تْعرف الفِطرة بأنَّها طبيعة الخِلقَة البِكر للإنسان عند وِلادَتِه؛ قبل أن يشوبها أمر شَائبة مَهينة جَلِية أو ثعكِّر صَفو نقائها عَائبة أخلاقية مَعِيبة أو تشِينها رَذيلة مُزرية دَنية؛ ليُصبح أثرها مَرضًا رَابضًا، ماثلًا للعِيان ويُمسي نَبتُ شَطئها الواهن الآسِن ناتِئًا كرأس شَيطان، طوال سِني حياة الفرد؛ ليُمنى مُجافِيها ونَابذِها ومُنكرها ببؤس التعاسة، ويبوء بشتى أنواع الخِذلان. أما البِدعَة الوَضيعة المَخذولة في مخدعها الواهِن فهي حُلة بالية مُبتذلة؛ قد يَراها المائل عن جَادة الحق ويْبصِرها الغافل عن مَنبع الاستقامة ويُمجدها الساعي وراء رِزم المغالطات الفكرية المشوشة، حُلة قَشيبة، أو مُمارسات مُتمدِّنة، يَرى في عُقر سُوحها الاعتدال والاستقامة؛ ويَشعر في أحضانها بالانتماء والهداية؛ وقد استأنس مَأتاها؛ واتبع نَهجها، واستحسن مَشربها، أبًا عن جدٍ؛ ‘ليزهو’ زيفًا وعِماية، في بَوتقة إفلاس غَفلته الشاطحة ويتمادى، صُدودًا وعُزوفًا في الاستمرار المتشدد في غَيَّه الساحب، وسط عَتَمة ديجوره المُسترسلة، بحماقة وطيشٍ.
هذا، ولا يَرى الفرد العاقل المُنصف في أفق البدعة المُمارسة الظاهرة، بدليل فطرته النضِرة، وسْمو فكره الثاقب، في يباس عَرْصتها اليباب، بَريقًا من مَعدن لامَع؛ ولا يُبصر، في ذُبول أفقها المقفِر قَبسًا من نورٍ سَاطع، تلك الحُلة الرثة المرذُولة في أعماق جَوف أسمالها البالية المُهملة، لا يَكاد ينفك -زاعِقها وناعِقها- الوَثني المُلحِد عن دَيمومة ارتداء أسمالها الرثَّة، قُبولًا وتَسليمًا، حتى أثر الثمالة، وإلى يوم يبعثون!
وهنا يُبصِّرنا الحديث الشريف، ويُسلط ضَوءًا سَاطعًا على أصل الفطرة العطِرة: “كلُ مَولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه، أو يُنصرانه، أو يْمجسانه”، ولعل صِنفًا واحدًا من البِدعة العارِمة، في مَنبتها المُموه المُبتدع، ‘تُفبرِك’ وتُعمِّق القول “بتناسِخ الأرواح”؛ وتنال هذه الأطروحة المُلفقة بأطياف وَثائقها ‘الفيدية’ الخديج، وعظيم خَطيئتها السَّقط، زخمًا وافرًا من القَدَاسة المتداولة، عند جُموع مُعتنقي وأتباع المُمارسات الهندوسية، وسط زخم متراكم من الأساطير والملاحم، والهياكل ‘البراهمية’ الفلسفية؛ وتزاحم المِصداقية، والإسراف ‘التفسيري’ المُمل الزائف، كما في أدبيات مُعتقداتهم الممسوخَة، حيث إنَّ الأجساد تُبلى، أمَّا الأرواح، فتلِج في أجساد أخرى؛ لاعتقادهم ‘الإِثني’ الفلسفي المُتوارث، بأن ‘تناسخ الأرواح’ يجلب المزيد من هِبات الروحانية، ويَمنح فيضًا من السكون والراحة، ويهيئ زخمًا من مُعطيات السعادة الواعدة، بحياة إنسانية أفضل وأسمى وأنعم على أديم هذا الكوكب الزاهر؛ وبعدها يتم إتلاف الجسد بالحرق والتصلية، بعد الوفاة؛ وإلقاء رُفاتِه ورَمادِه في مياه النهر؛ وكأن المْتوفَّى قد ارتكب ذنبًا جسيمًا، لا يغتفر!
والأدهى مِمَّا تقدم ذِكره من الممارسات التعسفية في نهج الهندوسية البراهمية أن يقف الممارس ‘الروحي’ الهندوسي، واثقًا مُنتصبًا، مَوقف الناقد، والمُهاجِم لديانات سَماوية سَامِيَة، ويكيل لها الصاع صَاعين؛ جريًا وراء الاعتقاد السائد: إن مَبدأ الإنقاذ البشري أمر نابع من رَحِم الطبيعة الأم، تسيطر عليها بحِدة الأضراس، وإطباق النواجِذ، وتنظّم أمورها فيالق متسلسلة ‘متأنقة’ مِن مَنظومة الآلهة الوثنية المتعددة ‘المباركة’ المنصَّبة والمشمولة بنظام التحكم بمهام “الضبط والربط” لحماية واستمرار ممارسة مَنظومة الطقوس الهندوسية الوثنية؛ وتسيير حِزَم الخُرافات المُتشابكة والمُتنوعة، وتمكِين ألأجيال القادمة من العض عليها بالنواجذ، والتمسك بأهدابها، داخل مِظلة الميثولوجيا الهندوسية العتيقة المُتردية، الأم، الضاربة بجُذورها في عمق التاريخ البشري؛ وكأنها ضَرب مِن حِكايات “ألف ليلةٍ وليلة” التي لا يقبلها عَقل رَاجح، ولا يَستسيغها مَنطق سَليم؛ والتي لا تجرؤ -بقضها وقضيضها- على الجُلوس الثابت المُزاحم في طرف قريب من طاولة الصفاء الروحاني النصوح؛ والمُثول الصامد أمام مِنضدة الاعتراف الذاتي المُمجَّد بمملكة خالق هذا الكون الأمْجَد، بما تحويه مِن آيات كونية عُظمى، وما تكتنفه من مَخلوقات ربانية شَتى؛ لا يعلم أسرار كُنهها أو يسبِر حَقيقة أمرِها أو يدرك أصل مَاهيتها سِوى خّالق الخلق ومُدبر الأمر وفَالق الإِصباح ومُكوِّر الليل على النهار!
وهنالك تبرز مَوجات عارمة من الشدِّ والجذب وتتجدد أمور حَازمة من الصدِّ والرفض، على أشُدِّها، وتستنفِر بشدة وَطأتها حِينئذٍ عن بَكرة أبيها وتتوقَّد ألسنة لَهبها، بقُوة إدراكها النابِض، وشِدة نبذِها الماحِق، في قَلب وفِكر المؤمن المُتيقِّن بوجود الله، جلت قدرته، وتباركت بالشكر والثناء عَظمته الراسخة في مَكنون مَلكوت علمه، والكامِنة، عِزة وكرامة، قدرتة المُقتدرة في كَمال استواء سُموه وتمام جبروته وشمول سُؤدده بستخير وتدبير أمور مَخلوقاته بفائق تَجليات علِمه الأزلي، وعظيم مَلكات حِلمه النافذة، من فوق سِدرَة عرشه وظِلال عَدله وتفضله المُنعِم الدائم بالهبات الواهبة الجمَّة، واختصاصه المُغدِق الغامر بالعطايا الربانية العُظمى المشمولة بطَلِبات المغفرة، والمُجَابة بشآبيب الرحمة والمكفولة بالوعود المتحققة الصادقة -بإذنه تعالى- التي لا تُضَاهَى، ولا تُحَاكَى، والمخصوصة تَفضلًا وتَحننًا، بإسباغ الصفح الجميل، وقبول التوبة النصُوح؛ والمشفوعة بمرحمة التكرم الرباني المُسدى بسائر المِنح الوفيرة، والآيات الإلهية الجمَّة التي لا تُنكر، ولا تُمارى؛ مُعلَنّة بسرمدية الظهور الحسي الجاثم، في رِحَاب نظام كَوني زماني مْتقن وجَاهرة خيراتها المنعَّمَة بالمثول المكاني المُمَهد بمسارات دقيقة مَوقوتة وأفلاك سَابحة مُسيَّرة، مَحمولة بمدارات غيبية مُغيبة، ومَحسوبة بمسابر ومعايير ربانية مّحددة!
ولعلي هنا، أصِف بعض مَظاهر الفطرة البِكر بالروحانية الذاتية؛ وأتوِّجها بسَماحة التعارف والتآلف الاجتماعي، وأشرِّفها باحتضان العِشرة الصالحة، وأُبارك صَنيعَها السامي باحترام الجيرة الحّسَنة، وإسداء واجبات المعاملة الطيبة، قلبًا وقالبًا، على بُسط المحبة المتآخية في الله؛ وأُلصِق مَعطياتها بأخلاقيات التكافل، وأبارك لها بمحَاسن التضامن وأثني عليها مُجددًا بمُعطيات الألفة وأغبطها مَرارًا بمد جُسور حُسن الجِوار وأجِلها تَكرارًا بأبجديات مفهوم الأمة الواحدة، في فَساحة كنف الدين الإسلامي العظيم، الذي تسمو تعاليمه التكليفية العبادية، بالحَث الحثيث على جُمعَة التآخي، وأصرة التعاون، ورابطة التآزر، ونفرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكلُ مَواكب تلك الخِلال، وأترابها المُثلى الجليلة، وزُمَر المناقب الإنسانية الحَميدة، وما شابهها، وما شاكلها، من خِصال مَاجدة، ومَحَامد مَجيدة؛ تقود إلى سَعادة الإنسان، صَلاحًا وفَلاحًا وإصلاحًا، في دُنياه الفانية؛ وتُدّخَر له رصيدًا مْجزيًا في أُخراه الباقية، فلا سَبيل لإنكارها، ولا مَجال لانتحال ما سِواها، أو المَيل والعُدول إلى غيرها! هذا، وقد أكَّدت الآية الكريمة صِدق ذلك الطرح العقائدي الراشد: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسلَام}.
وفي عُلو مََلكوت ذلك المَد المنهجي الزاخر القويم بأمور العبادة، والمُفضِي ريعه العميم المْثاب، بتوجهات الإخلاص، والتقرب إلى كّنَف الله تعالى، وطلب واسع رَحمته، واستجداء كريم مَغفرته، والتسليم لأمره، والدخول المُستسلم الآمن إلى فسيح جَناته، بالتمسك بمبادئ الدين الإسلامي القويم؛ وأداء الواجبات التكليفية العبادية الحكيمة، من مُنطلقات رَحبة، من القبول الطوعي، والتسليم الإيماني الذاتيين؛ وتطبيق وإنفاد مَناقب السمو الأخلاقي الأمثل في سَلة حُسن التعامل الراقي الأمثل مع الٱخرين، وصِيانة حُقوقهم، واحترام إنسانية الإنسان المبجل، أولًا وأخيرًا، الذي كَرَّمَه وشرَّفه ربُه بكريم الإسداء المُستحَق، أنىَّ حّلَّ، وأينما ارتحَل.. {وَمَنْ يَبتَغِ غَيرَ الإسْلَامِ دِيْنًا فلن يُقبَلّ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الخّاسِرِين}.