وداعاً ابنة عمي زهراء

تنفس الصبح والهواء أكسجين حزن، طائفة من رسائل أنباء الرحيل، زهراء شلي في ذمة الله، يا الله بنت عمي ترحل عنا، ما هذا الخبر الموجع، ما هذا النبأ المؤلم.

تتوالى الاتصالات، وتنطلق الاستفسارات المعهودة؛ كيف ومتى، تساؤلات حيرة، والأسى عصرة قلب.

السمع ثقيل، والاستيعاب تيه، تلعثم لسان، والكلمات ثقال، تتزاحم عبارات المواساة من لفيف الأهل والأقارب والأصدقاء، إخوة يرسلون التعزيات، نفوس مؤمنة بقضاء الله وقدره، تخفف وقع المصاب.

نبرات أصوات أنين، تتناهى عبر الأثير، بنت عمي الجميلة خُلقاً وخَلقاً تغادرنا على حين غفلة!

ما أقساك أيها الموت حين تقصف الأعمار وتأخذها بغتة وتترك في نياط القلب أحزاناً وأحزاناً.

يا ابنة عمي عبد علي.. أكان الموت يلوح لك قرباً بعد أن خفتت نضارة وجهك حزناً على رحيل أختك خديجة قبل ستة أشهر، والمعروفة عند جميع أفراد عائلة شلي باسم سلوى، هل فقدتِ طعم الحياة وهي تغادر عتبات دارك في تلك الليلة الموشحة بذكريات الصبا والمجللة بالضحكات.

اجتمعتن على مائدة العشاء مع بناتك الملتفات حول خالتهن الكبرى وعند الباب وضعت ابنتك وجدان دهن العود على كف خالتها سلوى، تبسمت وقالت: “يا بنت أختي هذه الريحة تبقى في اليد لمدة ثلاثة أيام”، كانت ليلة معطرة بآمال معلقة ترتسم بزغاريد الأفراح، لكن أسفر صبح بعد ثلاثة أيام بهلاهل النحيب! تلاشى العطر من راحة الكف وكأنه قرأ ما يضمره القدر، توقف نبض العروق عن مصافحة الحياة.

شمعة سلوى انطفأت، دون مرض أو وجع، ما أقسى هكذا رحيل الذي يأتي فجأة دون استئذان، نفوس تغادر الحياة بصمت! وتظل القلوب مكلومة.

يا زهراء ذهبت أختك إلى بارئها وأودعتك الحزن مثقالاً، فنال منكِ الفقد والمرض أيام وليال، ستة أشهر ونيف تتقلبين بين الأوجاع والآهات على سرر المستشفيات، حتى مللتِ من رائحة المغذيات، وغدا الجسم نحيل، وبريق عينيك في خفوت، تعودين للبيت وتستردين مقدار عافية.

يا بنت عمي زهراء، كم أسمعتيني كلمات “الله يعطيك العافية يا ولد عمي”، و”قواك الله”، و”سلمت يمناك”، وتتباهين أمام معلماتك والطالبات “هذه الوسيلة رسمها لي ولد عمي عبد العظيم”، وسائل كانت تفرحك، وتبهجك مثل بقية القريبات من أهلنا، وسائل وقطايف مخملية زينت غرف المنازل والفصول.

سنين مرت وحينما نلتقي صدفة مع بناتك أو زوجك محسن حجيلان صديق الصبا وزميل الدراسة، تقولين لي أمامهم “ولد عمي باجيب لك كرتونة وارسمها، يا الله بعجل ترى معلمتي تبغاها بسرعة”.

ما ظننت أن عمرك يا زهراء سوف ينقضي بعجل، لماذا استعجلتِ الرحيل يا بنت عمي، وأي إحساس انتاب أخاكِ عبد الحميد ليلة البارحة مع أخي عبد الحي في رحاب مجلس آل سيف بالديرة، الذي قال له “شكلك حزين يا ابن عمي”، يا الله يا أبو أحمد أقرأ المولد وانسى الكدر، رد بتقطيب جبين “ليس لي خاطر ولا أعرف ما هو السبب”، إجابة مكبوتة “غداً ذكرى رحيل الوالدة”! المصادف ذكرى يوم مولد الإمام.

انفض المجلس بالتبريكات لكن الحزن مرسوم على وجهك يا محمود لماذا؟ أي استقراء يخبئه القدر وكأن رسل المنية تحوم بالقرب من الأحباب.

يا بنت عمي حملتك ذات مرة من عند صابات حسينيتنا العريقة وأنتِ ابنة أربع سنوات لأرجعك للبيت، تبكين على كتفي وترددي صراخاً “أبغى أروح إلى أبوي السوق”، قلت لكِ “يا حلوة، الشمس حامية باوديك للماما”.

ظهر هذا اليوم حملتك أيدي المشيعين إلى مثواكِ الأخير، أتيتِ يا زهراء إلى أبيك، لتقولي له: “جيتك يا أبوي، جيتك من بعيد، صار لي سنين ما شفتك”، هاقد أتيتِ وجاورتيه لحداً، لتؤنسي وحشة الوالدين وسلوى.

حين اقترب المشيعون من القبر، صاحت إحدى النسوة وصدى صوتها يتردد بين جنبات المقبرة “الله الله على زهرة نزلوها اشوي اشوي، لا تروعوها”، وقبل أن يهال عليك التراب، نعاكِ حزناً ابن أختك صراط الشكر “إذا مات الفتى المعزوز ياهي تصير زلزاله، ناس للقبر تحفر وناس تجيب شياله، ما غير الشهيد حسين داسه الشمر بنعاله”، بكاء يبرد الخدود من لهيب الشمس، ونحيب يطرق أبواب الدور الأبدية.

قدرك يا بنت عمي ترحلين يوم رحيل والدتك أم عبد الخالق، أبلغيها منا السلام.

عند أذان الظهر كل قرأ الفاتحة على قبرك الرطب المبلل بالماء والدموع.

خرجت من المقبرة أقود سيارتي وتوقفت فجأة وكأني أسمع صوتك يناديني ” بكرة ولد عمي خلص لي الرسمة”.

تعالي يا زهرة بثوب المدرسة، تعالي ارسم لكِ ما طاب لكِ من وسائل، بالأمس تفننت بخط اسمك نقشاً ولوناً، واليوم أخط اسمك نعياً”.

إلهي ارحم غربة بناتك وأولادك وزوجك الأخ العزيز ابو أحمد حجيلان.

رحمك الله يا زهرة يا بنت عمي رحمة واسعة، وحشرك الله مع أم الحسنين الزهراء عليها السلام.

وإنا لله وإنا اليه راجعون.



error: المحتوي محمي