من بين حكايات الأدب ومنعطفات الحياة.. هكذا تحدث سعد البواردي

بطاقة شخصية
• الاسم: سعد بن عبد الرحمن البواردي
• تاريخ ومكان الميلاد: 1929م ــ شقراء
• المؤهل: الابتدائية
• الوظيفة: إدارة العلاقات للمجلس الأعلى للتعليم
مقدمة
هو صاحب سيرة ومسيرة فريدة، بين حكايات الأدب ومنعطفات العمل والحياة، في ذاكرته قصص باعثة على التدبّر والتأمّل، يحمل في جعبة ذكرياته أزمنة لم نعشها وأماكن لم نرها، هو أحد أفراد جيل رواد الفكر والشعر والصحافة في المملكة، على بساطته وتواضعه كان رمزًا ثقافيًا وقامة أدبية سامقة، واسمًا لا يمكن إغفاله حين يتم التأريخ لإرهاصات الحركة الصحفية في المملكة عمومًا وفي منطقتها الشرقية خصوصًا، إنه الشاعر القدير سعد البواردي، الذي التقاه الزميل، الكاتب والإعلامي محمد رضا نصرالله في إحدى حلقات برنامجه “هكذا تكلموا” في عام 2007م، يتوغل الحوار في سيرة البواردي، وإسهاماته وعلاقاته بأبناء جيله ورجالات عصره.
فالنتينا.. يا زهرة الفولغا

يا بعثة الأرض إلى الفضاء
وأنت تعبرين الكون
في مركبة السماء..
هل أبصرت عيناك شيئًا
اسمه الصحراء
كثبان رمل أبيض يدعونه الدهناء
غابات نخل اسمها القطيف والأحساء
وبلدة ناعسة الجفنين اسمها شقراء
تلك بلادي.. يا فالنتينا

قصة قصيدة
* شاعرنا الكبير الأستاذ سعد البواردي؛ لنبدأ من هذه المقطوعة التي واكبت بها تلك الرحلة الأسطورية لأول عملية ارتياد فضاء في التاريخ، والتي كانت في الستينيات الميلادية، لماذا وقفت على هذه المفارقة؟ وتلك الفتاة الروسية التي انطلقت إلى الفضاء الفسيح، وتطلب منها أن تطل على بلادك.. شقراء والأحساء والقطيف؟

** فالنتينا.. كأول امرأة تغزو الفضاء، هي رسولة علم، ومنظّرة تاريخ، استطاعت بعزيمتها أن تسبق الرجل وأن تخاطر وتغامر لكي ترى هذا المشهد الأرضي، وتطل منه وتكتشف منه وتبرز خصائص هذه الكرة الأرضية، وقد عزَّ عليّ وهي تطوف ألا تطل على هذا البلد الجميل الحالم بمستقبله، فخاطبتها بهذه القصيدة، وقلت هل رأيتِ هذه الكثبان والنخيل والمدن والقرى والقصور والجحور؟  لأنني لا أتورع حين أطلب منها أن تكتشف لنا ما كان واقعًا في زمنه.

* هل كنت تستنهض بذلك مجتمعك في الستينيات الميلادية، والذي حاول تلمّس الطريق نحو النهضة والحداثة؟

** وددت لو كنت طرحت عليّ هذا السؤال قبل أن أجلس هنا، كي أسرد عليك قصيدةً قلتها بعد تلك القصيدة، بعد أن تغيّرت ملامح الحياة في بلادنا، وسألتها وسألت نفسي عن تلك المشاهد القديمة التي هي رأتها قد أصبحت الآن، ولكن هناك دائمًا في التاريخ مراحل زمنية، وهذه المرحلة الزمنية يجب ألا تستحي من نفسها وألا نستحي نحن منها، أن نقول لها إننا في سنوات مضت كانت لدينا بصمات متواضعة في حدود استطاعتنا وقدراتنا، ولكننا تغيّرنا وتطورنا مع الزمن، ومع هذا لا يزال لدينا طموح في أن نكون أفضل من ذلك أيضًا.

بين العمل والأرض
* ولكن يُلاحظ أن هذه القصيدة فيها نفس عمالي، وأنت أيضًا في مدارج حياتك الأولى كأنك كنت قريبًا من العمل والعمال وورش السيارات، وكانت ثقافتك ـ كما كنت تقول ـ هي ثقافة قطع غيار السيارات، حيث تبحث عنها وتقدمها لمن يطلبها، كأنك عملت في ورشة.

** العمل هو أشرف شيء في الحياة، والمهنة هي التي تكوّن حياة الإنسان، فالعامل هو الفاعل والمنتج والمعطي والذي يستطيع أن يغيّر ملامح المجتمع، لذا كنت رفيقًا للعامل وصديقًا للعمل، متى كانت في يدي القدرة على أن أعمل وأعطي.

* لكنك كنت آتيًا من عالم مخمليّ يُفترض فيه أنك تربيت في قصر أمير، إذ كان والدك أميرًا لمنطقة الوشم، وكذلك كنت آتيًا من هذا المجتمع الصحراوي الذي لم يتعود على قيمة العمل، بل كان يحتقر العمل في مثل هذه المجالات.

** صحيح أنني قد عشت في حفظ والدي، الذي كان كريمًا جدًا، ولكنني كنت أحنّ إلى التراب، وقد يكون في ذلك قلة ذوق، بيد أنني كنت أترك المائدة الدسمة وألتهم التراب التهامًا، وكان بيتنا بيتًا طينيًا متواضعًا لكنه يعدّ قصرًا بمعايير زمنه، إذ لم يكن بشقراء قصور في ذلك الحين، ومع هذا كنت أنزع دائمًا إلى الهروب خارج البيت، واستطعت أن أبني لي حفرة يمكنها أن تأوي قطًا بالكاد، إذن فأنا عشقت الأرض ومن يزرعها ومن يبني البناء من طين الأرض، لذا ليس هناك أمر غريب فيما يخص حياتي في هذه القضية.

شعر ومعاناة
* هل لذلك تلون شعرك وأدبك برائحة الأرض ومحاولة الاقتراب من الناس؟، هل كنت متأثرًا بما كان يتطارحه المثقفون في زمنك من صراع لأفكار الأصالة والشباب والتمرد؟

** أؤكد لك أنني لم أتأثر بشيء سوى بمدرسة الحياة التي استطاعت أن تضعني في فوهة التجربة، بكيت وضحكت، شقيت وسعدت، عانيت وأحسست بمعاناة الآخرين، ومن هنا كانت الفكرة، فالإنسان يُولد ولديه إحساس بحياته، بحلوها ومرّها، وعندما يكبر الإنسان تكبر معه همومه وطموحاته وآلامه، وهنا دائمًا تبدأ عملية الفرز، فنجد هناك من يتغنى بالقصر، لأنه وجد فيه الكرم والحياة الرغيدة، كما فعل شوقي وآخرون، وعلى العكس كان هناك من وجد أن حياته امتدادًا لهذه المعاناة والدموع والآهات، فانتسب إلى هذا النمط الحياتي في شعره وأدبه.

* لكن ما الذي جعلك تنحى هذا المنحى؟ هل بسبب الانفصال المبكر بين والديك، ثم وفاة والدك بعد ذلك وتيتمك المبكر وتحملك المسؤولية فجأة؟ هل لذلك كنت تحمل المعاناة دائمًا معك في أدبك وشعرك؟

** عندما انفصل والدي عن والدتي، كنت صغيرًا، وهو قد أعادها بعد عامين، إذن لم تكن هناك مشكلة بهذا الخصوص، لكن قد تكون النقلة من حياة الطفولة إلى حياة العمل والمسؤولية عندما توفى أبي هي السبب الأقوى وراء ذلك، حيث كنت أعول أسرة تتكون من 8 أفراد، وكنت لا أملك درهمًا واحدًا، وبهذه المناسبة سأروي لك شيئًا من تلك التجربة.. كنت في شقراء بعد أن عدت من دار التوحيد وليس في يدي إلا قليل من زاد، ففكرت في أن أدخل سوق العمل، فاشتريت بريال كيسًا فيه بطيخ (كنا نسميه جراوة)، وكان لدينا سوق اسمه المجباب، فافترشت الأرض في السوق ووضعت الجراوة لبيعها، وكانت في شقراء مباحث غير رسمية، لمحني أحدهم واستنكر أن يكون سعد الذي كان أبوه أميرًا للوشم يجلس ليبيع الجراوة، فذهب إلى أحد أبناء عمومتي، وما هي إلا دقائق حتى وجدته أمامي منتفخ الأوداج، وقال لي أمام الناس هذه العبارة: “قمْ.. قامت عصبك وتثنت رقبتك”، تمنيت حينها لو أن الأرض تبتلعني، فقد استكثر عليّ عملًا نظيفًا شريفًا ليس له علاقة بإمارة أبي، فأنا كنت أودّ أن أعيش وأصرف على أسرتي، ويومها حملت حمل الجراوة وانتقمت منه! أكلته بالكامل أنا وأسرتي. هذا بخصوص حكاية أن والدي كان أميرًا، فما أود قوله هو أن أبي عاش زمنه وأدى واجبه، وأنا عشت زمني، والظروف تختلف بطبيعة الحال.

* وجدناك وأنت تردد “منديل الحلو يا منديله.. على دقة قلبي بغنيله”، وهذه أغنية مصرية شهيرة للمطرب عبد العزيز محمود، كأنك كنت تجر عربة كارو، حاملًا كيسًا مملوءًا بالفحم، فهل أيضًا بعت الفحم في بطحاء الرياض؟

** لا، فهذا مشهد رأيته، حيث رأيت عاملًا يحمل خيشة ويتصبب العرق من جبينه، فأوحى لي بهذه الصورة، فهذا العرق الذي يتصبب من جبين هذا العامل لدي أزكي وأنقى من العطر الذي يتصبب من جبين خامل، ومن هنا جاءت هذه الصورة.

انتقالة تاريخية
* كيف حدثت هذه الانتقالة التاريخية في حياتك؟ فأنت انتقلت من ثقافة البطيخ والفحم وقطع غيار السيارات إلى ثقافة الأدب والفكر، حيث حلّقت بعد ذلك في كثير من التجارب، مثل إصدار جريدة، ثم مجلة، ثم ذهبت ملحقًا ثقافيًا بين بيروت والقاهرة، نريد أن تتحدث لنا عن هذه اللحظة المفصلية.

** كنت موظفًا صغيرًا جدًا في أولى تجارب حياتي العملية، حيث عملت في الأحساء عند الشيخ المرحوم محمد بن سيف، الذي أوكل إليّ شؤون الميزان، وكان الميزان مختصًا بوزن ما يُقدم للحيوانات، وأخبرني حينها بأن هذه مهمة صعبة، ولكنني فشلت حينها في ضبط الميزان، فطردني شر طردة.

* بعد هذه التجربة، وجدنا تجربة أخرى، حيث التحقت بالعمل مع عبد الرحمن القصيبي، قبل الالتحاق بعبد اللطيف العيسى في ورشته، حيث كنت لا تزال تتعاطى ثقافة البواجي الكربريتر والديلكو، نريد وقفة هنا معك.

** كان همي أن أجد ما أكفل به حياة أسرتي، ولم يكن همي ولا مطمحي ولا طمعي في أية وظيفة إلا أن تكون وظيفة شريفة، وبعد الطرد من الأحساء استقبلتني الخبر عن طريق أحد أقاربي، وحسنًا كان اختياره فقد عملت لدى أسرة فاضلة، وهي أسرة الرجل الشهم الشيخ عبدالرحمن أبو الحسن القصيبي، وكان الذي يرأس مكتبه في الخبر هو أحد أبنائه؛ فهد القصيبي، الذي لم يكن مستقرًا وكان دائم الذهاب إلى البحرين، فعملت لديه في أول الأمر كما يقول المثل “ساقي سوق شعبة”، أقدم له الأحذية وأصب له الشاي وما إلى ذلك، وهذا العمل ليس عيبًا أبدا، ثم تقدم بي الوقت ومُنِحت شيئًا من الثقة، وفي النهاية أصبحت وكيلًا لأعماله في الخبر لمدة 7 سنوات، وكنت خلال كل عامين أذهب إلى شقراء كي أزور أسرتي.

* ولكن كيف تغلبت على هذا الواقع والتحقت بعالم الكتابة والصحافة، وأصبحت اسمًا بارزًا في هذا المجال؟

** لم أبدأ بعد، فحتى الآن لم تبدأ هذه النقلة، وسأخبرك سرًا وإن كان ليس بالسر، فعندما كنت في دار التوحيد، كنت لصًا ظريفًا، فكنت أقرأ بعض المجلات المصرية وأختلس منها بعض الجمل الرومانسية وأكتبها في مفكرة صغيرة، وعندما يقدم أستاذ الإنشاء مادةً كي نكتب فيها، كنت أستعير بعضًا من هذه الجمل وأكتبها في مقالتي، فكان يُعجب بي بالرغم من أن تلك الجمل لم تكن لي، وكانت هذه هي المادة الوحيدة التي أنجح فيها.

وأذكر أيضًا في عام 1364هـ، أطلقت إحدى المجلات السعودية مسابقة للشباب في القصة، فخطر لي خاطر كي أشارك، فكتبت قصة بعنوان “على قارعة الطريق”، أصوّر فيها امرأة شريدة ومعذبة على الرصيف ولا يهتم بها أحد، وأرسلته إلى المجلة، وبعد قرابة الشهر، ظهرت النتيجة ونلت الجائزة الثالثة، ويبدو لي أنه لم يتقدم لهذه الجائزة سوى 3 قصص فكنت الأخير، وبالرغم من ذلك نلت مركزًا وفزت بـ 30 ريالًا، وكانت هذه أولى محاولاتي.

التكوين الثقافي
* ماذا عن التكوين الثقافي لك في ذلك الوقت؟ هل اقتربت من الثقافة الكلاسيكية وقراءة الأدب والشعر القديم؟ هل اطلعت على المعلقات أو قرأت الشعر الإسلامي والأموي والعباسي؟ هل قرأت أدب الأولين مثل الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وغيرهما؟

** لم أقرأ للأولين ولا للآخرين، وحتى الآن لم أتأثر بأحد، قد أُعجب بشعراء أو مفكرين، ولكن أقول لك إنني قليل القراءة، فهمّ الحياة وما فيها من أفكار تفرض عليّ أن أتعامل معها فيستغرق ذلك كل وقتي، لذا للأسف ليس لدي معين من التراث الثقافي القديم أو الجديد، فأنا أتعامل بفكرة اليوم ومعاناة اليوم.

* إذن كيف أصدرت العديد من الدواوين الشعرية، فأنت لك حوالي 10 دواوين شعرية و7 أعمال نثرية وقصص عديدة وإلى غير ذلك من إصدارات قد تفوق الـ 50 إصدارًا؟

** الحياة هي المدرسة، وصدقني أنا أحمل في حياتي 3 شهادات فقط؛ شهادة ميلادي، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والشهادة الابتدائية، لا أقل ولا أكثر.

* ولكن أيضًا العقاد لم يكن لديه سوى الشهادة الابتدائية، ومع ذلك قارع عظماء عصره من سياسيين ومثقفين وأدباء، وكان يقف في مواجهة أبرزهم كطه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك.

** ولكن تعرف بيت الشعر القائل “ألمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قدرهُ … إذا قيل إنَّ السّيفَ أمضى من العصا”، فالعقاد شيء وسعد البواردي شيء آخر.

تجربته الصحفية
* حدثنا الآن عن تجربتك في الصحافة؛ كيف أقدمت على إصدار عمل صحفي وهو “الفجر الجديد” في بداية السبعينيات الهجرية؟

** أنا لم أصدر “الفجر الجديد”، بل أصدره الشيخ يوسف يعقوب إسحاق، حيث مُنِحَ إصدار هذه الجريدة، وقد كتبت فيها مقالة أو مقالتين على ما أتذكر، وقد صدر من “الفجر الجديد” بضعة أعداد ثم اختفت، ثم طنّ في رأسي هاجس شيطاني بأن أرسل إلى الجهات المعنية والشيخ عبد الله بلخير لإصدار مجلة الإشعاع، وجاءت الموافقة في آخر شهر رمضان، حينها لم تكن لدي محصلة عقلانية كي أزن بها الأمور، ووجدت نفسي أمام أمر واقع، فبحثت عمن آنس بهم، فوجدت أفرادًا قليلين وللأسف لم يوفقوا وأتعبوني معهم، فكان أمامي 48 صفحة من الحجم الصغير ولا بد أن أملأها، فاستعنت بالله وبدأت مرغمًا، وفرضت نفسي فرضًا على المجلة، حيث كتبت في القصة والقصيدة والمقالة حتى أملأ كل الفراغ، وكتبت تحت أسماء “سعد البواريد”، و”س. ب”، و”أبو سمير”، وفتى الوشم، وغيرها، وكان لي بعض الزملاء يمدونني ببعض كتاباتهم؛ منهم الأديب السوداني عثمان شوقي والدكتور إبراهيم العواجي والدكتور عبد الله العثيمين وغيرهم.

* هل كان هناك تيار فكري سياسي ما يحرك ذلك الجيل؟

** نعم، فقد كنا نعيش عصر النهوض والتحرر من الاستعمار في العالم العربي كله، وكان الكاتب يكتب في ذلك الوقت ما لا يستطيع كتابته اليوم، لأن هامش الحرية كان مفتوحًا في ذلك الوقت، وكان طموح الشعوب والقيادات في تلك الأثناء متوهجًا، فكانت كل الصحف متوهجة وتنشر بحرية وتحوي نقدًا للأجهزة والأخطاء والتقصير.

خريطة المجتمع
* كيف كانت الخريطة الاجتماعية وقتذاك؟ هل كانت هناك تيارات موجودة؛ مثل التيارات الدينية أو التيارات العصرية أو التيارات التي تتطلع إلى تطبيق أجندة ما، أو التيارات التي كانت على النقيض؟

** في عدد مجلة الإشعاع الـ 21 أو الـ 22.. كانت هناك مشكلة قد وقعت في منطقة القصيم، أدت إلى نشوب واقعة ضرب بالعصا بين بعض الشباب وبعض المجتهدين، فكتبت في ذلك العدد وقلت إن الدين يُسر، وإنه موعظة ومعاملة حسنة، وقلت أيضًا إن الباب لا يُفتَح بالعنف، ويبدو أن هذه المقالة قد رُصِدَت لي وأحتفظ بها على حسابي وليس في حسابي، وكان هناك أيضًا اندفاع الشباب وإرهاصاته، وكل ذلك كان له أثره ونتيجته.

مع الصحافة وأهلها
* هل كان الشيخ حمد الجاسر في المنطقة الوسطى في نجد، هو النموذج الذي أخذ بمجاميع الشباب وأفكارهم وتطلعاتهم، حيث أصدر اليمامة في منتصف السبعينيات الهجرية من القرن الهجري الماضي، وكنت واحدًا من تلامذته ومريديه؟

** الشيخ حمد الجاسر كان سابقًا لجيله بلا شك، وهو يجمع في عقله وفكره بين روح الشباب وأصالة الماضي والتاريخ، ولا شك أن الشيخ الجاسر وأخونا عبد الكريم الجهيمان يمثلان نماذج استطاعت أن تغرس روح الانتماء، وعنصر العمل الجاد لبناء المجتمع.

* بين السبعينيات والثمانينيات الهجرية، كانت هناك إصدارات تحملت هذا الوهج الثقافي، واتسمت مداولاتها الصحفية بالتركيز على النقد الاجتماعي، على سبيل المثال.. “قريش” لشيخ الصحافة أحمد السباعي، والرائد للأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، والأضواء لمحمد سعيد باعشن، وكنت واحدًا من هؤلاء الكتّاب الذين أثاروا الكثير من الزوابع فوق صفحاتها، نريد وقفة معك هنا.

** أحمد السباعي كان لي أستاذًا أُعجَبُ به، وأُعجَبُ أكثر بفلسفته، ولعله في نظري في الطليعة من كتّاب هذه البلاد، فلديه مساحة من التفكير الفلسفي تقنعك وتشبعك، وقد أصدر كتاب “فلسفة الجن”، وكان المحرك لبعض الأحداث حوله، وقد يكون هذا واقعًا وقد يكون خيالًا أدبيًا، أو أسطورة بنى عليها كتابه، ومن هنا فأنا تأثرت به وأصدرت كتابي “فلسفة المجانين”، وخلال ممارستي للكتابة تجمّعت لدي مسيرة لا بأس بها من العطاءات المتواضعة.

* من الملاحظ أيضًا أنك في بعض نثرياتك تنهج هذا المنهج، فهل هذا ضرب من التفلسف أو التأمل أو الخواطر؟ هل كنت تنطلق من مضامين فكرية فلسفية؟ هل قرأت الفلسفة اليونانية ووقفت على أرسطو وسقراط؟

** القضية لا تحتاج إلى بحث، فإذا كان لتوفيق الحكيم أن يستخدم حماره، وأن يبثّه شؤونه وشجونه، فأنت تستطيع أن تستعير أي رمز وأن تبثه هذه الشجون.

* ولكن توفيق الحكيم سافر إلى باريس، واتصل هناك بالنهضة الفكرية والأدبية واطلع على الأصول التي شكلت الفكر والفن الأوروبي الحديث.

** قبل أن نبحث عن أين ذهب وماذا فعل، كانت لديه الموهبة وكان لديه عنصر الطرح والإبداع، لم يؤلف كتبه لأنه تأثر ببقائه أو دراسته في فرنسا، فقد كانت لديه طاقة خلاقة، استطاعت أن تنبش ركام الحياة من حوله، وترسم الصور والجماليات، وتمكّن من أن يطرحها كفكرة.

صحافة الأمس واليوم
* ماذا عن الموضوعات التي كانت متداولة في صحافة ذلك الوقت، صحافة الأفراد والمشار إليها دائمًا بأنها صحافة حرة وقدمت الكثير من المواهب والأصوات؟ كيف كان الشأن في مجلة قريش للسباعي، والرائد لأبي مدين، والأضواء لباعشن، وكذلك اليمامة للشيخ حمد الجاسر؟

** نفس الحركة الديناميكية تكاد تكون متشابهة في مجمل المجلات والصحف في ذلك الوقت، فقد كانت صحافة محلية وفردية، وعنصر التشويق والإبداع فيها أنها صحافة خاصة لا تعتمد على الإعلان، بقدر ما كان يهمها اكتساب ثقة القراء، فهي لم تكن تهتم بالإعلانات وتنسى قيمة الطرح كما هو واقع الآن، فللأسف الصحافة الآن استثمارية وتجارية ولا يهمها أن تقدم المادة العلمية والثقافية كي تثري القارئ، بقدر ما تهمها الإعلانات.

* هل كانت تلك الصحف والمجلات تلبي حركة الوعي العام في المملكة، أم أنكم كنتم تتوسلون إلى أطراف أخرى، كالبحث في المجلات المصرية أو اللبنانية لتعميق الوعي العام في البلد؟

** إلى حدٍ ما، فمن الصعب أن أقول لك إن صحافتنا كانت محلية خالصة، فقد كان هناك تأثر وتأثير، وكان هناك كتّاب من مصر وسوريا ولبنان والمغرب والعراق يساهمون بكتاباتهم في مجلاتنا، مثل مجلة المنهل ومجلة العرب وغيرها.

* ماذا عن الصحافة العربية؛ ما هي المجلات والصحف التي كان يقرأها سعد البواردي وجيله؟

** مشكلة سعد البواردي أنه بليد لا يقرأ كثيرًا، وإن كنت أحتفظ بأعداد من مجلة الهلال، وفي الطائف كنت أقرأ المقتطف والرسالة، وكنت أقرأ كثيرًا من باب التسلية، وربما في معظم الأحيان كان غيري هو من يدفع قيمة المجلة، حيث كان يشتريها ليقرأها، وأنا آخذها بعده كي أقرأها.

قصة مقال
* حدثنا عن المقال الذي يبدو أن وراءه قصة؛ “ما هكذا يا سعد تورد الإبل”.

** تعرف أن العالم العربي في ذلك الوقت، كان كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، وكانت تحكمه الخصومات والعاطفة، والصحافة هي المنبر، وقد حدث بيننا وبين إخوتنا المصريين خلاف سياسي ما، وأصبحت الألسنة غلاظًا في كلامها وما تطرحه في الصحف، ورغم أنني لا أؤمن بالصراعات وأؤمن أكثر بالحكمة والنقاش، فكتبت كلمة وقلت إن هذا الصراخ أشبه بالهشيم الذي تأكله النار، وإن علينا أن نرجع إلى الحكمة والعقل والتفاهم، أخونا اللواء سعيد كردي كان رجلًا عظيمًا وكان في ذلك الوقت رئيس الاستخبارات، فرد عليّ في اليوم التالي في مجلة اليمامة، بمقال “ما هكذا يا سعد تورد الإبل”، وطبعًا كانت له رؤيته الخاصة.

* يُقال إن تعامله مع المثقفين وذوي الحراك الاجتماعي كان تعاملًا لبقًا، وحاول استيعابهم، فهل كان ما توّفر لسعيد كردي من وعي سببه أنه كان من أوائل من ذهبوا إلى نصرة الفلسطينيين في بدايات النكبة؟

** لا أعرف شيئًا عن ذهابه إلى فلسطين، ولكن أعرف أنه كان لديه اجتماع أسبوعي في منزله بالرياض والذي كان بالقرب من منزلي، وكان من بين جلسائه الشيخ حمد الجاسر ومحسن باروم وآخرون، وحضرت هذه اللقاءات أكثر من مرة، وعلى الرغم من بساطته إلا أن ثقافته كانت تجذبنا وتعجبنا، ومن المؤكد أن مساهمته وحضوره في حرب فلسطين قد أنشأت لديه عقيدة قتالية وانتماءً لأمته.

شعر لفلسطين
* لنختم هذا اللقاء بقصيدة عن فلسطين، فأنت قد تعاطفت مع القضية الفلسطينية وكتبت الكثير من شعرك حولها، فما الذي تتذكره من تلك الأشعار؟

** إن أرضًا حررتها يا صلاح الدين عادت لرقها من جديد
إن عرضًا حميته يستباح اليوم عن ذلةٍ ورجس يهود
السـواد الرهيـــب جلل تاريخي وأخنى على يدي بالقيود


* عنوان الحلقة على يوتيوب:
مقابلة سعد البواردي مع محمد رضا نصر الله في برنامج “هكذا تكلموا”.
* رابط الحلقة على يوتيوب: (هنا).



error: المحتوي محمي