مسألة الهوية والانتماء؛ هي إحدى المسائل الشائكة، التي يعاني منها الإنسان على هذه المعمورة، حيث تتوزعه اتجاهات شتى، ومذاهب متفرقة، وجميعها تجذبه ناحيتها، فاللغة هوية، والأرض هوية، والتاريخ هوية، والمذهب الفني هوية، لكونه يُعرف بها، ويُشار إليه من خلالها، فحينما تحضر أثناء الحديث يحضر معها بالضرورة، لأنه أحد المنتمين إليها.
لعل الديانة، والانتماء إلى طريقة شعائرية، أو روحية؛ تُعتبر أهم الهويات، إن لم تكن الأهم على الإطلاق؛ حيث يتضاعف الشعور بالانتماء، بقدر ما تبعث على الفخر والاعتزاز، فالهندوسي يعتز بالهندية، لكنه بديانته أكثر اعتزازاً، وكذلك الأمر مع الكونفوشي، والبوذي، والمسيحي، واليهودي، والمسلم.
الديانة هَوية الإنسان؛ حيث تعمل على تشكيله منذ الطفولة، وصولاً إلى الموت، ومن الصعب جداً الانفكاك عنها، وما “المتحولون” من ديانة إلى أخرى، أو مذهب إلى آخر؛ إلا نتيجة صدمة معرفية قوية، أفضت إلى القبول بالهوية الجديدة، واستبدالها بالقديمة، عبر المرور بمراجعة فكرية عميقة.
كتاب “تجليات الهوية” يقارب هذه المسألة، ويحاول التوسع فيها عبر الشعر؛ إذ استحضر عشرين شاعراً من مختلف أقطار الوطن العربي، وبحث داخل أشعارهم عن الهوية الدينية، وقد وجدها وفصّل فيها، وسبر نموها عبر أربع مراحل، هي: القلق المعرفي، والحس النقدي، والرؤية التكاملية، والبحث عن الجوهر.
ليس مهماً أن يقع التوافق بين القارئ والكاتب حول هذه الجوانب، فالمنهجية التي اتبعها تقوده إلى النتائج التي خلُص إليها، وإن كان البعض ربما يناقش إدراج مثل “القلق المعرفي” بداخل الهوية الدينية، فهل هي فعلاً كذلك؛ أي هل يصاب الشاعر بالقلق المعرفي الذي سيقوده ناحية الإيمان بهويته الدينية؟ لا أتفق شخصياً مع الكاتب في هذا الجانب، ولكني في المقابل أحترم الطرح الموجود.
يُعتبر كتاب “تجليات الهوية” ذا أهمية خاصة، لعدة أسباب؛ أولها: ظروف المرحلة الراهنة؛ حيث فقدان الكثير من الأدباء والشعراء، بل والأشخاص العاديين، لهويتهم المميِّزة؛ نتيجة اندماجهم بداخل السوشيال ميديا، التي إحدى نتائجها إبراز الهويات الجماعية والعامة، وإلغاء الاختلافات البينية، وهنا يمكن ملاحظة أنهم اتجهوا إلى الاندماج داخل المجتمع الكبير والواسع، ضمن الفضاء الافتراضي، ولو على حساب جماعتهم الإثنية الصغيرة.
ثاني الأسباب؛ يتمثل في ندرة الكتاب المنهجي النقدي، الذي يتناول الظواهر الشعرية داخل منطقتنا، فرغم كثرة الشعراء، وتعدد اتجاهاتهم، ورغم النمو الواضح لعدد الكتاب على مستوى القصة والرواية والشعر ونصوص إلخ، إلا أننا وبكل صدق نرصد ضعفاً في المقاربة النقدية، لا يتسق مع هذا النمو، وهو ما يشير إلى خلل خطير، ستظهر آثاره مستقبلاً، إذا لم يتم تدارك الأمر، وأهم الآثار بقاء الإبداع عند مستوى معين، وعدم القدرة على مجاوزته، مما يعني هبوطه وانتهاءه تالياً.
ثالث الأسباب؛ يتمثل في أن الكاتبَ شاعر حائز العديد من الجوائز، كما أنه مشارك فعّال ضمن الاحتفالات والمهرجانات، محليًّا وخارجيًّا، مما يعطي الكتاب مزيداً من الأهمية، فلصدوره عن تجربة شخصية، وممارسة ممتدة على مدى سنوات طوال، شاهد خلالها فقر الجانب النقدي، داخل البيئة الثقافية المحلية؛ فاندفع لخوض غمار التجربة، مع حرصه الشديد على مواصلة تجربته الشعرية.
للأسباب الثلاثة السابقة؛ ينبغي أن يتم الاحتفال بالكتاب وصاحبه، حيث مسألة الهوية من أصعب المسائل، وأشدها تعقيداً، حين البحث، وكذلك لإدراكه العالي بذائقته الفنية حاجة البيئة الثقافية، إلى مثل هذا الإصدار، وأيضاً، ولعله أهمها؛ بسبب ندرة الإصدارات النقدية التي تبحث في أدب البيئة المحلية.