
إلى أبِي الراحِل من زيفِ هذهِ الدُنيا، وبهجتها التِي ما كانت تُسعدُهُ في شيء، ولا بريقها الخاطِف كان يُغري قلبهُ المليء بالإيمانْ:
هكذَا تعجَّل الوقت وتسارعت النبضَات، تهفو نحَو يُتمٍ متخفٍ في طيّات يومِ السَبت، زعِمَ الفؤادُ ألا يصدق، وتكابدت العينَ عناء الساعةُ التاسِعة صباحًا.
لم يكُن يُشبهُ شيئًا، ولا شيء من هذهِ الحياة يُشبهُه، لا أقولُ ما أقولُ غلطا، بل كَان واحدًا مُتفردًا بصفاتهِ التي تملأ زوايا بيتنا الصغير بهجَة، وهيبة في آنٍ واحد.
إذا تحدثتُ عن شخصهِ فكأنما أراهُ ماثلاً متجليًا أمام عينيّ وبصيرتيّ، يرمقُني بعينيهِ الصغيرتين الثاقبتين.
مُذ فتحتُ عينيّ كوني ابنةُ أبي المُلتصقة بهِ حدّ القُرب الأقرب، أرتشفُ من معينهِ الواسع وعلمهِ المُمتد في كل المجالات، أحيانًا كنتُ لا أُصدق نفسي القول بأنّ أبي لم يُكمل مراحل التعليم الدراسية، فثقافتهُ كانت تتسّعُ لكلِ استفهام.
جَال بنا أبي نحوَ كل المراقدْ المقدّسة، وطافَ بنا على كل وسائل المواصلات بدءًا بالطائرة وانتهاءً بالباخِرة، كانت ترُن في أذنِي عذوبة الكلمة من فِيه، يناديني بـ(مزمار العُش) تارَة، وأخرى بـ(تغاريد ولائية) وهذا ما استقر عليه إلى نهاية يومهِ الأخير، وإغماضةُ عيني بعد عينهِ عن كُل نورٍ يمتدُ به.
كان أبي طيب السريرَة، حسُن المعاشَرة، يمتلكُ الكاريزما التي قلّ نظيرُها، عذب اللسان، حُلو المنطق، واسع المعرفَة، وعاشقًا للحكمة كما لقّب نفسه.
في لحظةٍ ما، وعِند اقتِراب الأجَل، قال لي بأنهُ بخير وسيُحلقُ في فضاءِ عالمنا قريبًا، وهكذا أتممتُ حديثيّ معه.
فَلتغفِرَ ليَّ:
أبي: وكم أشتاقُ لرائحتِكَ المليئة بعبقِ الماضي، ودفء حضورِك الذيّ يأسرني، أحُن لحنانِكَ بي، وخطوطُ الشيب الذي ثبَّت الوسامَة فيكَ تثبيتًا.
تركتَ خلفكَ قلوبًا أنهكها بُعدُ الجسدْ، وزادت بداخلها قواعِد الإيمان، فلتغفِر ليّ تقصيريّ في حضرةِ الكلمة، فهي بين مدٍ وجيع، وجزرٍ يتيمْ.
نمْ هانئًا، نمْ ساكنًا، نمْ واثقًا برحمةِ الله التيّ تشملُ عبدهُ المُؤمِن، لكَ النعيمُ ولنا بعدَك الدُنيا بمُرها السقيمْ، سأتلُو عليكَ الحُبّ كلما أشرقت على عالمُنا شمسْ، وكُلما جنَّ ليلٌ سأذكُر فيه تلاوتِك وسِحر مُناجاتِك، سأُعلقُكَ درعًا يُفتخر بهِ كلما واجهتُ صعوبات الحياة، لأنّك في عينيّ الأقوَى والأقدر على كُلِ معضلةٍ يُوجهها لي القدرْ.
أُحبُكَ دائمًا، وأفتخرُ بكِ سالفًا وحاضرًا.
من أعياها نَزفُ الجُرحِ وثقُل المُصاب
ابنتُك وحاملةُ اسمِكَ الكبير: