الضفة الأخرى ٦

استيقظت عبير من نومها مُبكرًا، وبعد غسل وجهها بالماء، لتشعر بوجودها في الحياة الواقعية، توجهت إلى المرآة، وفكَّت ربطة شعرها البنفسجية، وراحت تُسدله على معصميها، تُحيكه بأصابعها، وتترك لروحها فرصة التَّأمل.

ذهبت إلى المطبخ أعدَّت الفطُور، وفرشته على الطَّاولة الصّغيرة، وجلست لتتناوله وقلبُها لا يزال تخفُق نبضاته بتوتر وقلق.

وكعادتها، قامت بإعداد القهوة، وأحضرت قطعًا من الشُّوكولاتة الباردة، وانحنت بجسدها على الأريكة، وتناولت الرّيمُوت، وقلّبت في قنوات التّلفاز، تبحث عن شيء ما، يُطبب قلقها، ويُزيل توجسُها من اللحظات القادمة، وهي ترتشف قهوتها، وتقضم قطعة الشُّوكولاتة، التي تُحبها، حيث تتعمد المُشاهدة دون صوت، لتتدرب على الحالة التَّأملية، سعيًا إلى قراءة الحدث الدّرامي من خلال تفرُّس حركات المُمثلين ونظراتهم، لعلَّ ذلك، يُبعدها عن الواقع، ويمنحُها الهُدوء، لتستقر مشاعرها، وتهدأ أمواج فكرها.

ما هي إلا لحظات، وإذا بأمها، تُغمرها بحنانها عبر كلمات صباحية الدّفء: صباح الخير، حبيبتي عبير.

صباح الخير أماه، يا وجه الصَّباحات الجميلة وطلتها البهية.

شاركتها أمها الفطور، وهي تُمعن التحديق فيها، أرادت عبير أن تُشغلها، فصبت لها القهوة، وارتشفت أمها رشفة، وخاطبتها: عبير، أريد الحديث معك في موضوع مُهم.

تفضلي يا أماه، كُّلي آذان صاغية.

من دون مُقدمات إن خالتك قد طلبت يدك لابنها سمير، ما رأيُك؟

وقع السُؤال عليها، كالصَّاعقة، مع أنَّها تعرف سلفًا سبب قُدوم خالتها.

أماه، لا أعرف بما أجيبك، فأنا لا أفكر حاليًا بالارتباط.

ولما لا تُفكرين في الزَّواج، وأنت قد وصلتي لعنفوان العُمر، ومن هُم في مثل سنك مُتزوجات، وقد أنهيتي دراستك؟

صمت، ينتابُها، شتات الأفكار، تُصارعه رُوحها، قطعت عليها أمها، هذا الصَّمت.

لماذا بُنيتي لا تمنحين نفسك الوقت، لتُعيدي التَّفكير، ولا تظلمين نفسك بقرار مُتسرع، لديك كُلَّ الوقت؟

حسنًا، أماه سأفكر، وأعطيك الجواب النهائي.

توجهت عبير لغُرفتها. ألقت جسدها على السرير، مُنهكة جدًا، سمعت دقات على الباب، رفعت رأسها وإذا بأختيها التَّوأمين فاتن وولاء، تدخلان عليها، بوجه بشوش، ضحوك، تُسرعان إليها، إلى حُضنها، فتحت يديها، تنفست الصعداء، كأنَّ الحياة، تدخُل إلى رئتيها، كغيمة صُبح.

خاطبتها فاتن، التي تسبق ضحكتُها كلماتُها: الحلو لما حزين، الدُّنيا لا تحلو إلا بوجنتيك الحمراوين..، أين ابتسامتك يا جميل؟

ابتسمت ولاء باستحياء: حبيبتي عبير، أنت الحياة لنا، تُوفي الوالد ونحن صغيرات، وكبُرنا، وتُوفي مُحمد، الذي قام بتربيتنا ورعايتنا، وكُنَّا بعده، نراك أنت مُحمد.

تذكرت مُحمد، فلم تستطع حدقتا عينيها الصمود، فانهمرت الدّموع على وجنتيها، كعصفُور بلله الماء ذات مساء مُمطر.

وضعت عبير أصابعها فوق خدودهما، وضغطت عليها.

يا عيني عليكُما، أروح فداء لهذا الجمال، والخدود النضرة، والمُمتلئة.

هيَّا، إليَّ أقرأ لكُما قصة جميلة.

فاتن وولاء، كلتاهُما تنظر للأخرى، وتُشبك أصابعها فرحة، لرجوع ابتسامة عبير، وقراءة قصة لهُما.

أحضرت عبير كتاب القصص، وجلست على فراشها، وأختاها بقُربها، وبدأت تقرأ، وهي تتأمل ملامحهما بدفء، فقد استغلت هذه الفرصة، لتُبعد تفكيرها عن سمير والقادم، الذي لا تعلم لونه ولا طعمه.

في المساء، قامت عبير بالاتصال ديقتها سوسن، وأخبرتها أن تأتي لها يوم غد، لأمر مهم؛ تحتاج أن تُخرجه من قلبها، وليس لها من تُشركه فيه سواها، فإنها رفيقة الدَّرب، التي تفهمُها، وتُحسن تذوق أبجديتها، وتقرأ أفكارها، حتى إن جاءت، كظل بدره لم يكتمل بعد.



error: المحتوي محمي