الضفة الأخرى 2

بعد وفاة مُحمد ضاقت الدُنيا على مُحسن، ودخل حالة من الانعزال الكُلي في كُلّ لحظاته، لا يبرح يستشعر في مُحمد رفيق دربه، وتوأم رُوحه طيفًا، يلج في كلماته ومواقفه، وصاياه.

لم ينقطع عن زيارة قبره برُغم مُرور ثلاثة أعوام على فراقه.

هذا اليوم الجُمعة، للتو قاد سيارته مُتوجهًا إلى المقبرة، شغُوفًا إلى مُناجاة الحبيب.

تُعانق قدماه تُراب المقبرة، الآن، دقات قلبه تتسارع في نبضاته، ارتعاشة أصابعه الحُبلى بالآهات، كأنها تُلامس طيفه، لاحتضانه.

وضع يديه على التُراب، قرأ بعض الآيات، عيناه تذرُفان الدُّموع، تُواسيها حُمرة وجنتيه.

رحمك الله، يا حبيب قلبي، ورفيق دربي، إن فراقك صعب استيعابه، في غيابك القلب لا راحة فيه، فكيف له من راحة، ونبضاتُك لا تحتويه، ليلمسها.

مرَّ على فراقك ثلاثة أعوام، قبل أن آتي إليك، أخبرتني أمي بأنها تُريد أن تخطب لي امرأة، تكون لي الزوجة البدر، التي تُخرجني من صومعة الذات، لأنطلق إلى الحياة مُجددًا، وأخيطُها أحلامي، تُريد أن تفرح بي، وتحتضن أولادي – هذا ما قالته لي قبل أن آتي إليك – أن يشع الضوء في زوايا هذا المنزل الكئيب، وهذا القلب، أراني يا صديقي لست مُستعدًا للقيام بهذه الخطوة.

لم أقل لك، إن أسرتك بخير، بالأمس كُنت في منزلكم، جلست مع والدتك، كُلهُنَّ على أحسن ما يُرام، والدتك وأخواتُك.

لكُلّ منَّا روايته، المُتمثلة في حياته، أحداثُها لا تنتهي، إلا بعد أن يُودع دُنياه، سيذكرُه البعض، والبعض الآخر، سيسدل عليها رداء الحلقة الأخيرة، لتنتهي.

أراد مُحسن أن يُوثق حياته من خلال الأبجدية، بدأها في قصة عن مُحمد استهل بها إصداره الأول، ومع استمراره بالكتابة، والقراءة أولًا، لم تستطع العُزلة أن تعزله عن الكتاب والقرطاس، عن يراعه المغروس في ذاته، يُحدث نفسه كلما أراد أن يكتب.

لما لا تنطلق الأبجدية بين أصابعي، إلا والقلب مُوجع، والدَّمع، يتدفق في داخلي، كلهيب عاشق، عشقه الصمت، فاحتواه الصمت، كعشيقته الخرساء، لا يُشبعها الغرام إلا في عينيه، ومبسمه.

في المساء، جلس على مكتبه، أزاح بعض الأوراق، أعاد ترتيب كُتبه، وبدأ يخُط أحرُفه على ضوء من الأصفر خفيف، يخترق الظُلمة.

سأحكي، يا صديقي أحرُفي، أتعلم كيف اجتاحت أنثاي دُنياي، لأكون في زئبقية الألم مرة أخرى، والفراق مرات، يأكُل فيَّ الوقت، وأرتشف فيه الشوق.

لم تأتِ، إنها ظل واقف في الاتجاه الأيمن من أصابعه، يتأمل ضوء الشمس، يقرأ ما تُخبئه حُبيبات التُّراب، التي طالما، يُرشفها الماء العذب، ليشتد عُودها، لا يزال يتأملها بقلبه، يعتصره الألم، لم تأن في خُلده، إلا أن فُصول روايته، ستقف في المُنتصف طريقًا، كلماتُه نفذ وميضها، تجاربُه وأفكاره، خيالاته..، غفا ذات لحظة ما.

يا صديقي، ها أنا قررت سرد أحداثها في القرطاس.

يا صديقي، إن القرطاس في حقيقته، يجمع شتات أفكارنا، الملاذ لكل أوجاعنا، وأمنياتنا، هل تذكر يا صديقي ذات لحظة من الوعي، عندما همست في أذنيَّ، وأنت تُرج عن شفتيك الابتسامة، التي تُبهج الخاطر:

مُحسن دائمًا، كُن قارئًا قبل أن تكتب، اصبر على مُنجزك، دع الوقت، يأخذ مجراه، حين تسكُنك الفكرة، اجعلها تُبحر، وكُن ظلها.

مُحسن، إن الحياة في مُجملها دراما، أحداث درامية، تختزل جميع الألوان، استوائية حينًا، وأحيان أخرى في اعوجاج، لتكُن للاستواء راغبًا، وإلى الإحساس بذاتك وشخصيتك مُتصالحًا، ونهمًا.

جالسة على الأريكة، تُتابع مُشاهدة الأمسية الأدبية، التي جاءت بعنوان: النقد في عالم القصة القصيرة.

أختها فاتن، الضَّحُوكة دائمًا، شخصيتُها طُفولية، تغمز بعينيها إلى أختها ولاء، لتنظر إلى عبير، وبينما هما تنظُران لها، وتضحكان بصمت، التفتت عبير لهما، فاحمرت وجنتيها، وبادلتها الابتسامة.

عبير الأخت الكُبرى، لصديقه مُحمد، ذات العشرين عامًا، وفاتن وولاء التُوأم والأصغر منها بأربعة أعوام.

تدرس عبير في الجامعة تخصص اللغة العربية، تتمتع عبير بقوام مُتناسق، كل من يُبصرها، يُحدق مليًا في عينيها، ليجد أن ما بين انحدار رمشيها، وحدة نظراتها، ثمة جمالية، كأنها تتراقص في اعتناق السراب على ضفة الواقع، كأن الغشاوة، تنتابُك، فلا تستطيع إتقان تحديد ما تراه، حتى أنها ذات يوم، عندما وضعت قدميها على الأرض، بعد نزولها من السيارة، التي تُوصلها إلى المنزل، عائدة من الجامعة، رمقها أحدهم، وهي تُدير طرفها إليه، لتقع عينيها في عينيه، فأغمض عينيه، كأنه ابتعد عن الوعي في قشعريرة، فليس إلا لحظة من الغيم باتساع عينيه، مُنذ هذه اللحظة، لم تستطع عبير، أن تنسى ملامحه.



error: المحتوي محمي