أنا فعلت

أنا فعلت هي لغة تحسنها نسبة قد لا تكون قليلة من أفراد المجتمعات الإنسانية، وهي لغة أولئك الذين لهم أعين بصيرة على من حولهم وينتظرون بشوق كبير الكثير من كلمات الثناء والتقدير على ما يظنونها إنجازات ونقاطًا تستحق الإشادة، هكذا أظن أن المرحوم الحاج عباس الشماسي لا يعرف هذه اللغة ولا يحسنها تمامًا؛ ففي حين تمتلئ سيرته الذاتية بأعمال الخير والعطاء فإنه وبحسب معرفتي الشخصية به لم يحاول منح من حوله شيئًا من (دروس التقوية) في حفظ مآثره وأعماله، ولو فعل لعُلمتْ تلك الخليقة بوضوح كما أحسن زهير ابن أبي سلمى القول:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة … وإن خالها تخفى على الناس تعلم

أعني شخصيًا بكلمة (روح العطاء): السعي لخدمة الناس وقضاء حوائجهم وبغض النظر عن النتيجة، أمي العودة كانت تدرك هذه القاعدة الإدارية وتقرأ على مسمعي باستمرار الجملة: اسع يا عبدي وأنا الرزاق، يعني أن السعي أمر مطلوب وبغض النظر عن النتيجة في هذا السياق تتبادر لذهني تلك القصص المتداولة حول سعي المرحوم الحاج عباس في قضاء حوائج الناس غير متأفف ولا متأوهٍ من أحد، في حين تستحق نسبة من أفراد المجتمع جائزة نوبل بكل جدارة في بديهيتها وقدرتها على اختلاق الذرائع والمسوغات لعدم مساعدة طالب حاجة أو إغاثة ملهوف تمتلئ سيرته الذاتية بشهادات ربما لا تختلف كثيرًا عن ما يمتلكه آينشتاين وستيفن هوكين.

بعد مرارة يوم عمل شاق كنت مشتاقًا لنوم هادئ سعيد أحلم من خلاله بـ(موڤي جيد) ينسيني ولو لبرهة القضايا العمالية المتناثرة على مكتبي، إلا أن خطًا أسود مائلًا رأيته على صورة الحاج عباس قد صدمني صدمة كافية للنهوض بي من هذا الاستعداد للنوم، هكذا شعرت بغصة وذهول أفقداني رشدي، قبل أن تتوالى مقاطع النعي الكثيرة في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي والكل صغير وكبير رجل وامرأة ومن شتى توجهات المجتمع وميولاته الفكرية ينعون الراحل الكبير، كل ذلك لم يكن بالتأكيد إلا لأنهم أجمعوا على سمو أخلاقه وعظم وخطر الفاجعة، بقيت صامتًا واجمًا لا أعرف ما أفعل، قبل أن أسترجع، ثم أستصغر هذه الدنيا الفانية القصيرة التي تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها، فرحمه الله رحمة الأبرار وخلف على فاقديه أحسن الخلف وحشره مع من يحب ويتولى وألهمنا جميعًا الصبر والسلوان بهذا المصاب الجلل، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.



error: المحتوي محمي