يمتاز أي مجتمع بمجموعة من العادات والتقاليد وتلك هي التي تحدد هويته، وتعطيه تلك الصبغة الخاصة التي يصطبغ بها، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز أو تجاهل تلك الأمور التي توجه الأفراد في العديد من أنماط الحياة المعاشة لهذا المحتمع.
لذلك بات الانفتاح المعلوماتي والاحتكاك البشري بالثقافات الأخرى من خلال عدة طرق كالسفر والإعلام المفتوح وسرعة الحصول على المعلومات والسوشيال ميديا وأبوابها المشرعة على مصراعيها والمفتوحة للجميع، ووضعت قيمنا وثوابتنا على المحك. وهنا نحن مخيرون بين أمرين؛ إما الاندماج مع الآخر والتخلي عن الهوية في كثير من القيم والسلوكيات أو المحافظة والتمسك بهويتنا المستمدة من شريعتنا الإسلامية السمحاء.
أما عن ما نعيشه اليوم فنلاحظ أن هناك تراجعًا سلبيًا في عدة مسارات حتى وصل بنا الحال كما جاء في الحديث الشريف عن رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر». لذا أصبحنا نعيش وقائع جديدة في جوهرها وابتعدنا عن القيم والثوابت وبالتالي اندمجنا في ثقافات وأخلاقيات لا تمت لطبيعتنا وعاداتنا وتقاليدنا وموروثاتنا التي ورثناها من الآباء والأجداد بصلة والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها للتوضيح لا للحصر: ما نراه اليوم بأم أعيننا من مظاهر مخلة بالذوق العام وخصوصًا في أماكن واضحة للعيان من سلوكيات منافية للياقة والأدب وعدم الاحتشام في الملبس والمظهر العام من ذكور وإناث، وتبنّي أفكار ما أنزل الله بها من سلطان كالتقليد المظلم مثل: قصات الشعر، ووضع الوشم على الأيدي وأمور أخرى يستطيع القارئ العزيز استنتاجها فيما نرمي إليه إضافة للانجرار نحو هاوية لا يعلمها إلا الخالق (جل في علاه).
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل مطلوب منا الانسلاخ من هويتنا والانخراط في التطور الحضاري العالمي ولو كان ذلك على حساب ضياع الكثير من الأسس والثوابت التي قامت عليها مجتمعاتنا؟ إن الانفتاح على الشعوب الأخرى ليس محرمًا لاشك ولكن هدفه الاستفادة منها بما يتفق والمنطق مع التغيير للأفضل وكذلك المحافظة على القيم والأخلاق والحرص على أن تكون علاقتنا مع الآخر علاقات تبادلية مبنية على الأخذ والعطاء والاحترام وليس الأخذ منهم فقط، وإنما يجب أن نعطي ونبرز شخصيتنا وإمكانياتنا بعزم ويقين راسخ حيث إن لدينا قيمًا ومبادئ سامية لا توجد في حضارات أخرى مع أهمية إظهار الانضباط السلوكي.
وساهم الانفتاح على الآخر في ترسيخ العديد من القيم الإنسانية كالتعايش والتسامح وقبول الآخر، إلا أن سلوكيات البعض – وليس الجميع بطبيعة الحال – ممن هم دعاة الإنسلاخ ومحاربي الأعراف الأخلاقية؛ شوهوا هذا المفهوم ومن ثم حل واقع «الانفلات» محل كلمة الانفتاح ذلك واقع فرضته الثورة الرقمية التي انصهرنا داخلها لا شعوريًا فأصبحت هي السيد ونحن التابع ، وهذا خطأ مع الأسف الشديد، وتناسينا أننا من نسل حضارة أضاءت للعالم سنوات مديدة بانفتاحها واستيعابها الثقافات الأخرى فأسهمت في البناء المعرفي لبني البشر فكانت هي المحرك ولم تكن يومًا تابعًا فأفادت واستفادت وكانت عامل بناء قام عليها العالم بأكمله فلا عجب أن يشعر الآخرون بالامتنان لهذه الحضارة والتراث الإسلامي العظيم، إلا أن البعض في وقتنا الحاضر – وهم قلة قليلة لاشك – سولت لهم أنفسهم بل تجرؤوا بعتبارها لا تتماشى مع التطور التكنولوجي الجديد بل بات البعض يعتبرها حجرًا عثرة أمام تطورهم وانفتاحهم وحان الوقت للتخلي عنها وهدمها بشكل تام.
وهؤلاء يجب تذكيرهم أن الله تعال بعث رسوله محمّداً (ص) خاتماً للنبيين وجعل رسالته عالمية باقية حتى قيام الساعة. وأتم الله نعمته فأنزل القرآن الكريم ؛ ليكون روح هذا الدّين ولسانه الناطق. وكان من الضروري أن يكون هذا الكتاب المقدس ثريًا بالخصائص الإعجازية التي تجعله جديرًا بالبقاء والخلود ومؤهلًا لخطاب البشر كافة على اختلاف أجناسهم.
إنه كتاب صالح لكل زمان ومكان قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف الآية 158].
ولكن ما نعيشه اليوم من غياب المثقفين والمفكرين والتربويين والدعاة الواعين عن الساحة المعرفية بجميع ميادينها؛ ولّد فجوة وغياب التواصل بينهم والأجيال الجديدة مما أفقدنا التوازن الذي تحتاجه مجتمعاتنا من لغة حوار مشتركة هادئة لتجنب الانزلاق المحفوف بالمخاطر من جهة وتمكين الفرد على التكيف المناسب مع التطور والتغيير الذي يغزو محيطنا بشكل مخيف ومتسارع، والتعامل بوعي محكم لحركة التثقيف المتبادل من جهة أخرى. لكن مع غياب القدرة على الفكر المتوازن وعدم وجود منابع نستزيد منها المعرفة وتزودهم بالأفكار السديدة، وذلك بسبب العزوف عن القراءة والمطالعة والبحث وعدم الاهتمام بتغذية عقول الناشئة من أجيالنا الصاعدة بما يتناسب والتحديات المعاصرة ليصلوا مرحلة التحصين الأخلاقي والتمكين المعرفي، لذا أنتج ذلك فراغًا كبيرًا وضياعًا وفوضى شكلت انزلاقًا وانعطافًا عنيفًا وغياب الوسطية في كل شيء.
أما البعد الثقافي لهذا الانفتاح فمن أخطر أبعاده تلاشي القيم السامية لأبنائنا وإحلال محلها معارف للبلاد الغربية؛ الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على الهوية والموروث المحلي والذي من خلاله فقد السواد الأعظم من أمتنا ثوابتها وأصالتها؛ مما وضع أبناءنا من شباب وفتيات أمام تحديات المحافظة على كينونتنا الثقافية والإسلامية وتحديدًا أين يقف فيها الثابت عن المتحول. وكل ما نحتاجه اليوم للتطور مع الحفاظ على خصوصيتنا الإسلامية الأصيلة وتحديد هويتنا وفهم ما هي طبيعتنا ومعرفة ميولنا وماذا نريد منها ومن خلالها وهل نستطيع تحقيق ما نطمح إليه. بل في واقع الحال لا إشكال في الميل والأخذ بالتطور الحالي من تكنولوجيا وما أمكن من ذلك سبيلًا بجميع فروعها والاستفادة منها قدر المستطاع سواء على المستوى الطبي والتقني والاقتصادي أو حتى في المجال الفني الثقافي.
إذًا فالتعامل مع الفكر المعرفي الوارد لنا من الخارج هذا بحد ذاته أمر مباح لا غبار ولا خلاف فيه إن كان لخدمة وتطوير ونمو العقل البشري. والأخذ بالأسباب ومراعاة الضوابط الإسلامية والأخلاقية وأن نتمسك بكل ما هو رباني لأنه الطريق الأمثل والأسلم وهو الوسيلة التي من خلالها ترتكز الأقدام وتكبر العقول ونكون بمعزل عن كل ما هو مخالف لتعاليم الخالق جلت قدرته. وهذا لا يتحقق إلا بالعمل الدؤوب والسعي والمثابرة وحشد الهمم وتشييد العقول فإن شيدت العقول ارتقى الوطن حتمًا وسنصل بعدها ذروة العلياء وتحقيق المراد ومحو الظلام وبزوغ فجر الآمال.