التعامل الآمن مع اللحوم

تعد الأغذية مواد كيميائية تتأثر بعدة تفاعلات داخل الجسم وخارجه، وقد تحدث تفاعلات بين الغذاء تشمل التفاعلات الفيزوكيميائية والفسيولوجية في التمثيل الغذائي للأطعمة وكذلك السموم التي توجد في الأطعمة، وهذه التداخلات تشمل النافع والضار، إن فهم الطريقة التي يتفاعل من خلالها الغذاء مع أجسامنا، هو ما يجعلنا ندرك كيف يؤثر الطعام في صحتنا.

إن وجود ارتباط بين غذاء معين وبين أحد الأمراض، لا يعني بالضرورة أنه سبب مؤكد للإصابة بذلك المرض، فمثلاً نسأل: ما الذي يحمي شعوب جنوب شرق آسيا من الإصابة بسرطان البروستاتا؟
– تناولهم للصويا بكثرة.

– لماذا الهنود هم أقل الشعوب تعرضاً للإصابة بمرض الزهايمر؟
– لأنهم يضيفون الكثير من الكركم إلى طعامهم.

تبدو تلك الإجابات مقنعة ومنطقية، وتدعمها دراسات إحصائية دقيقة، ثم تجرى دراسة معتمدة على تلك الحقائق في أوروبا أو أمريكا، فتخرج نتائجها مخيبة للآمال، ومثيرة للحيرة، فلا الصويا قللت من معدلات الإصابة بسرطان البروستاتا، ولا الكركم أثبت حماية فعّالة من مرض الزهايمر.

ما السبب وراء هذا الاختلاف؟ الإجابة هي وراء طرحنا الموضوع بوضوح لنخرج بنتائج مهمة ومعالم واضحة، فطرح قضايا حساسة تتعلق بصحة الناس بشيء من التّبسيط مما يؤدّي إلى إثارة البلبلة حولها، فنرى في الساحة المتخصص وغير المتخصص الكل يدلي بدلوه بعلم ودون علم مما أثر بصورة سلبية على ثقة الناس.

إن من أكثر ما يثير “البلبلة” في أذهان الناس حول خطورة أي منتج أو مادة كيميائية هي إطلاق جوانب الخطورة عن المادة دون تحقيق أمرين أساسين:
الأول: هو في أي حالة تكون هذه المادة خطرة أو سامة.

الثاني: كم هي الكمية أو النسبة التي تسبب التسمم أو الخطورة من هذه المادة؟

التحدث عن القضايا المهمة في موضوع تغذية الإنسان أمر ليس بالسهل، فمعرفة العلاقة الأمثل بين التغذية والصحة، واستفادة الإنسان من العناصر الغذائية والطاقة، مكنته من النمو والتطور الجسماني والعيش بصحة جيدة، بجانب دورها في كثير من العمليات الحيوية داخل أجسامنا ودخولها في تركيب الجسم وأغشية الخلايا، هذا علاوة على تقوية مناعة الجسد ضد الأمراض.

إننا اليوم في عصر غدا فيه الغذاء الصحي والتغذية الصحيحة هاجساً يطارد الكثير من الناس، وأن كل ما تدفعه لنا مزارع اليوم ومصانعه ما هو إلا مصائب تحمل كل ضرر وفساد وسموم لأجسامنا، ولكن لنا أن نتساءل عن صحة التعامل مع ما نسمع أو نقرأ، فلا يكفي أن نضع اللوم على الآخرين بأنهم مصدر لبلائنا.

وإن كان لي ثمة رأي في الأمر فهو الوعي والإدراك والإلمام بجوانب غذائنا وما ندفعه لأفواهنا على مدار اليوم من الأمور المهمة في حياتنا.

ولكن دعوني أمر سريعاً على بعض ما نشهده من معتقدات غذائية خاطئة، لقد أثار مقطع فيديو متوهج في قنوات التواصل الاجتماعي، تم تداوله بلا قيود، مست صحة الناس بدرجة أولى، وأصبحت منبراً هاماً للمختص أو من يزعم أنه مختص.

حتماً أن التركيز على تفاعل غذائي مسرطن بلا أدلة قوية ولا دراسات موثقة يمكن أن لا تجد طريقها صوب الحقيقة، فيه قصر نظر، من المثير للدهشة والحالة أن تكون العلاقة بين الغذاء والإصابة بالسرطان أمراً لا يزال يخضع للتخمين، وفي حالات كثيرة اتضح أن التخمين لم يكن صحيحاً.

العلاقة بين إضافة الروب أو اللبن إلى تتبيلة اللحم والإصابة بالسرطان تبقى مجرد أقاويل، فإضافة قليل من الروب في إعداد تتبيلة اللحم لتحسين صفاته وإضفاء رائحة ومذاق مميز، هل يجعلنا في دائرة الخطر؟! لم تكن تلك النظرة صائبة حينما أدعت المتحدثة في المقطع بأن الروب أو اللبن يحتوي ضمن مكوناته على سكر اللاكتوز والكازينات التي تتفاعل مع بروتين اللحم وتتكون مادة مسرطنة!!

وهل عدم استعمال منتجات الألبان في تتبيلة اللحوم سوف يوفر لنا الحماية ضد السرطانات.

هناك الكثير من السلبيات دخلت إلى عالم الغذاء والتغذية أربكت حياتنا الصحية، ما يجرى على اللحوم والألبان من معاملات ومعالجات صناعية، ابتداءً من الأدوية البيطرية والإضافات العلفية وهرمونات النمو والإشعاع والتغييرات الوراثية التي تستخدم في مزارع إنتاج أبقار ودجاج اللاحم بشكل مكثف، نتائجها لحوم ملوثة وسيئة التحضير، أدى إلى هدر قسم كبير من قيمتها الغذائية أو جعلها ضارة بالصحة، كما أن منتجات الألبان غير مناسبة للتغذية لأن تركيبتها تختلف عن تركيب الحليب الطبيعي، تلك المعالجات والمضافات الغذائية افقدت الحليب دوره التغذوي، لها ضرائب وأثمان يدفعها الإنسان من صحته، وقد ازدادت الأمور تعقيداً بعد ظهور التقنيات الحديثة والمعالجات الاصطناعية التي جعلت الأغذية تتنافر مع بعضها، مما تسبب في هدر القيمة الغذائية، أو إضعاف فاعلية الغذاء أو حتى ظهور الأمراض الخطيرة.

والسؤال هنا: هل نضمن اللحوم والألبان التي دخلت أسواقنا خلوها من أيّ ملوثات أو غش يُهدِّد حياتنا؟

ومن الطبيعي أن الطعام الخام كان في الأصل طازجًا قبل التجهيز والإعداد، لكن مروره بالمراحل المختلفة من طهي وتبريد وبسطرة وإضافة بعض الحمضيات وقليل من القلويات وأحيانًا كثير من الأملاح، كل ذلك ينتج عنه تغيير في التركيبة الغذائية والصحية لهذا الطعام.

كمية الطلب على اللحوم المجهزة ضخمة للغاية، تصنع من شرائح لحم غمرت في خليط من مواد التبتيل المستخدمة والمسموح إضافتها لهذا المنتج مثل إضافة سكر – دكستروز، ومواد رابطة مثل مسحوق حليب فرز، كازينات، مسحوق الشرش. (GSO 1060/ 2016).

– الكازينات هي الخثرة المتجمعة على هيئة حبيبات صغيرة وهي عبارة عن بروتين الحليب الأساسي وبداخلها شيء من الماء وقليل من سكر الحليب وبعض المعادن التي توجد في الحليب، وهذا هو الجبن.

معظم أنواع اللحوم المجهزة مثل الكباب والأوصال والبرجر وشيش طاووق وفريد تشيكن يسمح بإضافة الكازينات “بروتين الحليب” وحليب فرز أو حليب منخفض الدهن.

إذن، هل تسبب اللحوم المجهزة والمضاف لها بروتين الحليب بالسرطان؟

هذا ما لفت نظري في المقطع المتداول فهو يصب في ذلك التوجه، لماذا هذا التضارب المثير للدهشة!!

فإذا اعتبر الروب أو اللبن كمضاف طبيعي للغذاء بدلاً من المضافات الاصطناعية الضارة بالصحة، وأن سكر اللاكتوز في اللبن أو الروب يتحول معظمه إلى حمض لاكتيك.

فماذا بقي ليقال؟!

لا شك أن التشريعات والقوانين الغذائية تمر على مجموعة دراسات وأبحاث طويلة حتى تعتمد كدستور دولي، والعالم يجمع على تطبيقها، فنرى فيها المحظور والمسموح.

وبنظرة عامة يمكن معرفة المحظور والمسموح في الغذاء من خلال تطبيق اللائحة الفنية التي أقرتها الجهة المعنية بالغذاء.

تم الاستناد في إعداد الأنظمة واللوائح الرقابية ذات العلاقة بمجال الغذاء والدواء على لجنة دستور الأغذية “الكودكس”، وتتابع الهيئة العامة للغذاء والدواء كل ما يستجد علمياً وتطويرها باقتراح التعديلات اللازمة عليها واقتراح المزيد من هذه الأنظمة واللوائح لتواكب متطلبات الجودة والسلامة الصحية.

لا تظن أن ما يقدم على المائدة من أصناف الطعام أمر عشوائي أو ارتجال لحظي بل نتيجة دراسات وأبحاث علمية ومختبرات ومنظومة رقابية فاعلة ترتقي بسلامة الغذاء وجودته من إنتاجه وحتى استهلاكه.

يرتكب معظم الناس عدداً من الأخطاء عند تحضير وتناول طعامهم إما بسبب غياب الثقافة الغذائية أو بسبب رغبتهم في الحصول على وجبات شهية وسريعة ومن هذه الأخطاء أو التوصيات:
• إضافة مطري اللحم عند شوي اللحم بهدف تسريع نضج قطع اللحمة وجعلها طرية لينة سهلت المضغ، وهي مادة كيميائية تسبب أضراراً صحية، ويمكن استبدالها بالمادة اللبنية لثمرة البابايا في عمليات إنضاج اللحوم لاحتوائها على إنزيم هاضم يسمى بابين.

• أفضل طريقة لطبخ اللحم يصعب تحديدها لأن المسألة ذوقية، ولكن بصورة عامة فإن اللحم المسلوق أسهل هضماً وأقل دهناً من المقلي وأهم للصحة من المشوي على الفحم.

• عند شوي اللحوم الطازجة فإنه ينتج بعض المركبات الأمينية الحلقية التي يعتقد أنها مسرطنة للجهاز الهضمي، والسبب ليس اللحم وإنما من الرماد المتطاير الذي يلتصق على سطح اللحم ناقلاً معه هذه المواد من الفحم والخشب المحروق ويتحد مع دهون اللحم.

• جميع الأطعمة التي تعد بشكل جيد يمكن اعتبارها أطعمة صحية، والمخاوف الحقيقية ربما تتمثل في سلوكياتنا الغذائية الخاطئة.

• تناول لحوم حيوانات المزرعة التي تتغذى على العشب الأخضر وخالية من الأدوية والعقاقير البيطرية، يجعلك أكثر صحة.

• في السنوات الأخيرة، انتشر بين معدي اللحوم في المطاعم الكبرى، والمطابخ الفندقية، إضافة الباراسيتامول لإسراع عملية النضج وإضفاء نكهة مميزة على طعم اللحم، وهذا الاتجاه خاطئ بكل المقاييس، وقد ثار ضده الأطباء والصيادلة.

الباراسيتامول هو في الأساس مادة كيميائية، لها استخداماتها العلاجية، فإذا استخدمت للإسراع بنضج اللحوم، فإنها في هذه الحالة تتحول إلى مركب كيميائي شديد الخطورة، وكانت أبحاث أجريت في هذا الشأن أفضت إلى إمكانية تحول الباراسيتامول المستخدم في الطهي إلى مادة مسرطنة.

غالباً ما نحذر من شراء اللحوم من محلات غير موثوقة، فاللحمة الطيبة لا تحتاج إلى مطريات اللحوم الاصطناعية، ولا طناجر الضغط البخاري، بعكس اللحوم البائرة المليئة بالملوثات المسرطنة.

وأخيراً، فإن التعاطي مع أي ادعاء، لا بد أن يحمل أكبر كم من الدقة العلمية حرصاً على صحة الناس، وحفاظاً على الصدقية، باعتماد لغة العلم التي لا تعرف إلا وجهاً واحداً للحقيقة!

يبقى علينا أن نصنع من تلك الأقاويل المتضاربة، ثقافة صحية واعية، وأن نقرأها قراءة صحيحة، ونقيّم مصداقيتها، ونتعامل معها بموضوعية، ونترك خيارات لذيذة آمنة، خيارات مفيدة وضرورية لصحتنا.

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي