لم تكُن قنوات التواصل الاجتماعي مجرّد نافذة يتواصل من خلالها الأشخاص، يُفعّلون بها لغة التواصل، أو التلاقح الثقافي بمختلف مشارفه وألوانه، فقد اتخذ البعض من مُغرمي اليراع هذه القنوات ساحة يغرسون إبداعاتهم في ترابها، لتزهر وتنمو.
أبحر الشاعر عقيل بن ناجي المسكين في الكلم ليغزل الأبجدية بأسلوب البيت الواحد، ليُعيده إلى القصيدة العربية، بعد الابتعاد عنه، ليُعانق الضوء مُجددًا، في إصداره الـ26، والذي حمل عنوان “ديوان البيت الواحد”، من الحجم الوسط، والصادر عن دار أمل الجديدة بدمشق.
يذكر الشاعر المسكين أنه شق طريقه في عالم الكتابة بنصوصه الأولى التي كتبها بمادة التعبير في المرحلة الابتدائية، مبينًا أنه بعد ذلك أصبح يكتُب القصائد الشعرية، ولكنه يعتبرها قصائد غير موزونة، كالقصيدة التي كتبها على لسان تلك المرأة الكويتية، التي فقدت بعض أهلها وعائلتها في الغزو الصدامي للكويت، ثم بعد ذلك أتقن علم العروض في أواخر دراسة المقدمات، ومُنذ ذلك الوقت انطلق بكتابة الشعر العربي الموزون والمقفى، ليُصدر الكثير من المؤلفات، ليعُود من خلال البيت اليتيم، كأنه أراد أن يُخبرنا أنه لايزال الإبداع يتيمًا، وأن الأبجدية لاتزال، تُعاني من حرارة الشَّمس، لتهفو إلى ظلها.
روح العصر
يرى المسكين أن يراعه وفكره ينتميان إلى المدرسة الكلاسيكية في الحفاظ على الشكل العمُودي للقصيدة العربية، والالتزام بمعايير تكوين النَّص الشعري الفصيح من الالتزام بالنحو والصرف والبيان والبديع، والمعاني والعروض والقافية والإملاء، وفصاحة النّطق في الأداء.
وبيَّن أنه من أنصار الكلاسيكية الجديدة، التي نظّر لها في بعض كُتبه الناقد الكبير الراحل الدكتور عبد القادر القط، -رحمه الله-، وهو أن يتطور الشكل الكلاسيكي العمُودي إلى روح العصر وموازاته للثقافة التنويرية الحقيقية وليست المُزيفة.
وتحدث عن كتاباته وقال: “أنا من أنصار الأدب المُلتزم بكل القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية، التي هي جزء لا يتجزأ من الفضيلة الإسلامية والرُشد القُرآني والوعي الديني، وتحمّل المسؤولية تجاه الذات والآخر”.
بيت يتيم
يأتي الشاعر المسكين من نافذة الارتجال والمعنى، ومن خلال قناة التواصل الاجتماعي “تويتر”، وتحت وسم “بيت يتيم”، ليُسافر بالقارئ إلى ألوان مُختلفة من الفكرة، ليُراقص المعنى بكل اتجاه، يُغازل بالمُفردة الأدبية الدقائق، ليُسكبها في المعنى الغض الذي جاء في أكثر من 500 بيت ارتجالي، يُعيدنا من خلالها إلى روعة القصيدة العربية، فصاحتها وأناقتها، مُستعينًا بحداثيَّة المعنى، والحبكة الدرامية، التي يتمتع بها.
وتنوعت الأبيات الشعرية في الديوان، لتُبحر في أكثرها المعاني، كأنها البوح، الذي يُترجم الفكر، ويستفيق على نغم الذات، وترتيب عشوائية الأبجدية، ليأخذ المسكين القارئ عبر هذه الأبيات اليتيمة، ليُشعره بأنه أمام مرآة، تُحيك الأبجدية، بكونها حالة جمعية، يبعده عن الوحدة، كأنه الأنامل، تمسح على وجنتيّ يتيم الدّفء، والفكر، ليقرأ الأحرف، ويُرددها بذاته قبل شفتيه، لتصغي إلى اللحن، كسيمفونية، تُعانق الخلجات، ليُصفف يتيم الأبجدية رمشيه، كرغوة الروح، فوق رعشة الأمنيات، كالدهشة، ما بين اللحظة الشعرية، والبوح، والإصغاء.
يعيش الشاعر في البيت اليتيم، حالة السلام الداخلي، عطفًا على الحياة، ليُسطرها حروفًا، تُغذي القارئ بكل ما من شأنه، أن يجعله في وفاق، مع ذاته، مع الأفكار من حوله، مع الشخُوص، والزمكانية، وفي بوحه لمسات جنون، وفي بوحه، يقرأ الأشياء بعُمق، ليكون ولوجه فيها، كالإسفنجة، يعتصرها، ليلمس قطرات الماء بين أصابعه، يُصيغها شعرًا، لتجده ما أتقن الإصغاء إلى لغة الطبيعة، والأشياء، إذا ما أتقن لغة الصمت، ليحفرها في ذاكرة الإنسان، لغة، لا تشبه اللغات، لتكون لغته الخاصة، وإن يُصدق القول، لأمثالي، أقول: “بين دفتي البيت اليتيم، حالة شعرية مُتفردة، وسلاسة في اللغة، تنساب من خلالها المعاني العذاب”.
وعن السر الكامن في قصيدة البيت الواحد، واختياره وسم “بيت يتيم”، يُجيب المسكين: “إن انشغالي الكثير بالعمل الحر، وإدارة أعمال مؤسستي الصغيرة في السوق، بالتعامل مع بعض الشركات في بقيق والجبيل والظهران، جعلني في السنوات الأخيرة من 2018 حتى 2021م أكثف أشعاري في بيت أو بيتين أو 7 أبيات، وفي بعض الأحيان في أكثر من ذلك”.
وبيَّن أنه بسبب كثرة مشاغله اضطر إلى الاختصار والتكثيف حتى لا تُقتل الموهبة أو تندثر إلى حيث لا رجوع، وهذا ما لا يُريده لهذه الموهبة، لذلك بدأ بالارتجالات السريعة، مُعتقدًا أنه وفّق في الكثير من هذه الأبيات الشعرية، التي ناهزت الـ500 بيت، لافتًا إلى أن أكثرها تمت كتابتُها في تويتر ارتجالاً.
واستطرد: “ثم إنني وجدت بعض الإهمال من شعراء المنطقة في الكتابة بهذا اللون الشعري، وبالذات عندما أراهم يغرقون في كتابة القصيدة المُتوسطة الحجم والطويلة، ولا أجد لدى أكثرهم لون الرباعيات أو الأحاديات، إلا القليل منهم”.
يقُول عن بيته اليتيم، والذي بين دفتيّ قرطاسه، اتخذ منزله: “إن ديوان البيت الواحد، هو مُحاولة تكثيف الصورة الشعرية في سطر واحد، وهو بيت شعري خليلي الوزن والقافية، ولا يدعي أنه الوحيد من كتب في هذا اللون الأدبي، لأن البيت اليتيم له مكانته في التراث العربي مُنذ القدم، وحتى عصرنا الحاضر، ويسمون البيت المدهش في القصيدة «بيت القصيد»”.
وتابع: “ويمكن أن يذهب مثل سائر أو حكمة متداولة بين الناس عبر العُصور، والتاريخ يشهد بذلك، فالمُجتمعات العربية تتناقل الكثير من الأبيات المنتزعة من قصائد طويلة، أو قصيرة لدهشتها، ولما تحمله هذه الأبيات من الأفكار الجليلة والمُفارقات الطريفة، كالكثير من أبيات المُتنبي، وأبي تمام، وأبي العلاء المعري، والجواهري، وأحمد شوقي، ونزار قباني، والأخطل الصغير، وميخائيل نعيمة، وحسن القرشي، وغازي القصيبي، وعمر أبي ريشة، والشيخ عبد الحميد الخُطي، والسيد عدنان العوامي، والشيخ عبد الكريم الحُمود، وجاسم الصحيح”.
وقال: “كُلهم لديهم أبيات شعرية، تستحق أن تكون كـ”بيت القصيد”، أو “البيت اليتيم”، أو “البيت الواحد”، لفرادته وقوة ما فيه من المعنى والصورة الشعرية المكثفة، وإصداري هو من هذا القبيل، كونه يأتي كمُحاولة قمت بكتابتها على سبيل الارتجال في تويتر، ثم جمعت أكثر من 500 بيت في هذا الديوان على سبيل التوثيق وعدم ضياعها”.
ما وراء الكلم
وعلى غرار القصة والرواية الأدبية، ثمة شُخوص تسكن ذائقة الشاعر، ليُسكنها الفعل الدرامي لما تخُطُّه يداه، أكانت ظاهرة، كلوحة فنية لها ملامحها، وتفاصيلها، وتجاعيدها، أم نضارتها، أم جاءت ضمنية، تتحرك في داخلها، تشعر بها، ويُبصرها البارع في اكتشاف ما وراء الكلم.
وعن الفعل الدرامي للشخصيات، أجاءت واقعية أم من نسج الخيال؟ أفاد المسكين بأن أكثر الأبيات، التي قصد بها شخوصًاً مُعينين، هم نماذج من المُجتمع الواقعي، وليسوا من نسج الخيال على الإطلاق، لافتًا إلى أنه في بعض الأبيات الغزلية، وليس كُلها، هُناك بعض الشُخوص من نسج الخيال، أو من نسج خيال بعض الكُتّاب الآخرين في رواياتهم، التي من الأساس كُتبت من نسج خيالهم، وربما بعضهم كتبها من نسج خياله، إلا أن بعض شخصيات رواياته انتزعها من الواقع أيضًا.
نبضات توهج
وأشار إلى أن المُقومات التي ينبغي توفرها في الشاعر؛ ليكون شاعرًا مُتميزًا، تأتي بأن ينزع نفسه من ذوات الآخرين ولا يتلبَّسها، لأن ذلك من المُعيب في المشروع الشّعري، مُبينًا أنه يُمكن للشاعر أن يتلبَّس ذوات الآخرين إذا كان يهدف إلى كتابة الشّعر المسرحي، لأنه لابد أن يندمج مع الشُخوص، ويشعر بما تشعر به، ويحس بما تحس به.
وأكَّد أن الشاعر الحقيقي، هو الذي ينطلق من ذاته، ويتغنى بمشاعره هو لا بمشاعر الآخرين البعيدين عنه، داعيًا الشاعر بأن يعكس روحه للآخرين ويقول ها أنذا..، وليس عليه أن يقول ها هم أنا، أو ها أنا هم، مُفيدًا بأن ذلك غير منطقي على الإطلاق، لذا عليه أن يتغنى ببصمة روحه هو.
وذكر أن الشاعر الحقيقي أو الإنسان – كما يقول روبندرونات طاغور-: “لا يُقاس فكر إنسانٍ بقدر ما لديْه من ثقافَة، ولكن بما لديه من رُوح”.
وفي ذات الضّفة، لم يُهمل المسكين، العروج في ماهية النص، فقال: “أما التميُّز في النص الشعري، فهو أن يكون النص مُدهشاُ إلى حدّ أن يتوقف عنده المُتلقي ليس مرة واحدة فقط، بل مرات ومرات”، متابعًا: “وهُنا المُعادلة الصعبة، لأن الشاعر عليه أن يُوظف البلاغة العربية بكُلّ مُقوماتها، القديمة والحديثة، وعليه أن يطّلع على ما يُسمّى بالبلاغة الجديدة، بل عليه أن يستفيد من بُنود البلاغة التعبيرية في النص الأدبي من المدارس الأدبية الأخرى غير العربية، كالمدرسة الفارسية، والمدرسة الهندية، والمدارس الأوروبية في توهّج النص الأدبي عندهم من أي جنس من أجناسه، وبذلك يتكوّن لديه الجسد الخاص ببلاغته الأدبية المُنطلقة من نبضات قلبه وتوهجات روحه”.
مُعترك التضاد
وعن خبايا اللغة وصياغتها، تطور البوح الذاتي والثقافي، وتعددت المشارب، واللغة الكلاسيكية، بعيدًا عن تطعيمها بالبلاغة، كأسلوب كتابي، وماهية مُساهمته في رقي الذائقة، وغُربتها، يُعتق المسكين شُرفاتها تعتيقًا، ليعصر على أصابعنا وملامحنا ليمونة باحتواء كأس، تُشاغبه قطع من الثّلج، فتدخل في عراك، مع حرارة الجو ورطوبته.
ونصح قائلًا: “على الشاعر أن يُمارس دوره كشاعر من أي مدرسة شعرية، كلاسيكية أو رومانتيكية أو سريالية، وهذا حق طبيعي له، ولا غُبار على ذلك، ولكن على الشاعر أن يبذل قُصارى جهده لإنتاج شعر مُدهش فيه من الجِدّة ما فيه”.
وعبر عن رأيه بقوله: “لو كتب بعض الشعر الكلاسيكي العادي، فهذا مُعيب ولكننا لا نستطيع أن نسلب من كتبه حق نشره، فهو من بنات أفكاره ومن اجتهاداته على أي حال، وعلى المُتلقي، الذي يبحث عمّا يُعجبه أن يذهب إلى الأشعار الجميلة المُدهشة في تجربة الشاعر وعليه أن يقرأ فيها، ويترك الباقي للآخرين، فالقُرّاء ليسوا على مستوى واحد، ولا أعتقد أن الشعر الكلاسيكي يضر بذائقة الآخرين، ولكن على المُتلقي العادي أن يستشير في قراءة النُصوص الشعرية، ليُساعده على الاختيار والفهم الإجمالي للمدارس التذوقية في قراءة النَّص الشعري، وبذلك يرتفع الذَّوق العام بجُهد القارئ من جهة، وبجهد الناقد الخبير من جهة أخرى”.
وعرج بحديثه على النقد، موضحًا أن النَّقد الأدبي في العُقود الماضية في القطيف لم يكن كثيرًا أو بالمستوى المطلوب ولكّنه في السنوات الأخيرة حتى هذا العام فقد ظهر هناك من يكتب في النقد أمثال الأديب الناقد مُحمد الحُميدي، مضيفًا أن هُناك أشخاص آخرون ولكنه لا يستحضر الأسماء في ذهنه، وقال: “أنا من المُعجبين بالأسلوب الكتابي للحُميدي -حفظه الله-، وهو أديب وناقد له مستقبل زاهر في مجاله هذا، وأنا بكُلّ صراحة، ككاتب وشاعر أستفيد من نقد النُّقّاد، حتى أطوّر كتابتي في مجال المقالة والبحث الأدبي، وكذلك في تطوير شعري وخواطري على السّواء”.
وأشار إلى أن وجود النَّاقد الأدبي على أي حال مطلوب؛ لتطوير قراءة النُصوص الأدبية من القراءة الاعتيادية إلى القراءة التحليلية، التي تُركز على الجماليات، وترفع من ذائقة القُرّاء، مؤكّدًا أن النَّاقد، هو المُبدع الثاني للنص -كما يقول بعض النّقاد-.
ووصف المسكين الشللية الثقافية والأدبية بالداء الذي ينخر جسد الإبداع، مُبينًا أن سلبياتُها كبيرة جدًا على الثقافة والأدب، لأن الشلليين يُقربون الأقرباء منهم ويُبعدون الآخرين.
وأكَّد أنَّ هذا أشدّ أنواع التجني على المُخالفين معنا في الرأي أو المدرسة الثقافية أو الأدبية، مُنوهًا بأنه من المُفترض احترام جميع المدارس الأخرى المنافسة لها أو المُختلفة معها في المنهج والأساليب.
وشدد على احترام القيم والمبادئ، واحترام السلوك الأخلاقي، والالتزام به على مستوى النظرية والتطبيق مع الجميع، وليس مع من ينضم في القروب أو الشّلة أو النادي أو المُنتدى، مبينًا أن المجتمع البشري كُله يحتمل أن يتعامل معه بكل المبادئ والقيم على السواء، والأخلاق الإنسانية، تحتمل كُلَّ الكُرة الأرضية، وليس حارتي فقط.
لنبني جيلًا
واختتم المسكين حديثه بكلمة لها أبعاد إنسانية، هامسًا في ذات القارئ: “كُلي أمل أن يتقبلني القارئ بما أنا عليه، وليس كما يُريد هو، فأنا أحقق ذاتي لا أحقق ذاته، وكل كاتب مسؤول عن كلمته، وإنما ينشرها ليطّلع عليها الآخرون لعلهم يجدون فيها ما يُحرّك فيهم شيئًاً من الإنسانية ومشاعر الرقيّ والاحترام المُتبادل والتكاتف اللامُباشر أو المُباشر، لرفد العقل الجمعي لإجراء التغيير إلى الأحسن دائمًاً، مصداقًا لقوله تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}”.
ووجه حديثه إلى عُشاق الكتابة، حيث يقُول: لنُواصل القراءة والكتابة هذا بالنسبة للذين يُمارسون الكتابة جنبًا إلى جنب مع القراءة، أما الذين لا يكتبون، فإني أنصحهم بكثرة القراءة حتى يصلوا إلى مرحلة اليقين النّهائي ليس على سبيل كنز المعلومات في صندوق الدّماغ فحسب، بل على سبيل التحصيل الثقافي والفكري والمعرفي، لتغيير الذات والحياة إلى الأفضل دائمًاً”.
وأردف: “نحن كمجتمع بشري، نستحق الأفضل دائمًاً، ولسنا من سقط المتاع في رحلة هذا الكون من بدايته إلى أن تطوى الأكوان، كطيَّ السجل، لذا علينا أن نقرأ ونكتب، لنبني لنا ولجيلنا الحالي، وأجيالنا القادمة عالمًاً جديدًا ومُتجددًا بشكل مُستمر وأفضل”.
وفي النهاية لفت إلى أن الشعر يُمثل إحدى الأدوات الثقافية، التي تُساعدنا على القراءة، مع أي نص أدبي آخر، كالرواية والقصة والقصة القصيرة جدًا، والنثر الفني والمسرحية والمقالة والدراسة، والبحث والمقامة، وأي نص أدبي آخر يكون له اعتباره ومقومات كينونته”.