عالق في الزمان

المجموعة القصصية “سوابيط مظلمة”، للقاص موسى الثنيان، الصادرة عن دار الانتشار العربي 2021م، تقدم اتجاهين؛ الأول يتمثل في استدعاء المكان وكائناته الحميمة؛ كالطيور والأزهار، والسوابيط، والبحر، والأحراش، والبلدة القديمة “القلعة”، أما الثاني فيتمثل في توقف القص، عند لحظة فارقة، جسّدتها شخصياته المتخيلة.

ما بين الاتجاهين، يسير الثنيان في مجموعته، ويفاجئ القارئ بدمج القضايا المصيرية؛ مثل قضية الحرية، حيث يربط بينها وبين استبدال “فزاعة” بأخرى، أو مثل قضية العبودية (تم تحرير العبيد عام 1962 بأمر من جلالة المغفور له الملك فيصل)، واتصالها بالعاطفة التي يبديها العم “راشد” تجاه “فيروز”.

للوهلة الأولى، قد يبدو أن ثمة فارقًا بين الحدثين، لكن براعة القاص وسرده المتوالي يكشف عن العلاقة بينهما، الأمر الذي يعمّق دهشة القارئ، حين يشاهد التفاصيل غير المنسجمة، والتي لا اتفاق بينها، تتفاعل ضمن إطار جامع؛ هو إطار الحكاية، التي يرويها.

استدعاء المكان، يحدث في أكثر من قصة، ففي “سوابيط مظلمة”، تبرز القرية، كما تبرز الطيور بأنواعها؛ “الصقرقع”، و”الشّولة”، و”الحمّامي”، وأخيراً “العقعق”، الذي تطلب “رباب” ابنة راشد، من “فيروز” اصطياده؛ لكونها سمعت عن جماله، فيتجه فوراً إلى الأحراش، ويقوم بنصب الفخاخ؛ في محاولة للإمساك به، ومن ثم تقديمه إلى ابنة مالكه السابق (قبل تحريره من العبودية)، وفي الأثناء؛ يتخيل علاقة حب، تنشأ بينه، وبينها.

في قصة “فزَّاعة”، يتواصل استدعاء المكان؛ حيث يحضر الحقل، والفلاح، والأطفال، والطيور، فتتخيل الفزاعة حواراً يدور بينها وبين ما سبق، يبرز توقها للحرية، ورغبتها في المغادرة، والتحرر، كما تأمل في استبدال ثيابها المهترئة، بأخرى جديدة.

أما قصة “سمكة البدحة”، فيتم استدعاء المنزل؛ بوصفه أصل الآلام ومنبعها، فهو مصنوع من الصفيح، تسكن عائلة داخله، مكوّنة من زوجين، وابنتهما، إضافة للجدّة المسنة، وفيما يخص ثلاجتهم، فهي فارغة؛ إلا من القليل، وحين يبدي الزوج رغبته في أكل السمك، عند عودته من العمل، تبادر الزوجة بإخراج السمكة الوحيدة لديهم، لكنها تنشغل؛ فتختفي السمكة، وعندها تصاب بالذعر.

قصة “حرية نورس”، تقدم أبعاداً أخرى للمكان، فأحداثها تدور داخل “سوق الخميس”؛ ذلك السوق الشعبي القديم، ففي جزء منه يعرض الباعة بضائعهم من الطيور، التي أمسكوا بها، ويمثل “النورس” هنا عصب الحكاية، حيث يشتريه البطل بمبلغ “ثلاثين ريالاً”، ثم يكتشف أن البائع؛ مارس تجاهه الغش، والخداع.

يستمر حضور المكان، في بقية القصص، حيث يتم التركيز على الطيور؛ كما في قصص “طائر الشّولة” و”شاهين…”، أو على المخلوقات الأسطورية؛ كما في قصة “دعيدع”، وهو مخلوق متخيل، يرتبط بالمكان، ويؤثث الذاكرة، منذ الطفولة، والهدف من الإتيان به؛ التحذير من المخاطر، التي تعتري الحياة، وخصوصًا أوقات الظلام، وعدم القدرة على الرؤية.

القصة الأخيرة “أغنية الربيع”؛ تحكي لحظة زمنية فارقة، داخل البيئة المحلية، تتعلق بحدث “كسر القدو” أو “خروج صفر ودخول ربيع”، وهي عادة متوارثة منذ القدم، وتتقاطع مع احتفالات تقام في بلدان أخرى، مثلما في أعياد “شم النسيم” مصر، أو “النيروز” العراق.

التحول من المكان إلى الزمان، يؤشر إلى أن القراءة السابقة للقصص؛ لا تستقيم، حين نأخذ جانب المكان وحده؛ إذ ينبغي أن يؤخذ الزمان بالاعتبار أيضاً، ولعل اللافت في القصة الأخيرة؛ ابتداؤها بالكاميرا، التي توثق اللحظة، وتبقيها حبيسة الذاكرة، فهدف البطل ليس تصوير المكان، وإنما لحظة “كسر القدو”؛ أي سيرورة الحدث، وتحولاته، وانتقالاته، لكن الفشل يلاحقه، إلى أن يكتفي بتصوير قطع الفخار المتناثرة.

الانتقال والتحول يسم أبطال القصص ويعطيهم أبعادهم الفعلية، ففيروز في “سوابيط مظلمة”؛ ينتهي حبه بالفشل، إذ تتزوج “رباب”، وتنتقل لبيت زوجها، ثم تتعمق المفارقة؛ حين يصطاد “العقعق”، بعد زواجها، لكنه سرعان ما يعاود إطلاقه؛ لشعوره بأن لا جدوى من إبقائه، بينما يظل هو حبيس لحظته، وحبيس ذكرياته.

تشكِّل نهاية قصة “فزاعة”؛ حالة أخرى من حالات المفارقة، إذ تم كسر رجلها، وإلقاؤها داخل مخزن مليء بالغبار، حيث ظلت محتفظة بلحظتها الزمنية، التي لا تتغير، وهو ما يختلف قليلًا عن نهاية قصة “سمكة البدحة”؛ التي تنكشف حقيقة اختفائها، فالبنت الصغيرة أخذتها للنبع وتركتها هناك؛ معتقدة أنها ستهبها جوهرة ثمينة، تجعلها وعائلتها من الأثرياء، لكن القدر تدخل، وأنقذ الموقف حين جاء الأب وهو يحمل كيساً من الخيش، احتوى على أسماك طازجة؛ هدية من صديق، أما في قصة “حرية نورس”؛ فالنهاية تأتي بإطلاق سراحه، بعد أن نقر يد الشخص الذي اشتراه، وكأنه يعاقبه على فعل لم يقم به.

يستثمر القاص المكان؛ لينثر حكاياته، ويضيف إليها المفارقة الساخرة، التي لا تخلو من مرارة، ولكنه في المقابل، لا يهمل الزمان، حيث يختار لحظة مفصلية؛ تتمثل في خروج الصيف، ودخول الربيع؛ لتعميق تلك المفارقة من ناحية، ولتنفتح الحكايات على مزيد من التأويلات المتشابكة، عبر استعادة الذكريات المتوقفة، والمحبوسة بداخل لحظتها، من ناحية أخرى، وهو ما وثّقته الكاميرا واحتفظت به.



error: المحتوي محمي