التركيز على مفردة “الوطن” والحنين إليه.
وبيَّن أن المدرسة التفكيكية، لم تكُن سوى ردة فعل للمنهج البُنيوي، الذي أولى عناية فائقة بالكاتب وقصده، إذ جاءت اعتراضًا على هذه العناية، فاتجهت بالدَّرس والتَّحليل إلى النَّص نفسه، ورأت فيه صانع المعنى وواهب الدلالة، وليس بيد المُؤلف قدرة على حصر المعنى وتحجيمه، فالأمر متروك للقارئ؛ وحده القادر على توجيه النُّصوص واستنتاج الدلالات.
وقال: هُنا ظهرت أفكار، مثل: الانزياح الدلالي والنّهايات المفتوحة، مُفيدًا فقد اختفى التَّلاعب اللفظي والتزويق البلاغي، حيث حل محله العناية بالنَّص، كنص، لا كمفردات وتراكيب.
وذكر أنَّ التفكيكية لا تُقارب المُفردة باعتبارها الوحدة الأساسية الأولية والنّهائية للعمل الكتابي، وإنما تتجه إلى النَّص، كنص؛ أي إلى مُجمل العمل، مُشيرًا أنَّها لا زالت إلى اليوم حاضرة وبقوة، في الدَّرس النَّقدي على مستوى العالم، ومن المتوقع استمرارها لفترة طويلة، ما لم تأتِ مدرسة أخرى، تُزاحمها وتحتل مكانتها، وهو أمر صعب نظريًا؛ بسبب تعدد التَّيارات، التي صدرت عنها، مثل تيار “النَّقد الثقافي”.
وفي منهج النَّقد الثَّقافي، يقُول الحُميدي بأنَّه يرتبط بالظواهر الاجتماعية وعلاقتها بالواقع، فيختص بقراءتها وإبرازها، عبر التركيز على نوع التغيير، الذي تُحدثه، ينظر للحياة على أنَّها مجموعة تفاعلات مُركبة ومُتداخلة، لا يمكن فصلها؛ لأنَّها من صميم الحياة الإنسانية.
وبيَّن أنَّ النَّقد الثَّقافي، يستفيد من ظاهرية “هوسرل”؛ الذي يُقارب الظاهرة على أساس معرفة أسبابها الفعلية، ونتائجها المُحتملة، ومدى إمكانية أن تُحدث تغييرًا على مستوى البيئة الثقافية، حيث يقوم النَّاقد بتفكيك الظَّاهرة، ودراستها من جوانبها المُختلفة، وقراءة الدلالات، التي تُفضي إليها، باعتبارها مُتغيرات ثقافية.
وتابع: لأنَّ اللغة حامل الثقافة وناقلها؛ فإن التَّركيز سينصب على كيفية تعامل اللغة مع الظاهرة، من أجل تكييفها؛ لتكُون ضمن ثقافة اللغة، وداخلة في خطابها، والتي أُطلق عليها مُصطلح “النَّسق”.
وعرَّف النسق أو الأنساق الثَّقافية؛ بأنَّها ليست أكثر من مسارات، يتجه لها الخطاب اللغوي، ويُمارس عبرها التَّأثير على الأفراد النَّاطقين بتلك اللغة، إذ يقُوم بتكييف الموقف، الذي حصل والظَّاهرة، التي حدثت، مع أهداف الخطاب العُليا، الناظمة لحركة المُجتمع، وطريقة تعامله مع الظَّواهر المُختلفة والمُستجدة.
وبيَّن هذا الفعل، يهدف إلى الحفاظ على شكل المُجتمع اللغوي، من التَّأثيرات القادمة من ثقافات أخرى، حيث يُعتبر آلية دفاعية، تقُوم بها الثَّقافة؛ لحماية أسسها وثوابتها.
المرأة مفعولًا به
وأشار من أهم الظَّواهر الثَّقافية، التي ظلّت علامة فارقة مُنذ القرن الماضي؛ قضية الأسبقية في كتابة الشّعر الحر، مُوضحًا أنَّه حدثت معركة أدبية طاحنة حولها، واحتشد الأنصار والمُدافعون، فالبعض رأى “السَّياب”، أول من كتبها ونشرها، بينما رأى آخرون “نازك الملائكة”؛ أنَّها أول من نال شرف كتابتها، والتَّأكيد عليها، ووضع قواعد مُمارستها، في كتاب “قضايا الشّعر المعاصر”.
وبيَّن لقد اعتُبرت قصيدة “الكُوليرا”؛ للشَّاعرة نازك الملائكة، فتحًا جديدًا في عالم الشّعر، وقال: لأول مرَّة، يسطع اسم امرأة بوضوح في عالم الثَّقافة، الذي بدى خلال تاريخه الطَّويل حكرًا على الرجال، ولم تكُن المرأة سوى مفعول به، أو مُستمع ومُساعد للرجل.
وأشار مُتوسًعا في أفق الحديث، أنَّه مع انكشاف الخطاب وتعرية الثَّقافة؛ احتاج النَّاقد إلى اختراع قارئ مُختلف، يُجيد قراءة الظَّواهر وتفكيكها، بما يتناسب مع المُعطيات الجديدة، لهذا صب النُّقاد اهتمامهم على اختراع، هُنا ظهرت نظريات “القراءة والتَّلقي”.
وأوضح فيما يخُص نظرية التَّلقي، بأنَّه جرت معركة اُبرى، واتي حدثت طوال تاريخ البشر، وتركزت في أخريات القرن العشرين؛ إذ تمثلت في سؤال، مفاده: من الذي يمتلك حق تفسير النُّصوص؟ هل الكاتب، الذي وضع النُّصوص ورحل، أم القارئ الذي يراها لأول مرة؟، وما الضَّوابط، التي يُمكن من خلالها التفسير التُّوجيه؟
يُجيب الحُميدي: من هذا المُنطلق انبثق تيار “التَّلقي”، بقيادة “ياوس وآيزر”؛ لإيجاد قارئ قادر على الأخذ بزمام النَّص، وإعطائه معناه، الذي يتوافق معه ومع حياته، وليس ذلك المعنى، الذي يتوافق مع الكاتب وحياته، وفي الأثناء تّمَّ الاعتراف باختلاف التَّأثيرات عبر المراحل التاريخية المُتعاقبة، فما كان مُتاحًا ومسموحًا في زمن، تغيَّر وصار ممنوعًا ومحظورًا في آخر.
وتناول في ختام حديثه أهمية نظرية التأويل “الهيرمنيوطيقا”، مبينا أهميتها واستخداماتها وإضافتها للنُّصوص المعاصرة.