الضفة الأخرى 3

وبينما عبير، تستذكر دُروسها على أنغام المُوسيقى الكلاسيكية، هاتفتها صديقتها سوسن: مرحبًا عبير، كيفُك؟

مرحبًا سوسن، الحمد لله بخير، كيف حالك؟

الحمد لله، نسأل عنك، بالأمس في اجتماع المُنتدى الثقافي، جميع الأخوات، كُلهن يسألن عنك.

تنفست الصُعداء، وأطرقت برأسها باتجاه يراعها، ارتعاشة أصابعها، تُصغي لها بُرهة من الوقت، لتهمس في أذنيَّ سوسن، التي تهفو للإصغاء إلى كلماتها بين الفينة والأخرى، تُداعبُها.

في حضرة الجمال، تستفيق الدَّهشة بلا سبب مُقنع، وفي كُلّ الأشياء، نغرس أرواحنا فيها، لتغدو جميلة دافئة الجمال، وسط أنثى لا يُبان من سواد ما ترتديه سوى عينيها، وملامح وجنتيها في احمرار، يُلهب المكان بنُعومة مُحياها، وما تُخفيه تفاصيلها، يا سوسن.

كم أشتاق نُصوصك يا عبير، أتنفس من خلالها الحياة، ودفء المشاعر، تجعلني أبحر في اللاشيء، كأنه كُلَّ الأشياء، متى تأتي الإجازة الصيفية، لتكُوني معنا، نقتطع اللغة تحت أنفاس العشق، ونُطرزها بين خطوات الظل.

لم يبق على الاختبارات النهائية سوى بضع أسابيع، لا تتعدى الثلاثة، وسنكُون معًا، ونعود لأنشطتنا الثقافية والأدبية، كم اشتقت لكم يا سوسن.

اتفقتا أن تلتقيا في الإجازة الأسبوعية في إحدى مقاهي القطيف.

في مساء الجُمعة، التقتا في مقهى زهرة البنفسج، المُمتد ما بين الحديقة الغناء والطُرقات، التي تُعانقُها الزهور، كلوحة جمالية، سعت البلدية إلى تفعليها، والوصُول بهذه المسافات، لحالة بصرية جمالية، إضافة إلى وجُود اللوحات التشكيلية الجمالية، المُتفرقة هُنا وهُناك، وعند الكُورنيشات بكُل زواياها، حفاظُا على البيئة الجمالية، وتفعيلها.

رحّبت سوسن، التي سبقت عبير بالحُضور إلى المقهى، بصديقتها، التي لم ترها مُنذ أسابيع.

ومع عناق جميل، استغرق لحظات، لم تشعر به كلتاهُما، إلا أن العناق، كأنه دهرًا من الشوق، ينتظر التدفُق.

جلستا على الطاولة، ابتسمت عبير مُتوردة وجنتيها.

كعادتك يا سوسن، لقد وضعت الزهور الطبيعة، كخصر أنثى، تُراقص نغمات قصيدة غزلية.

ضحكت سوسن.

نعم، لم أتغير يا عبير، لقد تعلمت منك أن نخلق لدقائق يومنا ما يُسعدنا، ما يمنحُنا الجمال، أن نكون في داخلنا، نعيش الجمال، لنشعر به، ونلمسُه.

ألا تذكرين البيت الشّعري الذي نسجه شاعر المهجر إيليا أبو ماضي، ودائمًا تترنمين به، وتهمسين في آذاننا، وهو:

أيُّها الشّاكي وما بك داء .. كُن جميلُا تر الوجُود جميلا

وضعت يدها فوق يد عبير، وضغطت عليها برفق.

كعادتك، تُريدين قهوة فرنسية.

ابتسمت، وهي تُحرك رأسها بالمُوافقة.

مُحسن، يتأمل ضوء النُجوم عبر نافذة حُجرته، هائم في التَّفكر، يجُول بخاطره في كُلّ الأشياء، يسترجع كلمات أمه عن زواجه، والحياة الأخرى، وما لها من عُذوبة ومسؤولية، تُعطي الرجل الإحساس بكينُونته.

ثمة شيء داخله لا يعرف تفسيره، أيكُون عشقًا، أهذا الذي يُسمى العشق؟! أتكون أمه قد ألقت في واحة ذاته حجرًا، لتقوم المياه بالتحرك.

يُحدث نفسه:

أتُراها تكون هي، أم أنها مُجرد خاطرة، كمرآة، أراها تُصفف شعرها باتساع عُمق عينيها في عُمقها؟

إيه يا مُحمد، أحيانًا نحتفظ بآهاتنا، لعلَّ أنّات القلب نُسمعُها الدقائق، إنه البُؤس، هو ما يُخلف القهر، والالتزام بالصمت، وعدم المُبادرة.

إيه يا صديقي، أن تتألم في مقابل المعشُوقة، معناه أن تعشقها بصمت، وتُداعب خُصلات شعرها بصمت، وتتلمس ظلها بصمت، أليست كُلُّ الشخصيات في الكتابة القصصية فيها شيء من كاتبها؟!

هاتفُه النقال صوتُه، يخترق أذنيه، إنها أمه، يبد أنها ستُحدثه عن فاتن بنت أختها.

تلعثم مُحسن، واحمرت ملامحه، ليُجيبها:

حسنًا، يا أمي، بُضع دقائق، وأكُون بين يديك.



error: المحتوي محمي