بروا آباءكم يبركم أبناؤكم

بر الوالدين من الواجبات الملزمة على الأبناء تجاه آبائهم أحياء أم أمواتًا والتي أمرنا الله بها وشدد عليها وحببها إلينا، فحقهما عظيم ومكانتهما عالية وبرهما من أفضل القربات وهو من الأمور التي حض عليها ديننا الإسلامي والديانات السماوية والفطرة السوية وأكدتها نصوصها القاطعة الحاسمة، وهو من أهم المهمات وأوجب الواجبات، وسبب لدخول الجنان وزيادة الرزق وطول العمر في الحياة الدنيا وباب من أبواب تفريج الكربات، وإجابة الدعوات وانشراح الصدر وطيب الحياة، وهو من أسباب بر الأبناء وصلاحهم فقد قال رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله): “بروا آباءكم تبركم أبناؤكم” فقد قرن بر الأبناء بالآباء ببر الآباء من قبل أولادهم حيث قال الله في كتابه “بسم الله الرحمن الرحيم”، {وقضي رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء آية 23-24] فهذة الآية صريحة في أن من أرضى والديه، أرضى خالقه، ومن أسخط والديه، فقد أسخط ربه وقرن الإحسان بالوالدين بالعبادة حيث لا تكمل العبادة إلا ببرهما والإحسان إليهما.

فرحم الله والديّ اللذين أحسنا تربيتي وتربية إخواني وكذلك أقر وأعترف أننى لم أستطع تأدية برهما بالصورة التي ينبغي لي تأديتها بها في حياتهما وأعترف بأنني كنت مقصرًا كثيرًا في أداء واجباتي نحوهما بالرغم من محاولاتي ألا يكونا في حاجة في حياتهما كما أتمنى من الله العلي القدير أن يكونا راضيين عني عند رحيلهما لأنني أعتقد أني مهما بذلت من جهد فلن يفيهما القليل القليل من حقهما فلقد نشأت في عائلة مكافحة ومثابرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فقد كان والدي أكبر إخوته وكان يمتلك دكانًا في إحدى سكيك السوق المركزي للقطيف والذي كان يسمى آن ذاك بسوق الجبلة وكان يبيع البهارات والهيل والقهوة والحبال وكان معظم زبائنه من البدو الرحل الذين كإنو يعشون في الصحارى المحيطة بالقطيف والمنطقة وكان هو وجدي تربطهما علاقات برؤساء هذه القبائل وكان هناك تبادل زيارات من قبل الطرفين. كنت صغير في ذلك الوقت ولكن أتذكر أن جدي عليه وعلى أسلافه المغفرة والرحمة ترك إرثًا ثقيلًا على والدي فقد كان والدي يعول ما يقارب أربعة وعشرين نفرًا من إخوته وأخواته وزوجات أبيه وأولاده وبناته وكنا نعيش في منزل في منطقة باب الشمال يتكون من سبع غرف خمس منها للسكن واثنتان إحداهما مجلس للرجال والأخرى كانت غرفة لتخزين الطعام. وبالرغم من أننا كنا أحسن حالًا من الكثير من العوائل في ذلك الوقت ولكن كان العبء ثقيلًا على والدي بحكم أنه أكبر إخوانه وكان جدي كريمًا حيث صرف الكثير من ماله في الكرم حتى إنه في آخر حياته رهن جزءًا من البيت لأنه كان مديونا عند وفاته فتولى الوالد أداء دين والده وإعالة بقية العائلة فزوج كل إخوته وأخواته وأبنائه وأدى الأمانة الملقاة على عاتقه حتى توسد التراب فهنيئًا له ذلك التوفيق الإلهي وجزاه الله خير الجزاء وأما والدتي فكانت الساعد الأيمن لوالدي حيث إنها كانت تبيع المرطبات بأنواعها في المنزل وتصنع المثلجات وتبيعها فكانت تنفق بعضًا مما تدخره علينا وتنفق الجزء الآخر على مجالس العزاء حتى اّخر رمق من حياتها وتنفق بعض المال لشراء بعض حاجيات البيت وحاجياتنا ولم نشعر نحن الأولاد بالحاجة برغم صعوبة الحياة في ذلك الوقت فعشنا برغد مقارنة بغيرنا حتى كبرنا وتعلمنا و عملنا فجزاهما الله الفردوس الأعلى وحشرهما مع من يحبون آل بيت محمد عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. والعبرة من سرد هذه القصة أن من لديه والديه على قيد الحياة عليه أن يبرهما ويحسن إليهما فهم سر توفيقه وسعة رزقه في هذه الحياة فرفقًا رفقًا بهما مهما ضاقت بك السبل فبدعائهما تفتح أبواب السماء وبدعائهما تفتح الأبواب المغلقة وبدعائهما تفتح كل أبواب التوفيق.

فعن رفاعة بن إياس قال: “رأيت الحارث العكلي في جنازة أمه ـ يعني ـ يبكي، فقيل له: لماذا تبكي؟ قال: ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة؟ “. وقيل إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه واّله وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع فأحسن صحبتهما “، وتقديم الله بر الوالدين على الجهاد في سبيله رحمة منه وفضل، وليس هذا في الحقيقة إلا نوع من الجهاد، فهو جهاد الجسم في الخدمة، والنفس في الطاعة، والمال في الإنفاق، ولا يقوم بذلك إلا من أراد الله له الخير وكتبه من السعداء
وهناك آداب ينبغي لنا مراعاتها في حياتهما وبعد مماتهما، ويجدر بنا سلوكها مع الوالدين، لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما، كي نرضي ربنا، وتنشرح صدورنا، وتطيب حياتنا، وتسير أمورنا، ويبارك الله في أعمالنا ومن تلك الأعمال التي تستطيع أن تقوم بها لبر والديك في حياتهما على سبيل المثال لا الحصر:
• عدم العبوس في وجه والديك وعدم رفع الصوت ومخاطبتهما بكل لطف وحنان؛ قال الله تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

• عدم كثرة الجدال معهما وتخطئتهما مباشرة ولكن يوضح لهما الصواب إذا كانا مخطئين بلطف ولين وحسن أدب.

• إبداء الطاعة لهما في أي وقت وفي غير معصية الله “فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.

• استئذانهما في وقت نومهما وراحتهما وعدم إفشاء سرهما.

• عدم الإلحاح عليهما بالطلبات التي ترهقهما إما مالية بالنسبة للأب أو أعمال منزلية بالنسبة للأم.

• عدم إبداء التضجر منهما أو من كثرة طلباتهما ولو بكلمة “أف” بل يجب الخضوع لأمرهما وخفض الجناح لهما ومعاملتهما باللطف وعدم رفع الصوت عليهما والإنصات لحديثهما كما قال الباري عز وجل في كتابه {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء اّية 24].

• اختصاص الأم بمزيد من البر لحاجتها وعظم شأنها وتعبها في الولادة والحمل والرضاعة، والبر يكون بمعنى حسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة والصلة.

• عدم الكذب عليهما أو لومهما.

• رعايتهما ولاسيما عند الكبر وإدخال السرور عليهما وملازمتهما قدر الاستطاعة في حال المرض أو العجز.

• الإحسان إليهما في القول والعمل والأخذ والعطاء وتفضيلهما على النفس والزوجة والولد.

• الإنفاق عليهما عند الحاجة بل الأفضل إعطاؤهما قبل أن يسألاه، قال تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة اّية 215].

• عدم تناول الطعام قبلهما أو الدخول إلى المنزل أو الجلوس قبلهما أو المشي أمامهما، أو النوم أو الاستلقاء أمامهما.

• استئذانهما قبل السفر وإخبارهما وأخذ موافقتهما.

• أكرم صديقهما وأقرباءهما في حياتهما، وبعد مماتهما.
• تأدب مع الناس فمن سب الناس سبوه قال صلى الله عليه وآله وسلم: “من الكبائر شتم الرجل والديه. يسب أبًا الرجل فيسب أباه ويسب أمه”.

من تلك الأعمال التي تستطيع أن تقوم بعد موتهما:
• إنفاد وصيتهما.
• قضاء دينهما إذا كانا مديونين.
• الترحم والدعاء لهما
• تخصيص صدقات جارية باسمهما وكفالة اليتامى.
• بناء دور عبادة أو دور كفالة اليتامى ووهبها لهما.
• الصلاة لهما

فهذه بعض الأعمال التي تستطيع ان تبر والديك بها لا للحصر ولكن على سبيل المثال وللبيان فقط، وأختتم مقالي بقصة:
تحدث أحد الآباء أنه قبل خمسين عامًا حج مع والده بصحبته قافله على الجمال. وعندما تجاوز منطقة عفيف. وقبل الوصول إلى ظلم. رغب الوالد -أكرمكم الله- أن يقضي حاجته وقال لابنه: انطلق مع القافلة أنت، وسوف ألحق بكم. مضى الابن مع القافلة وبعد برهة من الزمن التفت الابن فوجد أن القافلة بعدت عن والده فعاد جاريًا على قدميه ليحمل والده على كتفه. فحين وصوله إليه حمله وانطلق يجري به. ويقول الابن: بينما أنا كذلك أحسست برطوبة تنزل على ظهري فإذا هي دموع والدي فقلت له: والله يا أبي إنك أخف علي من أي شيء فأجابني قائلًا: ليس هذا ما يبكيني بل تذكرت عندما كنت أحمل والدي قبل أعوام في هذا المكان!

إن الوالدين يشعران ببر الأبناء من خلال أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم فالولد البار هو الذي إذا أصبح ودخل على والديه ألقى السلام على والديه ويعرض عليهما قضاء مطالبهما، ويطلب منهما الدعاء له قبل خروجه فإذا عاد سأل عنهما أولاً ثم سلم واطمأن عليهما، ويحاول أن يعمل دائماً على راحتهما وإدخال السعادة عليهما ولو على حساب راحته، ولا يجلس وأبوه واقف أو أمه، ولا يركب سيارة أو دابة قبل أن يركبا، ولا يسير أمامهما، وإن غاب عنهما سأل عنهما، ولا يدخر جهداً في إرضائهما، فهذا هو الابن البار الذي يرضى عنه الله ويرضى عنه والداه فتراه إنسانًا موفقًا وسعيدًا تفتح له أبواب الرزق وأبواب التوفيق وكل الأبواب المغلقة بفضل بره بوالديه ويفتح الله له أبواب رحمته ومغفرته ويهيئ له الله أبناء بارين به ومن يقوم بخدمته عند هرمه وكبره فبروا آباءكم تبركم أبناؤكم.



error: المحتوي محمي