
كان والدي – رحمه الله – والكثير من أبناء زمانه – بحَّارًا يصطاد في البحر القريب قبل أن تأتي الأسماك وصيَّادوها من خارج المنطقة، في كلِّ ليلةٍ أو يوم كان الصيد فيها متاحًا للصَّائدين، يشد الهمَّة ويمتطي عدَّة الشغل ويتجه شرقًا نحو بحر سنابس.
أبغض أنواع الرِّياح التي كرهها والدي ريح الشَّمال التي تهب في قوّةِ واندفاع هذه الرّيح التي نحن فيها. وذلك لأنها تقتلع آماله في الصَّيد حين تقتلع في قوَّتها ونشاطها جريدَ النَّخل المصفوف في شكل هندسيّ يسمِّيه “الحضرة” جريدةً بعد جريدة. ثم نراه يعود في اليَّوم التالي بعد سكون الريح ليبنيها كما كانت ويشد الهمَّة والعزمَ مرة أخرى على أن يصطاد ما تقسمه له السَّماء من رزق!
استذكاري روح والدي ليس جزمًا بفضيلة جيلٍ على جيل، أو إبداع جيل أكثر من جيل، بل لاستحضار فكرة أن الله لا يرزق الكسلان النَّائم، إلا كما يرزقه الموتَ المحتَّم، وبهذا يسقط في سحيقِ الفقرِ الإرادي المتعمَّد. كيف لا؟ وهو الله الذي جعل لنا الأرضَ ذلولا نمشي في مناكبها ونأكل من رزقه. فينبغي لنا ألا نلقي تبعات كسلنا وإهمالنا وتقَاعسنا على مفهوم أن الله حدَّد الرِّزق لكلِّ إنسان قامَ أو قعد، بل عطاء الرازق يساوي ما يبذله الفردُ منّا من جهدٍ وعناء وكدّ وتعب. وإن في بعض الأحيان أتت النتائج بعكس ذلك، حتى لا ننسى أنَّ للكون خالقًا مسببًا للأسبَاب ومدبِّرًا لشؤونِ هذا العالم.
جيل أبينا – أنا وأنت – كان جيلًا جديدًا بعد أبيه، ونحن جيلٌ جديد لآبائنا، وهكذا هي الحياة، مهما تغيرت أدواتها وطرقها فلا يجوز أن تتغير أهدافها في العيشِ الكريم والتطلع نحو غدٍ أكثر طموحًا ورغبةً في شرف العمل.